بمناسبة يومه العالمي

السّلام.. وسيلة لتحقيق معاني الإنسانية

خاص الوفاق: يتجلّى تحقيق السّلام العالمي في تعزيز التّعايش الّسلمي وتثقيف الجيل الجديد على مفاهيم المحبة والتّسامح والإضاءة على القيم الأخلاقيّة والإنسانيّة وغرس معايير الرحمة والتعاطف والمشاركة والتّعاون وإحترام الكبير والرأفة بالصّغير وإشاعة التراحم بين الناس ونبذ التطرف والعنف بكل أشكاله

2023-09-20

رلى فرحات

السّلام حالة من الأمان والسكينة واللإستقرار ومعاكس للحرب وللإختلافات وللنزاعات، فتوفر للمجتمعات ولأفرادها مشاعر الأمن والأمان والحماية. حيث يسمح للناس بالعيش بحرية وبلا خوف من تهديدات قادمة أو عنف مستجّد، ويساهم في تعزيز الثقة بين أفراد الأسرة ويُرسّخ الإستقرار في المجتمع لأنه أساس لحل النزاعات بالطرق السلمية. وعليه تسعى العديد من الشخصيات من محتلف المجتمعات والميادين إلى نشر السّلام في جميع أنحاء العالم، من أجل التخلص من الخلافات وتسوية النزاعات التي تقف في وجه تحقيق السّلام مستخدمين عناوين وأدوات لبناء السلام مثل: الحوار من أجل السّلام، الفن من أجل السّلام، التّمكين من أجل السّلام، الإعلام من أجل السّلام، الّرياصة من أجل السّلام وغيرها الكثير…

والسّلام هو الوسيلة الوحيدة التي تحقق الوفاق بين الشعوب، وبتحققه تسود معاني الإنسانية بين البلاد مهما كان حجم الإختلاف سواء في السياسة أو الدّين أو اللون أو العرق…، فتبعد عنهم روح الأنانيّة والكراهية.

كذلك هو أحد أركان المواطنة وأحد أهم ركائز التربيّة على التنميّة المستدامة بوصفها رؤية نفسيّة إجتماعيّة فلسفيّة على تحقيق السّلام بين الإنسان والإنسان من جهة وبين الإنسان محيطه من جهة ثانيّة. وهذا يعني أن السّلام ومن أجل أن يكون سلاما حقيقيّا يجب على التربيّة أن ترسّخه في العقول وأن تصقله في نفوس الأطفال والناشئة.

يقوم بناء السلام بشكل أساسي على معرفة الأسباب الكامنة وراء اقتتال الناس فيما بينهم والتعامل معها بموضوعيّة وشفافيّة، بالإضافة إلى دعم المجتمعات بما يلزم لإدارة خلافاتها ونزاعاتها من دون اللجوء إلى العنف الذي يحضر بشكل دائم قبل وأثناء وبعد النزاعات ويتصاعد ويتكرر. وعليه يُقال أنّ  مفهوم السلام موجود منذ أن بدأ التدوين مع إختراع الكتابة لدى السومريين، أي منذ 5600 عام.

وللسلام ثقافة خاصة تكون من خلال التعليم والتنمية الإقتصاديّة والإجتماعيّة المستدامة، وكذلك من خلال غرز القيم والمفاهيم الراقيّة مثل التّفاهم والتّضامن والتّسامح والمشاركة ومعرفة الحقوق والواجبات والتّعامل بمعايير الإحترام، كذلك نشر ركائز الحريّة الصّحيحة وأسس التواصل وتبادل المعلومات والمعارف. ومن فوائد تعزيز ثقافة السلام تمكين الشباب وتعزيز طاقاتهم الإبداعية، وتشجيع التضامن الإجتماعي وتحقيق التنمية المستدامة. وصولا لحماية حقوق الإنسان.

 

خصائص السّلام العالمي

إنّ أساس أي مجتمع هو التعدديّة سواء في الثقافة أو العادات أو الدّين أو غيرها، لذا لا بد من وجود إدارة سلميّة تُحيط بالأمور وبالمواضيع الثقافيّة والسياسيّة والدينيّة، ووجب لذلك وجود إستشاريين ومختصّين في الشأن الإجتماعي والدّيني والنّفسي وغيرها ليكون شغلهم الشاغل ترسيخ مفهوم السّلام الجمعي والفردي بشقيه الإجتماعي والنّفسي، وكذلك الاحتكام إلى القوانين المرعيّة الإجراء شرط أن تكون منصفة وواضحة ولا تتضمن الضّغينة والظلم في طيّات موادها، فيصير السّلام مفهوم أساسي ومهم وجب التّمسك بقواعده وعدم التّهاون بمضامينه لتحقيق العدل والحقوق الإنسانية.

‫ومن هنا لا بدّ لنا أن نتناول عن مفهومي السّلام النّفسي والسّلام الإجتماعي:

السّلام النّفسي الداخلي (راحة البال) دلالة على حالة السّلام في تكوين الشّخص العقلي والروحي مع ما يكفي من الفهم والتبصّر والمعرفة للحفاظ على قوة النّفس في مواجهة الإختلاف وما قد ينجم عنه من خلاف يتبعه خوف وتوتر وقلق. أن تكون في سلام يعني أن تكون متوازن وتتمتع بصحّة نفسيّة جيدة ولديك من المرونة ما يكفي لتقبل الآخر ولتفهمه ولاستيعابه مهما كان مختلفا عنك بأفكاره وتوجهاته وديانته… وبالطبع هذا السّلام الدّاخلي هو عكس أن تكون متوتراً ومرهقاً وقلقاً، وهذا ما يرتبط بالنعيم والسعادة والرضا وجودة الحياة.

وللسّلام آثار عديدة على الإنسان وعلى الطبيعة أيضاً، فالسّلام يحمي الإنسان من الأمراض الّنفسيّة والعصبيّة، ويمنحه مساحة فكريّة إبداعيّة وصفاء ذهني منتج بما يتميز به الإنسان من صفات وسمات وتطلعات، فينشأ جسر التقارب بين شعوب العالم المختلفة خاصة في حاضرنا التكنولوجي الحديث اليوم بعد أن أصبح العالم قرية كونية صغيرة، فتبرز علاقات متميزة يسودها التفاهم والتعاون في كافة المجالات والميادين على عكس الحروب التي يُبدع فيها صنف البشر بإظهار أسوأ ما لديهم من تصرفات وأفعال نتيجة الضغائن والأحقاد ونرجسية السيطرة وبسط النّفوذ.

ويتجلّى تحقيق السّلام العالمي في تعزيز التّعايش الّسلمي وتثقيف الجيل الجديد على مفاهيم المحبة والتّسامح والإضاءة على القيم الأخلاقيّة والإنسانيّة وغرس معايير الرحمة والتعاطف والمشاركة والتّعاون وإحترام الكبير والرأفة بالصّغير وإشاعة التراحم بين الناس ونبذ التطرف والعنف بكل أشكاله وصوره ومظاهره، من عنف لفظي أو جسدي أو حتى تعبيري بلغة الجسد إلى التطرّف الدّيني والقبلي والعرقي، وكذلك إلى توجيه هذا الجيل إلى البرامج الثقافيّة والتعليميّة والوثائقيّة المُسندة إلى مصدر موثوق وصحيح.

بالإضافة إلى نشر ثقافة الحوار الهادف بين المجتمعات بمختلف أطيافها وثقافاتها ودياناتها لمواجهة الإختلافات وتفادي تطوّرها إلى خلافات من خلال الجهود المبذولة من قبل الرؤساء والحكومات والمسؤولين ورجال الدّين والمثقّفين والمعنيين في الشأن التربوي والتّعليمي والإجتماعي والطّبي إلى آخره. كلٌّ راعي وكلٌّ مسؤول عن إنشاء جيل يتمتّع بصحّة نفسيّة جيدة وبشخصيّة سويّة تستطيع أن تواجه تغيّرات وظروف الحياة وتتكيّف مع مستجداتها بسلام. فالسلام لا يعني غياب الصراعات، وإختفائها إذ أنّ الإختلاف سيستمر دائما مازال الجنس البشري موجود في هذا الكون، بل في حل الإختلافات بوسائل سلميّة من خلال المعرفة والحوار والتعلّم وبطرق سلميّة راقيّة وبعيدة عن الهنجعيّة والتّعصب والتّطرف.

ولن أتطرأ إلى عالم الحيوان وأسسه وقواعده حيث أنّ عالم نفس الحيوان هو عالم قائم بحدّ ذاته ونقف أمامه أيضا بذهول…

ومن هنا سوف أغمز إلى نظرية العالم إبراهام ماسلو بعنوان «نظرية الدّافع البشري» في المراجعة النّفسيّة  وذلك في بحثه عام 1943 والّتي تتحدّث عن تسلسل إحتياجات السّلامة والّتي عُرفت فيما بعد بـ«هرم ماسلو». فبمجرد أن تكون إحتياجات الشخص الفسيولوجية مرضية إلى حدٍّ ما، فإنّ إحتياجات السّلامة الخاصّة بهم تكون لها الأسبقيّة وتهيمن على السّلوك. وﻓﻲ ﻏﻴﺎب اﻟﺴّﻼﻣﺔ اﻟﺠﺴﺪﻳّﺔ ﺑﺴﺒﺐ اﻟﺤﺮب مثلاً، أو اﻟﻜﻮارث اﻟﻄﺒﻴﻌﻴّﺔ، أو اﻟﻌﻨﻒ اﻷﺳﺮي، أو الإﻋﺘﺪاءات المتنوّعة، ﻗﺪ ﻳُﻌﺎﻧﻲ الإنسان ﻣﻦ ضغوطات عديدة ومن ثم تتحول هذه الضغوطات إلى إضطرابات مثل إضطراب ما ﺑﻌﺪ اﻟﺼّﺪﻣﺔ.

وفي غياب السّلامة الإقتصادية بسبب الأزمات ونقص فرص العمل وإرتفاع نسب البطالة، تتجلى إحتياجات السلامة في هرم ماسلو في طرق مثل إجراءات حماية الفرد وذوي الإحتياجات الخاصّة وإنشاء حسابات التّوفير وسياسات التّأمين والأمن الوظيفي. كذلك إحتياجات السّلامة والأمن تدور حول حمايتنا من الأذى، وتشمل (المأوى، والأمن الوظيفي، والصحة، والبيئات الآمنة، إذا كان الشخص لا يشعر بالأمان في بيئة ما، فسوف يسعى إلى إيجاد الأمان من أجل البقاء. وتشمل إحتياجات السّلامة والأمن (الأمن الشخصي، الأمن المالي، الصّحة، ..).

وبعد تلبية الإحتياجات الفسيولوجيّة والسّلامة، يأتي دور إحتياجات الإنتماء الإجتماعي حيث تنطوي إحتياجات الإنسان على مشاعر الإنتماء والقبول بين الفئات الإجتماعية بغض النظر عما إذا كانت مجموعات كبيرة أو صغيرة. وتتفرع عنها إحتياجات التقدير، فالإنسان يبدو قلقاً بشأن حصوله على إعتراف الآخرين به وبتحقيق رغبته في كسب إحترام الآخرين وفي تحقيق مكانة مجتمعيّة وعلميّة تُشبع تطلعات أناه.

لذلك قد تتكون وتبرز عقدة النّقص كنتيجة لإختلال التوازن في تلبية الإحتياجات فينتج عن ذلك إنخفاض في تقدير الذّات مّما يؤدّي إلى خلق أفكار خاطئة عنه وعن غيره وتنعكس إلى سلوكيات سيئة وضارة حيث تختلج في مشاعر الكراهية والعدوانية والتمرد.

لهذا ذكرت ما ذكرت عن الإحتياجات وتلبيتها وإشباعها لأنّ الشخص الّذي يُعاني ما يُعاني لن يشعر بالسّلام الدّأخلي ولن يتشارك مع السّلام المجتمعي وبالطبع لن يكون منفتحاً على الآخر متفهماً له أو مستمعاً إليه وهكذا تبدأ النّزاعات.

وعليه يحتاج البشر إلى الحب والمحبة من قبل الآخرين حتى لا يكونوا عرضة للوحدة ولعذاباتها ولكل ما ينتج عنها من تداعيات مرضيّة، وكم من اضطراب نفسي كان من أهم أسبابه الشعور بعدم الإنتماء الأسري وبإختبار مشاعر التهميش ومن هذه الإضطرابات على سبيل المثال لا الحصر القلق الإجتماعي، والإكتئاب.

من ناحية ثانيّة يُمثل العقد الإجتماعي، أداة فاعلة لتحقيق نوع من التوازن بين الأطراف المختلفة، باعتباره المرجعية التي تحتكم إليها كافة الأطراف لحل النزاعات والإختلافات التي يمكن أن تحدث بينها عند حدوث أي إنتهاكات، لأنّ النتيجة المتوقعة من جرّاء ذلك، هو زعزعة الأمن والإستقرار، وسيطرة الإرهاب والعنف وشيوع التخلف والفساد. ولتحقيق السِّلم الإجتماعي داخل المجتمع الواحد أو بين الدول، يتطلب إحترام الإختلاف، وتعزيز سُبل الحوار المشترك، والإقرار بالتّنوع، والإمتثال للقوانين والمواثيق الدوليّة، التي تحفظ للمجتمعات أمنها وإستقرراها، وتضمن حرية ممارسة الأفراد لعقائدهم المختلفة وبحسب ثقافاتهم المتنوعة، وهذا ما يمكنهم المساهمة في تنمية وتقدم مجتمعاتهم.

إنّ الدعوة لنشر الوعي بأهمية السِّلم الإجتماعي ومسؤولية مجتمعية، وضرورة مُلحة، إذ يُعدُّ ذلك سبيلاً للتعايش السِّلمي بين البشر لأنّه يحدّ من نشوب النّزاعات والفتن، وهنا يأتي دور وسائل الإعلام والتّثقيف والتربيّة الّتي تعمل على غرس مفاهيم السِّلم الإجتماعي كوسيلة لتحقيق التلاحم والتماسك ليكون مجتمعا يملؤه السّلام والوفاق والوئام.

وقد ساهمت عصبة الأمم التي تأُسست في فرساي عام 1920 في عمليّة تأصيل وتعزيز التربيّة على السلام بعهودها وعقودها الدوليّة القائمة على مبدأ التوافق بين الدول. ولكن هذا التوافق بين الأمم والدول لم يؤت أكله بسبب رفض بعض الدول التدخل في شؤونها التربوية حيث اعتبر القطاع التربوي إمتيازاً وطنيا يجب أن ينأى عن أي تدخل دولي مهما كان شأنه. وقد شهد مفهوم التربيّة على السّلام تنامياً كبيراً في مناهجه ومجالات إستخدامه مع ولادة الحركة العالميّة للتربيّة على السّلام ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. وكذلك قد شهد مفهوم السّلام تطورا تكامليّا بأبعاد جديدة وتفاعلاً استراتيجياً وتدامجاً حيويّاً.

وكانت قد أصدرت منظمة اليونيسكو وثيقة دوليّة في عام 1974 أكدت فيها على مفهوم السّلام وعلى صلات التفاعل بين مكوناته كما أكدت على أهميّة التربيّة على السّلام بأبعاد عالميّة، وتضمنت هذه الوثيقة تأكيداً على أن التربيّة بأبعاد عالميّة تنطوي على دلالات مختلفة متكاملة مثل التعاون الدولي والسلام والتفاهم الإنساني من أجل خفض أجواء التوتر الناجمة عن الحرب الباردة فنادت الوثيقة بمبدأ بناء العلاقات الوديّة بين الشعوب والدول التي تنهج نهوجاً سياسيّة مختلفة.

وعليه يحتفل العالم سنويا باليوم الدولي للسلام في 21 أيلول / سبتمبر من كل عام، وقد أعلنت الجمعيّة العامة للأمم المتحدة هذا التأريخ ليكون يوماً موقوفاً لتعزيز مُثُل السّلام، بالإحتفال لمدة 24 ساعة من اللاعنف ووقف إطلاق النار. والموضوع المطروح لهذا العام (عام 2023) العمل من أجل السّلام، حيث يمثل دعوة للعمل تقر بمسؤوليتنا الفرديّة والجماعيّة عن تعزيز مفاهيم السّلام.

وقال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش: “نحن بحاجة إلى السّلام اليوم أكثر من أي وقت مضى. تطلق الحرب والصراع العنان للدمار والفقر والجوع، وتشرد عشرات الملايين من الناس عن ديارهم. فوضى المناخ في كل مكان، وحتّى الدول المسالمة تُعاني من فجوات في عدم المساواة والإستقطاب السياسي”.

لبنان كان السّباق في تعزيز أطر السّلام من باب علم النّفس إذ عقدت نقابة النفسانيين، مؤتمرها الأول بعنوان “علم نفس السّلام في مناطق النزاع: النّفسانيون كوسطاء للتغيير” في 21 أيار / مايو 2023 برعاية وزارة الصحة العامة، وساهم في دعمه كل من منظّمة الصّحة العالميّة والإتحاد العالمي للصّحة النفسية.

ونحن نتطلع دائماً أن يعم السّلام العالمي والحقيقي في كل بلاد العالم فتُلجم مطامع الدول ببعضها البعض ويُقطع شريان تطرفها حد النّرجسيّة في بعض الأحيان حيث يُصبح الإنسان هو أرخص ما يوجد مقارنة بخيرات الأرض وكنوزها فيدفع أثمانها الباهظة الضعيف والفقير ويتمتع الغني وصاحب النّفوذ بالجني الوفير.

فلننظر إلى ما يجري في القارة الأفريقيّة ببعض دولها الكثيرة والّتي تحتوي على ثروات هائلة من الذهب والمعادن والألماس والنفط بينما شعوبها تعيش في فقر مدقع وفي حرمان كبير وممنوع عليها تحقيق حتى أبسط الإحتياجات الممكنة فتغرق في ظلمة الجهل وبصراحة هذا هو المطلوب.

هذا وإن قمنا بمقارنة بسيطة عبر التّاريخ نجد أنّنا نعيش في حقبة زمنيّة تتمتّع بكثير من السّلام مقارنة بمحطات التّاريخ الغابرة وإن كانت حروب اليوم هي حروب باردة من نوع آخر وتشمل على الأسلحة البيولوجية والوبائية والجرثومية وكذلك السيبرالية الإختراقية والّتي تتسبب في كوارث ماليّة وعسكريّة وإجتماعيّة في كل مرة تُستخدم فيها.

المصدر: الوفاق/ خاص