ولعل ما يجري اليوم من انهماك إدارة بايدن، وبايدن شخصياً، في السعي لإتمام صفقة تطبيع بين “إسرائيل” والمملكة العربية السعودية هو أحدث تجليات هذا “البعد الاستراتيجي” في السياسة الأميركية، برغم ما قيل ويقال عن “توتر” أو “فتور” بين الإدارة الديمقراطية وأكثر حكومات “إسرائيل” عنصرية وفاشية على الإطلاق، رحب به البعض، وظن مدفوعاً بمقالة لتوماس فريدمان أن واشنطن بصدد مراجعة علاقتها بـ”تل أبيب”، وأن ما مضى لـ”إسرائيل” من دلال ومحاباة لن يبقى.
المراقب للسياسة الأميركية يلحظ كثافة في تحركات كبار مسؤولي البيت الأبيض، وتحديداً صوب عواصم المنطقة، مصحوبةً بسيل من الاتصالات لا ينقطع مع قادة الإقليم، ويتمحور في مجمله حول نقطة واحدة: إتمام صفقة تطبيع بين الرياض و”تل أبيب”، توصف إعلامياً بأنها “صفقة القرن 2″… ترغب الإدارة الأميركية، وبايدن شخصياً، في إتمامها قبل نهاية العام الجاري، وفي أحسن الأحوال مع مطلع العام المقبل، لعلّه بذلك يضرب 3 عصافير بحجر واحد:
الأول: انتزاع ورقة “الرئيس الذي قدم أفضل الخدمات لإسرائيل” من يدي غريمه ومنافسه المرجح في الانتخابات المقبلة دونالد ترامب، فتلكم ورقة يمكن أن تستجر مزيداً من أوراق الاقتراع في صناديق بايدن والحزب الديمقراطي الانتخابية.
الثاني: تحصين مكانة “إسرائيل” في معركة “نزع الشرعية” عن الاحتلال والاستيطان والعنصرية والفاشية، ولا سيما مع تزايد الأصوات، الغربية والإسرائيلية، التي باتت تصف حكومة “إسرائيل” وقادتها من دون حرج بهذه الصفات التي تكفي كل واحدة منها للأخذ بهم إلى “لاهاي” بوصفهم مجرمي حرب ومقترفي جرائم ضد الإنسانية، وهل ثمة ما هو أفضل من التطبيع مع “رأس العالمين العربي والإسلامي” لتحقيق هذا الغرض؟
الثالث: دق إسفين في العلاقات الناشئة بين السعودية وكل من روسيا والصين، وإيران استتباعاً، وضمان ابتعاد الرياض، الحليف التقليدي والتاريخي، عن أهم مصدري تهديد للأمن القومي الأميركي، كما جرى تصنيف كل من موسكو وبكين في الاستراتيجية الكونية لواشنطن.
دعم “إسرائيل” وضمان تفوقها مهمة يتهافت عليها ساكنو البيض الأبيض طواعية، فما بالكم حين ترتبط هذه المهمة بمهمة استعادة الرياض ومنع انجرارها شرقاً وتوسيع شقة الخلاف وانعدام الثقة على ضفتي الخليج الفارسي؟
الرزمة الشاملة
بتنا نعرف اليوم، وبقدر كبير من التفصيل، ما الذي تريده السعودية لإتمام التطبيع مع “إسرائيل”، وما مصالحها في الرزمة الشاملة التي تتفاوض بشأنها مع واشنطن، والتي من المتوقع أن تكون موضع بحث في لقاء بايدن – ابن سلمان في جاكرتا على هامش قمة العشرين المقبلة. ويبدو أن البيت الأبيض أدرك أن الشق الفلسطيني في المطالب/الشروط السعودية لإتمام الصفقة ربما يكون أصعب من الشق الثنائي/الأميركي من هذه المطالب على صعوبته.
“إسرائيل” محكومة بائتلاف يميني – فاشي – عنصري يؤمن بـ”إسرائيل الكبرى” من البحر إلى النهر، ويسعى لتدمير أي فرصة لقيام كيان فلسطيني، وأولويته الأولى ابتلاع الضفة الغربية (“يهودا والسامرة”) وتسريع خطوات أسرلة القدس وتهويدها وطمس معالمها الفلسطينية – العربية – الإسلامية والمسيحية، وهيهات أن تجنح حكومة بن غفير – سموتريتش للقبول بالحد الأدنى من مطالب الفلسطينيين التي ستدمجها المملكة في “الرزمة الشاملة” مع واشنطن و”تل أبيب”، رغم أن هذه المطالب جرى تقزيمها إلى ما دون الحد الأدنى للمشروع الوطني الفلسطيني، وما دون الحد الأدنى للاتفاقات والتفاهمات التي جرى إبرامها في سياق مسار أوسلو بمختلف محطاته.
جل ما يريده الفلسطينيون، كما يبدو، هو إعادة الاعتبار إلى المنطقتين “أ” و”ب” بموجب تصنيفات أوسلو، وضم مناطق من “ج” إليها، ووقف الاقتحامات المتكررة لقصبات المدن والمخيمات، على أن تتولى السلطة استعادة زمام السيطرة وبسط الأمن، بما هو مطاردة عناصر المقاومة وظاهراتها الجديدة، حرية أكبر للحركة على المعابر، والعودة لفكرة المطار والميناء في غزة، إشراك واشنطن وعمان والقاهرة في الرقابة على الترتيبات الأمنية التي تصر “تل أبيب” على أن يبقى زمامها بيدها، دعم مالي أميركي–سعودي مصحوباً بإعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس.
والمطلب الأهم من بين هذه المطالب الفلسطينية هو رفع الفيتو الأميركي على الاعتراف بدولة فلسطين لتصبح عضواً كاملاً في الأمم المتحدة، واستئناف السعودية ضخ أموال المساعدات المتوقفة كلياً منذ 3 سنوات إلى صناديق السلطة الخاوية.
جملة المطالب الفلسطينية لا تتخطى بعمومها ما سبق الاتفاق عليه أو التفاهم بشأنه مع الجانب الإسرائيلي في سياق المفاوضات التي امتدت إلى 3 عقود تقريباً، وتعاقبت عليها حكومات عدة من اليمين واليسار والوسط.
واشنطن، قبل “تل أبيب”، رأت أن سقف المطالبات الفلسطينية مرتفع للغاية، وأنها تتخطى السقوف التي تدور تحتها التحركات الأميركية منذ مجيء إدارة بايدن. لذلك، تكثف واشنطن ضغوطها على السلطة للهبوط بهذا المطالب، ودائماً بذريعة أن الوضع في “إسرائيل” لا يحتمل خطوات بهذا الحجم و”الطموح”.
باربرا ليف تحدثت بذلك مع “الترويكا الفلسطينية”: حسين الشيخ وماجد فرج ومجدي الخالدي في عمان، وماكغورك طارد الثلاثي الفلسطيني إلى الرياض، فيما بادر بلينكن إلى مهاتفة عباس في السياق ذاته وللغرض ذاته، وما بطن من الاتصالات (الضغوط) الأميركية المباشرة وغير المباشرة مع رام الله تستهدف تذليل ما يوصف بـ”العقبة الفلسطينية” حتى لا تفقد إدارة بايدن وحكومة نتنياهو الفرصة الذهبية السانحة للتطبيع مع ولي العهد السعودي.
في الحقيقة، ليس في السلوك الأميركي ما يدعو إلى الدهشة والاستغراب، ومن يراجع مسلسل المفاوضات الفلسطينية–الإسرائيلية لا شك في أنه يلحظ أن الإدارات الأميركية تستسهل الضغط على الطرف الفلسطيني الأضعف دائماً عند وقوع خلاف مع الجانب الإسرائيلي، ولطالما وجدت واشنطن الأعذار للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لفعل ذلك.
وحين كانت الإدارات الأميركية تعجز عن ممارسة ضغط ذي جدوى على الفلسطينيين، كانت تلجأ إلى حلفائها العرب الذين يملكون “دالّة” و “تأثيراً” على السلطة في رام الله أكثر مما يتوفر لدى واشنطن، فبعض هؤلاء لديه من أوراق القوة التي لا يتورع عن استخدامها، برغم طابعها اللاإنساني واللاأخلاقي، ما ليس في حوزة واشنطن ذاتها.
أما المسار الثاني الذي تسلكه واشنطن، فيتعلق بـ”إسرائيل”. وهنا يمكن القول إن أفضل سيناريو لإدارة بايدن هو استحداث “تعديل وزاري” على حكومة نتنياهو، فلا إسقاط هذه الحكومة يبدو أمراً ممكناً، ولا نتائج انتخابات مبكرة سادسة يمكن أن تكون مغايرة لنتائج 5 جولات انتخابية في 3 سنوات، فيما ساعة الرمل تكاد تفرغ ما في جوفها، إيذاناً ببدء الماراثون الانتخابي في الولايات المتحدة.
جُل ما تبتغيه إدارة بايدن هو إخراج وزيرين من حكومة نتنياهو (سموتريتش وبن غفير) والمجيء بمثلهما من “المعسكر الوطني”: حزب الجنرالات ورؤساء الأركان؛ “أبطال” جرائم الحروب الإسرائيلية على غزة، حتى وإن اقتضى الأمر ممارسة ضغوط على غانتس – لبيد للهبوط عن أعلى قمة شجرة المعارضة لنتنياهو شخصياً وانقلابه القضائي.
وفي هذا السياق، لا يبدو أنَّ نتنياهو متمسك بالفيتو على خيار كهذا، شرط حصوله على ضمانات بخروج معافى من ملفات ملاحقاته القضائية. وسبق له أن وجه رسائل مغلقة ومفتوحة إلى غانتس للالتحاق بركب حكومته المكلفة جداً من كيس “إسرائيل” وسمعتها الدولية… وفي السياق ذاته، ليست واشنطن وحدها من يسعى للوصول إلى نتيجة كهذه، فبعض دول المسار الإبراهيمي تتحرك في السر والعلن لمد “يد العون” لـ”إسرائيل” وإنقاذها من نفسها.
الحركة كثيفة على هذين المحورين: الهبوط بسقف المطالب والتوقعات الفلسطينية، واستحداث تعديل على حكومة نتنياهو، بحيث تصبح قادرة على ملاقاة المطالب الفلسطينية بعد خفضها، في نقطة ما، لعلّ هذا الحراك يتوج بتصاعد الدخان الأبيض من مدخنة “صفقة القرن 2”.
لكن مع ذلك، ليس ثمة يقين بأنّ هذا الحراك سينتهي إلى خواتيم تشتهيها واشنطن بالضرورة، فلا العنصرية – الفاشية في “إسرائيل” مقتصرة على رجلين لتتبدد برحيلهما، ولا السلطة في رام الله قادرة على اختزال المشهد الفلسطيني المقاوم لهذه المشاريع. دع عنك تعقيدات الوضع في واشنطن المترتبة على دخول بلاد العم سام في مزاج انتخابي، وحالة “عدم الاستعجال” التي تميز الموقف السعودي في هذه المرحلة، الأمر الذي يوجب تفادي الوقوع في شرك التهوين من المخاطر أو التهويل بها.
د.ح