- في كل عام ينطلق مسير الأربعين الحسيني من كل انحاء العراق والعالم نحو كربلاء لتجديد العهد مع سيد الشهداء (ع) واخيه ابي الفضل العباس (ع) بمواصلة الدرب والمسيرة والثبات على ذلك النهج الثائر . وهذه المسيرة الحسينية الكبرى كانت هدفاً للطغاة في محاربتها والوقوف ضدها ولم نر على مر الدهور طاغيةً حارب تلك المسيرة الحسينية كما حاربها حزب المجرم صدام فلقد امتزج تاريخ العراق بجرائم حزب هذا الحاكم الطاغية وعدائه للدين والحوزة العلمية والشعائر الحسينية وأحكام القرآن الكريم، فبعد تسلّطه على حكم الشعب العراقي المسلم بدأ بفرض القيود والمصاعب والرقابة المشدّدة، وعامل زائري سيد الشهداء (ع) ومقيمي العزاء عليه بأبشع الصور اللاإنسانية، إلا أن الناس سعوا في حفظ شعائر عاشوراء وخاصةً المشي على الأقدام لزيارة سيد الشهداء (ع) مهما كلّفهم ذلك، إلى أن انتهى المطاف بهم لإيجاد أرضية لمواجهة النظام بتنظيم تحرّك ضخم وذلك اثر التوجيهات الرسمية من قبل حزب الطاغية في حظر السير مشياً على الأقدام عام 1977م فقامت القوات الحكومية وباستخدام الدبابات والعربات المدرعة والطائرات بسحق مسيرة زائري الإمام الحسين (ع) المشاة على الأقدام على طريق (النجف – كربلاء)، وألقي القبض على الآلاف منهم، وتعدّ هذه الثورة – والتي تعرف بانتفاضة صفر الخير أو انتفاضة الأربعين – صفحة مجيدة في تاريخ أتباع أهل البيت (ع).
كيفية تعامل النظام مع الشيعة
عند وصول حزب الطاغية صدام إلى السلطة عام 1968 م، لم تكن لهم قدرة كبيرة، ولكسب رضا الجمهور كانوا يساعدون مجالس العزاء، الهيئات والمواكب الحسينية، حتى انّ السيد عبد محافظ النجف حينها كان يزور المراجع والعلماء ويقبّل أياديهم ويساعد الهيئات الحسينية.
استمرت الأمور على هذه الحال حتى خمس سنوات، ثم ازداد الضغط تدريجياً ضد الشيعة ومراسيم العزاء، فكانوا يختلقون عوائق جديدة لعزاء سيد الشهداء (ع) في كل عام، إلى أن أعلنت الحكومة العراقية عن حظر زيارة كربلاء مشياً على الأقدام عام 1977م.
واصلت اجهزة الأمن البعثية في هذا العام برمجتها للقضاء على جميع مظاهر الحداد العاشورائية من مآتم ومواكب ومجالس عزاء بيتية ايضاً عن طريق مداهمة المواقع الحسينية واعتقال القائمين على تلك المآتم ومجالس العزاء وتم ايداعهم السجون والمعتقلات وشملت الحملة الهمجية جميع محافظات الوسط والجنوب.
الجماهير الحسينية تتحدى
في سياق محاولاتهم الحثيثة للقضاء على ما تبقى من شعائر عاشورائية لإحياء الذكرى المفصلية في تاريخ الإسلام تحركت أجهزة القمع الصدامية في مدينة النجف الأشرف في حركة استباقية لترويع الجمهور النجفي عبر ابلاغهم قرار منع إقامة أية طقوس حسينية ومنها خروج المشاة إلى طريق كربلاء لزيارة الإمام الحسين (ع) في أربعينيته.
وكانوا يهدّدون الناس بصورة رسمية من الذهاب لزيارة الأربعين، إلا أن شباب النجف الأشرف كانوا متفقين على برنامج السير على الأقدام لزيارة الإمام الحسين (ع)، ففي صباح ٤ شباط ١٩٧٧ الموافق ١٤ صفر ١٣٩٧ خرجت الجماهير الحسينية من المحلات الرئيسىية في مدينة النجف الأشرف والعمارة والمشراق والبراق والحويش تتحدى قرار المنع . في الليل قام الشباب الحسيني بتوزيع الأعلام على المشاركين، دخل أحد الشباب وهو الشهيد ناجح محمد كريم الصحن العلوي حاملاً الراية الأكبر في مقدمة الجمهور وقد كُتب عليها (يد الله فوق أيديهم) وبدأت الجماهير الغفيرة تلتحق بركب المسيرة التي توجهت نحو طريق كربلاء تتخللها شعارات واضحة (أهل النجف يا أمجاد راياتكم رفعوها) و(أبد والله ماننسى حسيناه)، عكست هذه الشعارات وعي الجماهير للمشروع الاستئصالي للنظام الحاكم للذكرى الحسينية إلى جانب إصرار تلك الجماهير على رفض مشاريع العدوان.
توجهت الجماهير الحسينية نحو مدينة كربلاء المقدسة لتستقر ليلتها في خان المصلى (الربع) والقوات البعثية تحاذي حركتها وتمنع وصول الامدادات اليها من قبل المتطوعين.
شهيد الانتفاضة الأول
عادةً يتوقف النجفيون في مسير المشي نحو مدينة كربلاء المقدسة في ثلاثة أماكن ويبيتون فيها، وهي خان الربع، خان النصف وخان النخيلة. ولقد وصل المشاركون في المسير الأربعيني في الانتفاضة إلى خان الربع، ومنعاً لإستكمال مسيرتهم أرسل النظام رسائل تهديد لهم ، لكن زوار سيد الشهداء (ع) كانوا عازمين على الاستمرار.
توقفت المسيرة في “خان النص” للمبيت في ليلتها وواصلت مجموعات الشباب دوريات وأنظمة الحراسة الأولية حذراً من احتمالات الهجوم المباغت لقوات الشرطة والأمن على الزوار الحسينيين وقد واصلت هذه القوات تهديداتها وتحرشاتها للمسيرة طوال الطريق. في صباح اليوم التالي واصلت مسيرة زوار الأربعين تحركها نحو كربلاء وهي تُنشد أهازيج ولائية وحماسية حسينية. بعد خروجها من “خان النص” قامت القوات بالهجوم على مؤخرة المسيرة بالرصاص الحي ما أدى إلى سقوط الشهيد (محمد الميالي) أول شهداء مسيرة الأربعين فأثار غضب الجمهور الحسيني الذي عاد إلى خان النص وتوجه إلى مراكز الشرطة مُندداً بالهجوم الغادر وقامت أعداد كبيرة من الموالين بالالتحاق بالمسيرة من النجف وأطرافها ومن القبائل المحيطة بالركب لتواصل حركتها وهي تحمل غضبها واستهجانها للسلطة البربرية إلى قتلت الشهيد الأول من ركب شهداء الأربعين.
طائرات جيش النظام ودباباته تفتك بزوار الإمام الحسين (ع)
استمر الزوار بالمسيرة إلى أن وصلوا في اليوم الثالث إلى “خان النخيلة”، وكانت قوات الجيش بانتظارهم حيث طوقتهم بالدبابات والغطاء العسكري والأسلحة العسكرية، وفي الوقت نفسه حلّقت في السماء طائرتان، وكانتا تطيران على مقربة من الجموع لتخويف الناس وترويعهم.
كانت طائرات الميغ تُحلق على مستوى منخفض من الأرض لكسر حاجز الصوت يتبعها سقوط الزائرين على وجوههم، بينما كانت المجنزرات والمصفحات والدبابات تملأ أجواء الصحراء بالرعب والهلع وباصات قوات القمع تخوض ساحة المعركة البعثية للقبض على الزائرين بغرض ارسالهم إلى زنازين الموت والتعذيب.
اجتمع زوار سيد الشهداء (ع) جنباً إلى جنب، وكان يشجّع بعضهم البعض الآخر، إلى أن انقسموا قسمين، فسلك بعضهم طريقاً فرعياً عبر البساتين والقرى المجاورة للشارع، وبقي البعض الآخر في الشارع العام. فيما بعد الذين سلكوا الطريق الفرعي وصلوا إلى كربلاء، أمّا الآخرين فقد اعتقلتهم القوات الأمنية ونقلتهم إلى كربلاء لتضعهم في معسكر الرشيد بعد قضائهم عدّة ساعات في دائرة المخابرات.
اعتقالات على الهوية
بعد دخول مواكب المشاة إلى مدينة كربلاء المقدسة والتوجه إلى الصحن الحسيني الشريف كانت قوات القمع البعثية تتربص حركة الزوار الحسينيين الذين دخلوا المدينة من أطرافها وعبر المنافذ التي لم تخضع للسيطرات البعثية والأمنية والتي واصلت حملتها العسكرية إلى داخل المدينة المقدسة في أيام احياءها لذكرى أربعين الحسين (ع) . وقامت القوات بالاعتقال العشوائي للمارة والزائرين مع تركيز على الهويات النجفية بشكلٍ خاص. كانت باصات الأمن تُشحن بالزوار الحسينيين حيث تم تجميعهم عند أطراف كربلاء وإرسالهم إلى معتقلات الامن في بغداد لاحقا .
الاعتقال والتعذيب
أدخل المعتقلين من الزوار إلى زنازين صغيرة جداً، وذلك لأنّها كانت عبارة عن غرفة تبلغ مساحتها أقل من 12 متراً، كان لون الحائط فيها والأرضية أسوداً، ولم تحتو الغرفة على إضاءة، وإنّما كان في كل الممر ضوءاً واحداً لإضاءة سائر الغرف.
وقد جُمع في هذه الغرفة أربعون شخصاً فلم يكن أي منهم قادراً على الحركة، ولم يقدموا الماء والغذاء لمدة 48 ساعة. وأصيب جراء هذه الظروف الصعبة الكثير من السجناء في تلك الفترة بأمراض الكلى والتهاب القولون وغيرها من الأمراض التي ما زالوا يعانون منها لحد الآن. وبعد ليلتين أعطونا الطعام، إلا أن الطعام كان رديئاً بحيث أصيب الكل بالإسهال، وأصبحت ظروف الزنزانة صعبة للغاية.
إعدامات جائرة…
أقدمت السلطات الحاكمة على إصدار أحكام الإعدام في ٢٤ شباط ١٩٧٧م وقد كان البعض من المعتقلين قد استشهد تحت وطأة التعذيب قبل صدور الحكم المزعوم .
فقد حُكم على ثمان أشخاص بالإعدام وعلى 15 زائراً بالحبس المؤبد الأمر الذي أدّى إلى كراهية عامة عند الناس للنظام الحاكم. لم تُنشر أي من الأنباء عن انتفاضة الشعب في وسائل الإعلام، وذلك لمنع الحديث عنها في وسائل الإعلام سواء أكانت محلية أو خارجية موالية للنظام الحاكم في العراق حينها. وإلى الآن نجد وسائل الإعلام لم تؤدِّ حق هذه الانتفاضة، وينبغي أن يسلّطوا الضوء على هذه الانتفاضة كل عام، ويدرسوا الأبعاد المختلفة لها.
النتائج الاجتماعية والسياسية
شكلت الانتفاضة أول تحدي شعبي جماهيري عام للنظام البائد، فهي حولت المواجهة مع النظام من العمل الحزبي النخبوي إلى العمل الجماهيري.
كما كانت الدماء التي أُريقت فيها أول دماء تُراق على الارض في مواجهة شعبية في وضح النهار، فنقلت الانتفاضة الثورة وعملية التغيير من السجون المظلمة إلى الشارع وأمام مرأى ومسمع الرأي العام. ولقد كشفت الانتفاضة مدى حجم الرفض الشعبي لسياسات النظام الديكتاتوري القائمة على تكميم الأفواه وعلى التضليل، وكذلك نبهت العراقيين إلى حجم الظلم الواقع عليهم ليستعدوا لمواجهته، ولعل أهم نتائج هذه الانتفاضة كسر حاجز الخوف للجماهير عبر دخولهم في معركة حاسمة مع أجهزة هذا النظام على طريق نجف – كربلاء والتي استمرت لأيامٍ عدة.
كما اكتشف النظام بالانتفاضة أن كل اساليبه التي تعتمد الدعاية والتضليل لم تمض بالعراقيين الذين اثبتوا بأنهم على وعيٍ كامل بما يحيكه النظام من سياسات ظالمة يُراد بها إسكات الصوت الحر لهذا الشعب الأبي.
ولولا تلك التضحيات التي قدمها العراقيون على طريق ذكرى واقعة الطف العظيمة، لمّا شاهدنا اليوم كل هذا الزحف المليوني إلى مرقد سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) في كربلاء المقدسة.