كتاب "فلسطين غير محتلّة"

تحرير المخيّلة الفلسطينيّة من الإستعمار

"أريد تحرير صورة فلسطين الّتي أخذتها ماكينة الإعلام الإسرائيليّ رهينة.

2022-11-30

أريد أن أصنع معانِ وصلات جديدة”، يقول الفنّان الفلسطينيّ “ستيف سابيلا” عن كتابه الجديد “فلسطين غير محتلّة”. في الكتاب المصوّر مئة وثلاثون صورة فريدة أُخِذَت في فلسطين خلال “الانتفاضة الثانية”، وقد حصل على منحة “الصندوق العربيّ للفنّ والثقافة- آفاق” المرموقة. يقدّم سابيلا فكرته هكذا: “في لحظة معيّنة من حياتي، بصفتي فلسطينيّا يعيش تحت الاحتلال الصهيوني، أدركت أنّ إسرائيل لا تستعمر الأرض فحسب، بل تستعمر خيال الناس كذلك. قادني ذلك الإدراك إلى الحديث عن استعمار الخيال، وكيف يجب أن يكون المسعى، في الحقيقة والتطبيق، من أجل تحرير العقل أوّلاً، وتنظيف الصور الّتي نحملها عن أنفسنا، ثمّ تحريرها وإطلاق سراحها”.

أوسطيّان في برلين

في يوم مشمس وبارد خلال الأسبوع الثالث من أيلول (سبتمبر)، زرته في الأستوديو الخاصّ به في حيّ برنزلاور برِج، في برلين، من أجل مناقشة كتابه “فلسطين غير محتلّة”. لكن، وبطريقة ما، بدأنا نتحدّث، بوصفنا شرق أوسطيّين نعيش في المنفى، عن طموحاتنا من أجل الحصول على الجنسيّة الألمانيّة، وكيف نستطيع أن نهرب من شتاء ألمانيا الّذي بات قريباً.

مرّر لي سابيلا، بشعره الأسود الطويل، وثيابه السوداء، كتاب “فلسطين غير محتلّة”. انتبهت إلى أنّ الكتاب لا يحتوي أيّ كلمات افتتاحيّة أو مقدّمات. على الغلاف صورة لميناء غزّة، بعض قوارب الصيد الراسية، وبعض المياه. الصورة تبدو مثل لوحة مرسومة، بخطوط زرقاء وبرتقاليّة حيويّة. “إنّها رحلة صوريّة دون نصّ ولا كلمة، ولا وصف ولا تاريخ. فقط، إهداء واحد بالعربيّة. تعوم الصور في الزمان والمكان، واحدة تلو الأخرى، من بعد إلى بعد آخر”، يشرح سابيلا.

أهدى سابيلا كتابه إلى كاتب واحد ورواية واحدة، “أطفال الندى” للكاتب الفلسطينيّ المنفيّ  الراحل محمّد الأسعد. “أوّل مرّة تعرّفت فيها على محمّد الأسعد كانت حين بدأ، طواعية، بترجمة مذكّراتي “مفارقة المظلّة” إلى اللغة العربيّة. عبر الصدفة المحضة، اكتشفت رائعته “أطفال الندى”، فبدأت بترجمتها إلى الإنجليزيّة دون إذن منه، شاعراً بأنّ ذلك كان واجبي. تدور “أطفال الندى” حول تلك الليلة المصيريّة الّتي تحوّلت فيها فلسطين، برمشة عين، إلى الكيان الصهيوني. بطرق كثيرة، فإنّ كتابي “فلسطين غير محتلّة”، يلقي الضوء على ما حدث بعد ذلك”. تمتزج القصص.

الفوتوغرافيا والذاكرة

لسابيلا طريقة مميّزة في امتصاص، أو إعادة خلق الجمال، حتّى في الواقع التراجيديّ لحصار غزّة القائم. يشرح سابيلا: “فلسطين أرض جمال ومخيّلة”. لكنّ الّذين سيشاهدون الكتاب، لن يمتلكوا معلومات عن كلّ صورة من الصور. فماذا سيفكّرون؟

في الكتاب صور كثيرة لأطفال. يبدو الأمر كما لو أنّ سابيلا يريد أن يحمي الأطفال الفلسطينيّين، كما في الصورة الّتي يظهر فيها والد حاملاً ابنه، على “حاجز قلنديا” العسكريّ. في صورة أخرى، تتحوّل طائرة إف-16 الصهيونية، الّتي عادة ما تقصف فلسطين، إلى ما يشبه طائرة ورقيّة ملوّنة تقطع جدار الأبارتهايد وتعطي مستقبلاً مختلفاً للأطفال الفلسطينيّين. صورة ثالثة، يظهر فيها ممثّلون مسرحيّون شباب من مسرح رام الله يقفون أمام نسخة فنّية من جدار الفصل مصنوعة من القماش الّذي يجعله يبدو مثل حائط خفيّ.

يلتقط سابيلا كيف دهن الإسرائيليّون جدار الفصل باللون البنّيّ حتّى يمتزج بلون الأرض، لكي يخفوا وجوده عن المستوطنين الإسرائيليّين الّذين يمرّون بسيّاراتهم بالقرب منه. يعلّق قائلاً: “شعوب كثيرة أتت واحتلّت فلسطين، بماذا سيُذْكَر الإسرائيليّون حين تنهار إمبراطوريّتهم؟ بأنّهم شيّدوا على الأرض أبشع بناء في العالم؟”.

أثناء التقاطه للصور من أجل “فلسطين غير محتلّة”، تحرّك سابيلا بحرّيّة بين إسرائيل وغزّة والضفّة الغربيّة. “إنّني واحد من فلسطيّين قلائل في تلك الفترة استطاعوا الوصول إلى كلّ مناطق فلسطين. الفلسطيّون في غزّة في سجن، وفي الضفّة الغربيّة تحيطهم القيود، من غير المسموح لهم حتّى أن يطأوا القدس بأقدامهم. لأنّني كنت أعمل في “الأمم المتّحدة”، وكانت لديّ بطاقة صحافيّ، استطعت دخول غزّة وباقي المناطق. إنّني أعرف غزّة جيّداً. بل إنّني اخْتُطِفْت هناك حتّى. لقد كنت محظوظاً في الحصول على منظور قلّة تستطيع الحصول عليه، ولطالما شعرت بأنّ من واجبي أن أشارك معرفتي ومنظوري”.

صور أخرى لفلسطين أخرى

في واحدة من الصور، أتعرّف إلى ميناء يافا حيث عشت قبل أن أهاجر إلى برلين. يقول سابيلا: “هذه الصورة من ميناء يافا حتّى أذكّر الناس بفلسطين كلّها”.

سألته عن دولاب الملاهي الّذي يظهر في إحدى الصور، فأخبرني بأنّ هذا الدولاب كان في غزّة، وأنّ مقاتلات إف-16 صهيونية قصفته ودمّرته أثناء “الانتفاضة الثانية”. برأيي، يلتقط دولاب الملاهي الطريقة الّتي يدور بها النظامان السياسيّ والعقديّ، ويذكّر بأنّ ثمّة فرصة لارتقاء أولئك الّذي يرزحون اليوم في الأسفل. يقول سابيلا: “لطالما هدف النضال الفلسطينيّ إلى احتضان الحياة، وهو ما شعرت به أثناء تجوالي في شوارع فلسطين، ودخولي إلى البيوت المهدّمة. الفلسطينيّون، مثل بقيّة البشر، يريدون أن يعيشوا. هذه الصور احتفالات بالحياة”. فكرة سابيلا هي الهرب من صور فلسطين الّتي نراها في الإعلام الإسرائيليّ وكذلك العالميّ.

الآن، جالساً في وسط برلين، والجوّ يزداد برودة، أنظر بحزن إلى بعض صور الفلسطينيّين في البحر المتوسّط. يشرح سابيلا: “حتّى وقت قريب، لم يكن يُسْمَح للفلسطينيّين بالاقتراب من الشاطئ. لديّ صديق مولود في رفح، ليس بعيداً عن البحر، لم يكن قد رأى البحر مرّة في حياته، لأنّ المستوطنات الصهيونية كانت تحجبه عنه. بالنسبة لي، هذا غير معقول”.

بعد أن نظرت عبر أكثر من ثلثي الكتاب، شعرت بسعادة في روحي، خاصّة من صور نساء فلسطينيّات يعملن في التطريز التقليديّ، بالقرب من صور “قبّة الصخرة” ومزخرفاتها العربيّة، والخطوط تكاد تلتقي بين الصور. يكمل سابيلا أفكاري: “أريد أن أدعو، أو أن أقود، الجمهور في جولة عبر فلسطين، جولة تتحدّى وتعيد النظر في توقّعاتهم، وتخلق صلات آسرة”.

فسحة

المصدر: فسحة