في سبتمبر 2019، سلمت والدة سمر دويدار مجموعة كبيرة من الوثائق والألبومات العائلية، تضم حوالي 350 وثيقة، إلى ابنتها سمر. لم تكن مجرد وثائق عادية، إذ حملت في طياتها قصصًا وأحداثًا تاريخية وشخصية تمتد عبر الأجيال، ورسائل شخصية من جد سمر لجدتها، ولأبنائه، إضافة إلى مراسلات عائلية أخرى.
ما يميز هذه المجموعة القيمة من الوثائق، وجود أوراق ثبوتية تثبت ملكيته لأسهم في شركة فوسفات فلسطين في الثلاثينيات من القرن العشرين وغيرها من الوثائق ذات الصلة بهوية الأرض الفلسطينية، كما تؤكد سمر، وهي اليوم باحثة وكاتبة مهتمة بالتاريخ الشفهي للنساء الفلسطينيات. شعرت دويدار بمسئولية كبيرة تجاه الإرث الثقافي والتاريخي الذي تحمله الوثائق، فعملت على تنظيمها وتصنيفها لتستطيع فهم القصص والأحداث المتضمنة فيها، والتي تعكس ما حاول جدها علي رشيد شعث توثيقه في تلك الفترة (1908-1967).
كما قامت بعملية أرشفة دقيقة وعلمية لتحرير الوثائق من أي مواد تؤثر على جودتها واستدامتها، وأخذت مسحاً ضوئياً لكل وثيقة وحفظتها بصيغة رقمية، ومن ثم طبعت نسخاً ورقية منها للمحافظة على الأصول. واهتمت دويدار كذلك بحفظ الوثائق الأصلية في مظاريف ورقية مخصصة لحفظ الأرشيفات الورقية، وتأكدت من عدم احتواء الأظرف على أي مواد صناعية كيميائية تؤثر في جودة الوثائق.
فاختارت أظرفًا مصنوعة من مواد طبيعية تستخدم في المكتبات العامة والأرشيفات الرسمية، ما يسهم في الحفاظ على جودة الوثائق لمدة أطول. وبعد أن نجحت في عملية التنظيم والأرشفة، اتجهت دويدار لأخرى مهمة، وهي إعداد سجل رقمي (قاعدة بيانات) يحتوي على معلومات مفصلة عن كل وثيقة. خصصت رقمًا مسلسلًا لكل وثيقة ووصف دقيق لمحتواها بما في ذلك التاريخ والمرسل والمرسل إليه والمدينة ووصف لمحتوى الوثيقة، “وهذا التصنيف المتقن يجعل من السهل البحث في الأرشيف واسترجاع المعلومات بسرعة وفعالية”، كما تؤكد. ومن أجل مشاركة هذا الإرث العائلي مع أفراد العائلة المنتشرين في مصر والأردن وغزة ورام الله وأمريكا والسعودية، أنشأت سمر موقعاً على الإنترنت يتيح للأفراد الوصول للوثائق والصور بسهولة وبطريقة آمنة.
وبهذا الجهد الدؤوب والمخلص، تمكنت دويدار من الاحتفاظ بتلك الذكريات العائلية الثمينة وجعلتها متاحة لأفراد عائلتها وأجيال المستقبل، مساهمة بذلك في الحفاظ على تاريخ وثقافة عائلتها.
جهد تشاركي
وتنبه إلى أنها لم تنفذ العمل بمفردها، إذ تعاونت معها صديقتها الكاتبة المصرية مريم عبد العزيز خلال فترة الحجر المنزلي في عام 2020، ونظرًا لأن الرسائل التي تم العناية بها كانت طويلة ومفصلة، تمكنوا من أرشفة 235 وثيقة تتضمن أكثر من 600 ورقة، مؤكدة أن هذا العدد لا يعكس العدد الفعلي للوثائق التي عولجت وأُرشفت بعناية.
وخلال رحلتها في قراءة وأرشفة الوثائق، بحثت دويدار حول الأحداث والمواضيع التي ذُكرت وعن الممارسات الاجتماعية والثقافية الواردة فيها، “ومع كل اكتشاف جديد، كنت أشعر بمسؤولية أكبر تجاه الحفاظ على هذا التراث الثقافي القيم”. وتضيف: “لاحقًا، تواصلت واجتمعت بخبراء في مجال إنشاء المواقع الإلكترونية والتاريخ الشفهي والأرشفة. وعبر هذه التواصلات والتجارب، تطورت فكرة موقع حكايات فلسطينية، وتحت هذا الشعار، أصبح الموقع الآن أكثر من مجرد موقع عائلي شخصي مغلق يضم رسائل جدها وصور عائلية”.
وتردف بالقول: “أصبح الهدف الرئيسي للموقع الحفاظ على ذاكرة فلسطين ومساهمة في منع نسيان التاريخ الثقافي والاجتماعي للعائلات الفلسطينية. وبفضل هذه الجهود، يمكن لأي عائلة فلسطينية الاحتفاظ بأرشيفها العائلي والمساهمة في الحفاظ على جزء من تاريخ فلسطين الغني والذي يمكن أن يفقد مع مرور الزمن”. وتعكس هذه العملية، وفقاً لـ”دويدار”، مبدأ الحفاظ على حقوق المشاركين وإعطائهم السيطرة على محتوى الوثائق الخاصة بهم.
آلية البحث
في ما يتعلق بآلية البحث عبر الموقع الإلكتروني، توضح أنه يمكن لأي شخص فلسطيني أو من أصول فلسطينية دخول الموقع وتحميل صورة أسرته في فلسطين قبل الاحتلال، ويمكن لهم تخليد ذكرى أحبائهم ومشاركة هذه الصور في كتابة الرواية الفلسطينية. وتتابع: “الموقع يعد منصة تفاعلية تهدف إلى توثيق التاريخ الفلسطيني والمساهمة في الحفاظ على الذاكرة الوطنية”.
ويتألف الموقع حاليًا من صفحات رئيسية تشمل الرسائل والصور، إذ نشر أجزاء من رسائل وصور جدها علي رشيد شعث ليتمكن الزوار من استعراضها. وتشمل الوثائق العائلية المقصودة في الموقع كل ما تملكه الأسر مباشرةً، مثل الرسائل وشهادات الميلاد وعقود الزواج وما إلى ذلك. إضافة إلى صور المقتنيات العائلية كملابس زفاف الجدات أو العمات أو الخالات، أو عصي الجد أو صورًا لكتب قديمة كتبها أفراد العائلة، “وهي مجموعة متنوعة تعكس تاريخ وثقافة الأسرة”.
وتؤكد دويدار أن الموقع لا يهدف لجمع الوثائق الأصلية، وإنما توثيقها وجعلها متاحة للجميع، أي أن الأسرة ستحتفظ بأرشيفها الورقي الأصلي، مع توفير فرصة لتوسيع دائرة الاطلاع على هذه الوثائق والتفاعل معها رقمياً. ويسعى الموقع حالياً إلى التواصل مع الفلسطينيين حول العالم لتعريفهم بالفكرة وتشجيعهم على البحث في صناديقهم القديمة التي تروي قصص العائلة، لتشجيع الجيل الثالث من فلسطينيي الشتات على التواصل مع أصولهم والعمل على استعادة ذاكرة وإرث العائلة. كما تخطط دويدار لتوسيع نطاق الموقع في سبتمبر 2023 بإتاحته باللغة الإنجليزية للتواصل مع الجيل الثالث من الفلسطينيين في الشتات ولتسهيل عملية تحميل الوثائق مباشرة من الزوار لأرشيفهم.
مريم الشوبكي