د. سيد محمود خواسته*
“من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا” (الأحزاب/23)
الحديث عن الاربعين ذو شجون… متشعب، مترامي الأطراف ومتجذر في التاريخ، وما من قلم ودواة مهما بلغت، تأدية ما يتوجّب عليهما، حول إدراك مفهومه والوصول إلى كنهه، ومعرفة السر الذي من أجله وقع، وجاء بما جاء به قبل أكثر من ألف عام، ولا يزال يورق ويثمر ويغدق بذلك على كل انسان، مهما كان مشربه، إن كان حقاً يشعر بإنسانيته ويعترف بها.
عدد “الأربعين”
لا نريد في هذا المجال، الخوض في عدد “الأربعين” وما يحمله من معان شتى، فقد ورد ذلك في القران الكريم، منوّهاً إلى خلق الإنسان وما يتحمّله والداه.. “ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً… حتى إذا بلغ أشدّه وبلغ أربعين سنة…” (الأحقاف/15)، و “واعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربّه أربعين ليلة…”(الأعراف/142).
وهكذا في الشعر العربي على مر العصور، فهذا “سحيم بن وثيل التميمي” الشاعر المخضرم، يقول: “وماذا تبتغي الشعراء منّي وقد جاوزت حد الأربعين (د. خليل الرفوع، موقع عمون)”، وغير ذلك، حيث تناول الكثير من المفكرين والأدباء كلمة “الأربعين” وغاصوا في أعماقها، فمنهم من نظر إليها بتشاؤم، ومنهم مَن عدّها إكتمال الإنسان واستعداده لتحمل ما يلقى إليه من أمور.
ذلك ما لا نريد التوغّل فيه، لأنه يبعدنا عن الموضوع الذي نحن بصدد التطرق إليه، بما لدينا من إمكانيات ضئيلة، قاصرة وعاجزة عن الإيفاء حتى ولو بجزء منه!
سید الشهداء(ع) مُلهم الإنسانية
سید الشهداء(ع) في حد ذاته مُلهم الإنسانية، بكل ما تحمله الكلمة من معنى… في شخصيته، وجوده، نسبه، سماحته، أدعيته، وخاصة دعاء عرفة، الذي هو بحق ليس دعاء فحسب، بل وصحيفة كاملة لمن أراد معرفة الإنسان وزوايا وأسرار خلقته، وما أودع الله تعالى فيه من خلايا وأنسجة وعروق، يقف أمامها العلم مهما بلغ صاغراً، منكسراً، جاثياً أمام مَن… “علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم…”(العلق/1)، وقد جرى ذلك على لسان أبي الأحرار، الإمام الحسين(ع)، “فتبارك الله أحسن الخالقين” (المؤمنون/14).
هكذا ثار الإمام الحسين(ع) بوجه الظلم، التزوير، وإبادة الإسلام باسم الإسلام… ليحكم الباطل باسم الحق، وليعود ما أبطله الدين الحنيف القويم، من عادات الجاهلية البغيضة، والأسس التي إستوت وقامت عليها… فما كان إسلام أبي سفيان إلّا خوفاً وحفاظاً على حياته وأسرته وأتباعه وثروته، ومَن جاء بعده سار على طريقه، باذلاً كل جهد، بل وكل ما استطاع، لتحويل الخلافة النبوية، إلى سلطنة وراثية، يتلاقفها بنو أمية الواحد بعد الآخر!
يحسبونها حقاً مشروعاً لهم إغتصبه بنو هاشم! ولا بد أن يعود إلى أصحابه!… وقد قال قائلهم: “لعبت هاشم بالملك فلا/ خبر جاء ولا وحي نزل! (القائل هو يزيد بن معاوية)”.
فهل كل هذا لا يستدعي، أن يقوم رجل من أهل البيت (ع)، لينقذ الإسلام الفتي، من طغمة تصول وتجول، لمحو الدين وإحلال الجاهلية مكانه؟ رغم ما تحمله الرسول الأعظم(ص) من معاناة، في سبيل هداية بني أمية وأمثالهم، وانتشالهم من الظلمات والجهل المطبّق عليهم، إلى مسار الحقيقة والنور والعدل، “فاستحبوا العمى على الهدى” (فصلت/17)! وأطاحوا بسبط النبي الأكرم(ص) وآله وأصحابه الميامين، لأنه طالب بسيادة الحق على الباطل وإقامة العدالة بين الناس كافة، الذين فرّقهم بنو أمية واستعلوا عليهم وجعلوهم عبيداً لهم، يأتمرون بأمرهم، ويطيعونهم في كل ما يريدون!
والروايات وكتب التاريخ حافلة، بسيرة جاهليتهم وتفضيلهم الناس بعضهم على بعض، وإن كانوا أكثر منهم إيماناً وإخلاصاً للإسلام!
كما يفعل في عصرنا الراهن أحفادهم ومن لفّ لفهم… يهرولون لكسب ود شيطان رجيم، وشواذ من أراذل العالم، حلّلوا کل شيء في سبيل الحصول على معلومة او مكسب، يزيد قليلاً في عمر الكيان الصهيوني الغاصب، السائر إلى الزوال بإذن الله تعالى.
والأعجب من ذلك، إستقواء بعض ممن يدعي الإسلام ويتزعم بلاده وشعبه باسم الإسلام، بهذه الشرذمة التي لا عهد ولا وفاء لها، حتى للصهاينة المحتلين أنفسهم !.
إضاءة ألف شمعة أمل ورجاء
نحن الآن وفي القرن الواحد والعشرين، لا زلنا نعيش جاهلية، هي أعتى وأظلم وأشد من الجاهلية الأولى قبل الإسلام!… في عصر تكالب القوى الشريرة، على ثورة حفيد الإمام الحسين(ع)، الإمام الخميني(قدس)… لا لذنب ارتكبته، بل لأنها أحيت الدين الإسلامي، وأعادته للواجهة العالمية، بمبادئه المشرقة العظيمة وأصوله السمحاء وتعاليمه الفريدة.
ولكن الفشل والإندحار نصيبهم في كل ما قاموا ويقومون به، “يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلّا أن يتم نوره ولو كره الكافرون” (التوبة/32)، فانبثاق الثورة الإسلامية المظفّرة في ايران، وانتصارها بموازرة الشعب وقيادة الإمام الخميني (قدس)، برهان ودليل على ذلك، فهي ثورة على أتباع الجاهلية، حكّام النظام البهلوي المقبور، وانتصار لسيد الشهداء الإمام الحسين(ع)، وإضاءة ألف وألف شمعة أمل ورجاء، بعدما إنقطعا لطول أمد الظلم والظالمين، وكما قال سماحته، فإن دماء شهداء الثورة الإسلامية هي “امتداد لدماء شهداء کربلاء… فلقد أنهت دماؤهم الطاهرة، حكومة يزيد الطاغوتية، وأطاحت الدماء الطاهرة لهؤلاء بالملكية الطاغوتية” (صحيفة الامام العربية، ج 5، ص 323).
المسيرات المليونية
إننا اليوم نشهد المسيرات المليونية، التي يشارك فيها الأحرار من كل حدب وصوب وعلى اختلاف أديانهم ومذاهبهم ومشاربهم، أليس هذا دليلاً على عظمة “الأربعين” وسيد “الأربعين” الإمام الحسين(ع)، وانحسار الباطل وأفول إمبراطورية الشيطان الأكبر العظمى!
واندحارها وتقهقرها، في العالم أجمع والإسلامي خاصة؟… “لقد علّمنا سيد الشهداء(ع) ما ينبغي فعله في مواجهة الظلم والجور والحكومات الجائرة. فمنذ البداية كان – سلام الله عليه – يعلم طبيعة الطريق الذي اختاره، وأنه ينبغي له التضحية بجميع أهل بيته وأصحابه من أجل الإسلام، وكان يعلم نهايته أيضاً (صحيفة الإمام العربية، ج 17، ص 50)، هذا الطريق الذي رسمه لنا الإسلام الأصيل وروّاده من الإمام الحسين(ع) إلى أنصاره وأتباعه ومحبيه في عصرنا الحاضر، ومن قام على المسار مضحيّاً، شاهراً سيفه بوجه طغاة اليوم، كالإمام الخميني (قدس).
الرثاء على الإمام الحسين (ع)
إن اوّل مَن رثى الإمام الحسين(ع) كما ذكرت مصادر متعددة، كأعيان الشيعة، للسيد محسن الأمين، وموسوعة كربلاء للبيب بيضون، هو “بِشر بن حذلم”، عند عودة قافلة أهل البيت(ع) من الشام إلى المدينة، وكانت السيدة الطاهرة أم البنين(ع) أول من إستقبل الشاعر والقافلة، حيث صدح يندب الإمام الحسين(ع):
يا أهل يثرب لا مقام لكم بها
قتل الحسين(ع) فأدمعي مدرار
الجسم منه بكربلاء مضرج
والرأس منه على القناة يدار
وهذا “عقبة بن عمرو السهمي” الذي هو من “بني سهم بن عوف بن غالب” راثياً الإمام الحسين(ع) (السيد الامين، ج 41، الاعيان):
مررت على قبر الحسين بكربلاء
ففاض عليه من دموعي غزيرها
وما زلت أبكيه وأرثي لشجوه
ويسعد عيني دمعها وزفيرها
وبكيت من بعد الحسين عصائبا
أطافت به من جانبيه قبورها
* مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني (قدس)