لم يكن من بين المحتجين تجارا أو وجهاء كثر، فغالبية من حضر كانوا من المزارعين والغواصين المُعْدَمِين. كيف تجمعوا وما الذي حرك فيهم شعلة الهبة أو الانتفاضة لا يبدو الأمر واضحا من الوثائق القليلة المحيلة.
فكل ما ينقل هنا هو عن سير الوثائق البريطانية التي باشرت التعامل مع الأحداث في وقت كان الحاكم المحلي عيسى بن علي يخشى ثورة أكبر على حكمه أو انقلابا جماهيريا يعيده إلى الزبارة التي كان مطرودا فيها قبل 50 عاما وجلبه الانجليز بخطة وضعها المستر بيلي رتب فيها عودة عيسى بن علي إلى البحرين سنة 1869 وتنصيبه حاكما بدلا من عمه محمد بن خليفة الذي جرى اعتقاله في قلعته ونفيه إلى اليمن بعد سلسلة حروب أهلية دمرت البحرين وشعبها.
في هذا التاريخ كان عمر عيسى بن علي لم يتجاوز العشرين عاما ولم يكن يمتلك مؤهلات الحكم القوي لكنه من وجهة نظر الإنجليز يمثل الوريث الشرعي للحكم بعد مقتل والده من قبل أخيه محمد بن خليفة. لهذا كانت وجهة نظر الإنجليز أن شخصية ضعيفة في الحكم ستكون أسهل في إدارة البلاد دون متاعب، أما ضعف شخصيته ومؤهلاته في الحكم فسوف يتم تجاوزها من خلال المعتمد البريطاني أو المقيم السياسي في الخليج الفارسي، وسيكون أحمد بن علي أخ عيسى بن علي كافيا لسدّ الفراغ السياسي الناتج عن مسألة الضعف.
بالفعل استطاع هذا الثنائي من إدارة شئون البحرين دون مشاكل تذكر، خصوصا وأن البريطانيين كانوا يُعِّينون وكلاءهم من السكان المحليين، وينحدر هؤلاء غالبا من أسر لها صلات وثيقة مع البريطانيين كعائلة صفر أو حاجي فرغم انحدارهم من أبو شهر لكن لها صلات قوية بالبحارنة وقد يتشابهون مع السكان المحليين في المذهب. لا يهتم البريطانيون كثيرا بهذه التصنيفات بقدر تركيزهم على إمضاء المصالح دون مشاكل، فمع مطلع القرن العشرين وتحديدا في 1903 تم الاستغناء عن هذه الصفة وتم اعتماد الجنسية البريطانية في أي تعيين جديد لمنصب المعتمد أو الوكيل البريطاني.
بالعودة لسنة 1869 كان المستر بيلي واضحا جدا وشغوفا في إعادة رسم حدود منطقة الخليج الفارسي وتخليصها من التوترات العسكرية المخيفة للتواجد البريطانية والانتقال به إلى مرحلة جديدة تلبي طموح صناع الاقتصاد الحر والانتهاء من تبعات شركة الهند الشرقية.
بيلي كان مثقفا جدا ومحيطا بتقاليد وثقافة مجتمعات المنطقة لدرجة أنه كتب مسرحية خاصة عن الإمام الحسين يضاهي فيها مسرحيات شكسبير ويبدو أنه ألّفها قياسا على ما شاهده من شعائر عاشوراء في إيران والعراق والبحرين فجاءت المسرحية تلامس الفكر الثوري وتم عرضها في عدة مسارح في بريطانيا.
تقول الدعاية الرسمية لعائلة آل خليفة، أن بيلي استشار أهالي البحرين في تعيين عيسى بن علي حاكما بعد محاصرة السفن البريطانية جزيرة المحرق وميناء المنامة وفرض التغيير السياسي بقوة المدافع ووحشية سفن البحرية البريطانية التي لم تكن ترحم أحدا وقدمت تجربة في غاية النجاح سنة 1819 عندما دكت تلك البحرية سفن القواسم ومحت تواجدهم البحري عبر مجزرة دموية راح ضحيتها المئات دون أن توثق ظروف وفاتهم.
لم نعثر على ما يؤيد رواية آل خليفة بل أن سلوك بيلي كان متغطرسا وأنانيّا لدرجة أن تسبب سلوكه في عزلته السياسية وفشله في تحقيق طموحه العالي لأن يكون حاكم الهند. فقد فرض بيلي عيسى بن علي حاكما ومكنه من العودة إلى البحرين مع أسرته. وعندما اعترض عيسى بن علي على قرار المقيم السياسي القاضي بعزله عن الحكم في مايو 1923 واستند في اعتراضه على التأييد الشعبي المزعوم له، جاءه الرد في غاية القسوة والتحقير ووصفه المقيم البريطاني بأنّه كان يتيما ومطرودًا في الزبارة فجاء به الإنجليز وأعادوا له كرامته.
عمليا لم يكن لعيسى بن علي سطوة أو قدرة على الإدارة المحلية فشؤون الحكم المحلي كان يديرها أخوه أحمد بن علي حتى وفاته سنة 1888، وقدرت ثروته بحوالي نصف ثروة المنامة ومساحات زراعية هائلة استولى عليها بفن ودهاء دون أن يثير عليه الأهالي أو يصطدم معهم، ربما لأن الكثير من الأهالي قد هاجر من البحرين أثناء الحرب الأهلية التي امتدت أكثر من عشرين عاما وكان أفضعها ما حدث في 1845 حيث استباحت قوات البدو من الهواجر مدينة المنامة لسبعة أيام نهبوا فيها كل ما تطاله أيديهم من خشب البيوت أو مزارع الأهالي وممتلكاتهم وهو أمر سبب هجرة كبيرة من الأهالي للبلاد المجاورة وترك مزارعهم فكان من السهل الاستيلاء عليها وضمها للأملاك الخاصة لعائلة آل خليفة دون ضوضاء.
وجد عيسى بن علي نفسه بعد وفاة أخيه محاطا بإخوته وأبنائهم الجشعين وكان قد رتب شؤونه الخاصة بتعيين نجله سلمان وليا للعهد لكن القدر كان أقوى من هكذا حيلة سياسية فمات أبنه الأكبر في وقت مبكر من سنة 1897 وظل منصب ولي العهد شاغرا.
لم يستطع عيسى بن علي مقاومة شهوة الاستملاك التي كان أخوه غير الشقيق خالد يتحرك على تعليماتها. فكان خالد وأبناؤه يمثلون التوارث الحقيقي لصفات البدو الثقيلة على المجتمع الحضري لهذا كانت تصرفاتهم تعكس عقلية الغزو والاستملاك المجاني لثروات الآخرين.
وسط هذا الصراع على الثروات قرر عيسى بن علي الالتجاء إلى حكم الإقطاع كوسيلة لتسوية الصراعات الداخلية وحماية تماسك العائلة. وحكم الإقطاع لم يكن إلا صورة بائسة من حكم الإقطاع الذي قاد أوروبا إلى نظام المظالم وأبقاها رهينة الاستبداد لعدة قرون قبل أن ينتهي مطلع القرن الثامن عشر وتستعيد أوروبا كرامتها الإنسانية.
بل حتى التاريخ الإسلامي الذي عايش حكم الإقطاع فترة العباسيين ومن تلاهم حفل بالكثير من الانتفاضات والهبّات رفضا لهذا النوع من الإدارة السيئة للثروات. فحكم الإقطاع يعني سلب الناس من كل ممتلكاتهم وتسخير الفداوية والشرطة عليهم. لهذا كانت صكوك التمليك التي يصدرها عيسى بن علي لحكام المقاطعات الإحدى عشرة تتضمن تخويلا بحكم البشر والمدر وكل ما يريده حاكم المقاطعة من صلاحيات.
وفهم أولئك الحكام الدرس جيدا فمنع الأهالي من إصدار صكوك البيوع والمعاملات ولم يكن يتعرف بها إلا بشكل انتقائي حتى ألغي هذا النظام بعد 1923 واستبدل بنظام الطابو حيث استعاد الأهالي قدرتهم على توثيق الأراضي والمزارع المتبقية.
ليس أدل على سوء الأوضاع التي آلت إليها أحوال الأهالي من ما عرضته عريضة قُدمت في 1923 وصفت مظالم ثلاثة عقود خلت من حكم الإقطاع ونتائجه. فكتب أكثر من 300 شخص وصفا بليغا لأحوال مجتمعهم تحت حكم الإقطاع قائلين في نص عريضة مُهِرت بأختامهم وبصماتهم المشققة .
في هذه العريضة سنجد وصفًا لبدايات نشوء النظام الإقطاعي في البحرين وهو ما تغفله الوثائق البريطانية حيث تقول العريضة أن نظام الإقطاع نشأ قبل ثلاثين سنة تقريبا من تاريخ العريضة المرفوعة للمقيم البريطاني وقتها.
أي أن الإقطاع الذي كان سببا رئيسيا لنظام المظالم والتعديات على الأرض والأملاك تأسس في حدود 1893 وهي سنة مفصلية في بيت الحكم ومفصلية في حكم الشيخ عيسى بن علي آل خليفة تحديدا.
تقول إحدى الفقرات “نعرض على سعادتكم عن عموم الوطنين من شيعة البحارنة أنه منذ خمسين سنة تقريبا (1869-1923)، إذ نصبتم الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، في هذا البلد، ولا زلنا في تمام الأمن والراحة، إلى مدة ثلاثين سنة (1899) فبعد ذلك لما نشأت عائلة الشيخ عيسى اختلفت علينا الأحكام بسبب تقسيم القرى في أيديهم واستبد كل فرد منهم برأيه وتصرف تصرف المطلق في الرعايا. فمن ذلك استبد الجهل فما رأينا إلا زيادة الظلم والجور والنهب وقتل الأنفس، (ولا بدنا) سنين حتى ضاق بنا الخناق فاستغثنا إلى سعادة الشيخ عيسى بن علي ولا رأينا منه إلا عدم الاقتدار على أولاده وبني أعمامه ومن يتعلىّ، وقد زادت علينا المظالم إلى العام الماضي فرجعنا إليه و(اذكار) المظالم الذي وقعت علينا فطلبنا منه الشروط في رفع المظالم والغرامة والسخرة وغير ذلك بأن الحكم واحد لأن جزيرة البحرين صغيرة ولا تستحمل كثرة الحكام من النساء والرجال …”