التاريخ يسجّل مشاهد خالدة، ليست فقط في الكتب أو الأناشيد والسينما، بل في الذاكرة البشرية من جيل إلى جيل، وأحد الأحداث التي لا تُنسى أبداً هي قضية فلسطين وسرقة أراضيها من قبل الصهاينة، والجرائم التي قام بها الكيان الصهيوني من القصف والدمار وغيرها التي يندى لها جبين البشرية.
الإعلام والسينما والصهاينة
نشهد في السنوات الأخيرة كيف استغل الصهاينة مجال الإعلام والفن والسينما لسرد حقائق مزيّـفة ونشرها في العالم، وبذل أموال كثيرة في هذا المجال، وأما الفيلم الأخير الذي أحدث ضجة في العالم هو فيلم “الصندوق الأزرق” المزيّف الذي يقوم بسرد غير حقيقي عن سرقة أراضي الفلسطينيين.
تحفل منصات البث عبر الإنترنت، نتفليكس وأخواتها، بالأعمال الدراميّة والوثائقيّة الصهيونية التي تروي قصصاً خيالية وأخرى مستندة إلى وقائع غير حقيقيّة تشترك جميعها في تآمرها الفج والمزعج لفرض سرديّة عبرانية مسطرة، عن صراع بين الصهيوني الخيّر والشجاع والعبقري وأعدائه فلسطينيين وعرب، وإيرانيين أحياناً في موقع النقيض الأشرار والجبناء!!
وللحقيقة فإن إغراق هذه الأعمال بالأموال والكوادر وتقنيات التصوير المتقدمة لم يساعد على تجاوز تلك الثنائيّة الساذجة، والتسطيح الممل، فبقيت مفتقدة للإبداع، وعديمة الجدوى والإقناع، في نطاق استهلاك أقرب للمواد ذات الإستعمال لمرة واحدة، هذا إن استطاع المشاهد متابعتها للنهاية.
إن هذه الحالة القلقة للأعمال الوثائقيّة والدراميّة الصهيونية لا شكّ متأتية من وضع عدم اليقين، والتباس الحالة الوجوديّة التي تعاني منها “السايكولوجيا الجمعيّة” لشتات الشعوب، الذين تم تجميعهم من زوايا الأرض الأربع ليصبحوا إسرائيليين، لا سيّما وهم يرون بأم العين كيف يمارس الجيش الصهيوني والأجهزة الأمنية الصهيونية أسوأ أعمال القهر والتنكيل بأصحاب الأرض الفلسطينيين.
“الصندوق الأزرق” وثائقي من نوع مغاير
وثائقي “الصندوق الأزرق” العبري إنتاج إسرائيلي -كندي – بلجيكي مشترك، أسهمت في تمويله منظمات عدة بما فيها “وزارة الثقافة والرياضة” الإسرائيلية، و “مركز الفيلم الإسرائيلي”.
لذلك، هو لا يخرج كثيراً، في مقاربته، عن منهجيّة تيار المؤرخين الإسرائيليين الجدد، الذين يعيدون كتابة نتف من التاريخ المخجل للمشروع الصهيوني كنوع من العلاج السيكولوجيّ لحالة ما بعد الصدمة التي يجد فيها أيّ “إسرائيلي” عاقل ذاته عند مواجهة واقع دولته المنفصم والنقيض لأي منطق إنسانيّ.
“الصندوق الأزرق” عرضته القناة الرابعة في “بي بي سي”، ويتوفر للمشاهدة على موقعها، في الإطار الذي يستحقه، كعمل بصري نادر يتجرأ على تقديم صورة نقديّة، أقل أسطرة، وأقرب للواقع لجانب هام من الحكاية الصهيونية، إن جاز التعبير.
هذا العمل الصهيوني الوثائقي وافقت عليه الأجهزة الرسميّة، الثقافية منها والأمنية، يقدّم قراءة جدليّة لسيرة يوسف فايتز، اليهودي الروسيّ، الذي هاجر إلى فلسطين عام 1910 وهو ما زال يافعاً ليصبح لاحقاً أحد الشخصيات المؤسسة للكيان العبري من خلال عمله في إدارة تملك العقارات والأراضي في الصندوق القومي اليهودي.
فايتز، الذي جعلته الأسطورة الرسميّة بطل شراء الأراضي من أصحابها وتملكها لمصلحة الصندوق، و “الرجل الأخضر” الذي قاد عمليات تشجير “الصحراء” والأراضي البور في فلسطين التاريخيّة خلال عقود الثلاثينيات والأربعينيات، يتلقى من إحدى حفيداته “ميشيل فايتز، التي تروي قصة الفيلم” تقييماً مغايراً وصريحاً، بالاعتماد على وثائق رسميّة، وكذلك خمسة آلاف صفحة من يومياته غير المنشورة، والتي احتفظت بها العائلة، يذهب إلى تأكيد دوره المركزيّ في الاستيلاء على الأرض الفلسطينية، ومن ثمّ في عملية “الترانسفير” – أي التخلص من الفلسطينيين أصحاب هذه الأرض الأصليين، واستبدالهم بمهاجرين يهود من أوروبا الشرقية وأماكن أخرى – وتالياً تنفيذ مناورة هائلة لمنع عودة الفلسطينيين الذين شردوا خلال حرب 1948 إلى بيوتهم تضمنت التخريب الممنهج للقرى والبلدات الفلسطينية، ونقل ملكيّة أراضي الدولة – التي اعترف بها النظام الدوّلي – إلى ملكية الصندوق القومي اليهودي، بوصفه مؤسسة خاصة دوليّة، بحيث لا يعود من الممكن عملياً تنفيذ قرار الأمم المتحدة رقم 194 والذي ينص على حق العودة لمن يرغب من المهجرين الفلسطينيين!
الدّعاية الفاسدة حول “أرض بلا شعب”
يتضمن “الصندوق الأزرق” تفاصيل غاية في الأهميّة عن الأساليب التي اتبعها المشروع الصهيوني لإقتلاع أصحاب الأرض وسرقتها منهم. على أن أبلغ ما يأتي به على الإطلاق فهو إسقاطه للكذبة التي روجتها الحركة الصهيونية بين اليهود وغير اليهود، طوال النصف الأوّل من القرن العشرين والتي تدّعي بوجود “أرض بلا شعب في فلسطين”، وستكون “لشعب بلا أرض!”.
الجليّ وفق يوميات فايتز ذهابه للتأكيد أن الأرض لم تكن صحراء جرداء خالية من البشر، بل كانت مأهولة بالسكان المحليين الذين كانوا يزرعونها ويعتمدون عليها كمصدر أساس لمعيشتهم. ورغم شعوره بالألم لإضطراره للقيام بمهمة طرد الفلسطينيين من الأراضي التي يعتاشون منها، فهو يجد أن الأولوية هي لشعبه – “هكذا تسير الأمور – شعبي يأتي أولا” – أي أولئك اليهود المهاجرين بمحض إرادتهم من بلادهم التي عاشوا فيها جيلا بعد جيل قروناً عديدة.
ويبدو من “الصندوق الأزرق” أن الأراضي التي نجح اليهود في شرائها بمقابل، كان أغلبها لإقطاعيين عثمانيين غير فلسطينيين مقيمين في مدن بعيدة، مثل حلب والإسكندرية وبيروت والقاهرة ودمشق وعمان، وأن الفلاحين الذين كانوا يزرعون تلك الأراضي مقابل عائد سنوي للمالكين وجدوا أنفسهم بلا مقدمات مرحلين بقوة القانون والسلطة (البريطانية – أيّام الانتداب).
وحتى الأفندية وملاك الأراضي المحليين الذين تجرأوا على البيع للصندوق القومي اليهودي، فهم كانوا يشعرون بتأنيب الضمير – وفق فايتز دائماً – وتعرّضوا لعداء مواطنيهم الفلسطينيين، بل وتمت تصفية بعضهم جسدياً بوصفهم خونة.
تبرّع لتقتل فلسطيني وتسلب أرضه
يستعير الوثائقي عنوانه من الصندوق المعدني الصغير، الذي كان يطلى بألوان العلم العبري الأزرق والأبيض، ويستخدم لجمع التبرعات حول العالم لصالح الصندوق القومي اليهودي، الذي يتولى استخدام تلك الأموال في شراء أراض لليهود في فلسطين. ومن المعروف أن أموالاً طائلة جمعت من اليهود وغير اليهود في معظم دول العالم لهذا الغرض، لا سيّما من الأثرياء اليهود في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربيّة.
ومع أن الوقائع تشير إلى أن جزءاً كبيراً من تلك الأموال اختلسه القائمون على الصندوق، إلا أن ما وصل منها بالفعل إلى الأرض المحتلة استخدم في عمليّة أقل ما يقال فيها إنّها لا أخلاقية – وإن كانت تقنياً قانونيّة – وتسببت في تشريد مئات الآلاف من الفلسطينيين من الأراضي التي عاشوا وعملوا فيها دائماً، وقادت في المحصلة إلى قتلهم وطردهم من بلادهم واستبدالهم بمهاجرين أجانب.
التزييف وتغيير الحقائق
وأخيراً عندما نشاهد هذا الوثائقي نرى أنه يصوّر الفلسطينيين كمجموعة من المتوحشين البدائيين المتخلّفين!!
ندرك تماماً حجم وجديّة التوظيف الممنهج لتلك الأعمال في تعزيز السرديّة الصهيونية حول التاريخ والحاضر معاً، إضافة إلى دورها المحوريّ في تكريس وعي مزيّف للصهاينة حول هويتهم، ودغدغة سيكولوجيتهم الجمعيّة المهزوزة حكماً، ناهيك بتضليل الشعوب الأخرى حول حقيقة هذه التجربة البشعة من الهندسة الاجتماعيّة التي ابتليت بها الدول العربية منذ نشوء الحركة الصهيونية، وهزّ إيمان الإنسان العربي بحقوقه وقدرته على المقاومة.
ولكن ما هو اليوم على عاتق جميع أحرار العالم ووسائل الإعلام أن تقوم بتبيين الحقائق ومقاطعة أي عمل صهيوني يتخذ إجراءات لمواجهة هذه الأعمال المزيّفة.