الوفاق خاص/ حميد مهدوي راد
فيما يتعلق بالانقلاب العسكري في النيجر والغابون، ماهو تحليلكم للوضع الحالي في هذين البلدين؟
فيما يتعلق بالغابون ما يزال من السابق لأوانه الكلام حولها، ولا يمكن تحليل الموضوع بنظرة عابرة سطحية. فلم تتخذ أمريكا وفرنسا بعد موقفا قويا، كما أن عمر بونجو قد أصبح عديم الفائدة بالنسبة للغرب. وبما أن هناك الكثير من الإرتشاء والفساد الإداري في هذا البلد، فقد لاقى هذا الإنقلاب تأييداً من عامة الناس، وفي تحليل لصحيفة الغارديان، نسبت الصحيفة هذا الانقلاب إلى فرنسا، وبالطبع إن هذا الموضوع لحد الآن غير واضح المعالم على وجه التحديد.
وبسبب فساد عائلة بونجو (الأب والإبن) فقد أيد أغلب الشعب هذا الانقلاب. قبل سنوات زار “ميسي” الغابون وكان في استقباله علي عمر بونجو بنفسه فكانت هذه الخطوة قد قللت من شخصية الرئيس، وأججت انتقاد واستياء العديد من السياسيين في سائر الدول الأفريقية.
تُعد الغابون من الدول الإفريقية الغنية، وأحد أعضاء منظمة أوبك، وبحسب اعتقاد العديد من المحللين، إن الغابون لو أنفقت نصف عائداتها النفطية على البنى التحتية، لأصبحت هذه الدولة بمصاف دول مثل الإمارات العربية المتحدة، وهذا الأمر ينطبق على معظم البلدان الأفريقية.
لقد شهدنا خلال هذه السنوات انقلابات مختلفة في القارة الأفريقية، مثل انقلاب 2022 في بوركينافاسو، وانقلاب مالي عام2022، وانقلاب عام 2021 في غينيا، ويبدو أن هذه القارة هي أرض خصبة للانقلابات. فما هو تحليلكم لذلك؟
هذه حقيقة لا تنكر فإن الشعوب الناطقة بالفرنسية في البلدان الأفريقية (أفريقيا الفرنكفونية) في السنوات الأخيرة أصبحت مستاءة للغاية وغير راضية عن الوضع الحالي، فهم مستاؤون جداً من ظل فرنسا النحس وأفعالها في بلادهم واستمرار نهب فرنسا لمواردهم. ونظراً الى أن معظم دول غرب أفريقيا وشمالها كانت مستعمرات فرنسية لفترة طويلة، حيث 24 دولة أفريقية من إجمالي 54 دولة، هي ناطقة بالفرنسية. ويمكن القول أن اللغة الفرنسية في القارة الأفريقية هي الأكثر رواجاً من اللغة الإنجليزية ، ولهذا السبب وخلال العقدين الماضيين كانت معظم زيارات الرؤساء الفرنسيين ضمن سياسة محاولة امتصاص إستياء وغضب شعوب الدول الأفريقية.
لدرجة أن معظم رؤساء فرنسا قبل ماكرون أعربوا عن أسفهم وانتقدوا سياسات فرنسا الإستعمارية، والساسة الفرنسيون أنفسهم يعرفون مدى اشمئزاز وغضب الشعب الأفريقي من السياسات الاستعمارية الفرنسية ومن استمرار الاستعمار الجديد. لكن الحقيقة هي أن الناطقين بالفرنسية في أفريقيا يريدون الخروج تمامًا من سيطرة فرنسا والاستعمار الخفي للشركات الفرنسية.
ظاهرياً تُعد الدول الإفريقية الناطقة بالفرنسية مستقلة، لكن الموارد الهائلة من الذهب واليورانيوم والفضة والنحاس والماس والفوسفات وغيرها لا تزال تستغل من قبل الاستعمار الجديد للشركات الفرنسية، التي لها الكلمة الأولى هناك من خلال استغلال استخراج وإستكشاف ونهب المنتجات.
ويسود مثل هذا الوضع في مالي وغينيا وبوركينا فاسو والسنغال والكاميرون أيضاً، وتسعى فرنسا إلى استعمار هذه الشركات، ومع الأخذ في نظر الاعتبار أن العصر الحالي يختلف عن السبعينيات والثمانينيات، وأن مستوى الوعي ومحو الأمية لدى الناس قد ارتفع وأن سكان الريف الأفريقي أصبح لديهم أيضًا إمكانية استخدام الشبكات الاجتماعية والإنترنت، ويمكنهم تلقي و نشر كمية كبيرة من المعلومات.
وماذا عن النيجر؟ ماهي مبررات الإنقلاب؟
في النيجر كذلك نفس المبررات، فمن الطبيعي لم يحدث ذلك دفعة واحدة فيها، ولكن كما ذكرتم سابقاً، فإن دول القارة الأفريقية لديها أرضية خصبة للانقلابات، والنيجر ليست استثناءً من هذه القاعدة، وقد مرت حتى الآن بـ5 إنقلابات ناجحة، وعشرات الانقلابات الفاشلة، وكانت النيجر من الدول المهمة بالنسبة لفرنسا وهي إحدى الدول العشر التي تمتلك احتياطيات ضخمة من اليورانيوم في العالم. ومن المثير للاهتمام أنه بينما سينفد اليورانيوم في بلدان أخرى، بينما في النيجر كل يوم يتم اكتشاف أماكن جديدة من اليورانيوم. ومؤخراً، حقل دلتا بين تشاد وموريتانيا والنيجر، وهو مليء باحتياطيات الغاز والنفط. وعلى حد تعبير البعض أنه يتم توفير ما بين 15 إلى 35% من اليورانيوم المستخدم في محطة الطاقة النووية الفرنسية من مناجم اليورانيوم في النيجر.
كما تعلمون فإن اليورانيوم هو المادة الأساسية في المفاعلات النووية، ويجب أن يتوفر فيها اليورانيوم ، وإذا لم يتوفر اليورانيوم فإن الطاقة النووية تكون في الأساس غير فعالة. ومن ناحية أخرى، أعلنت وكالة الطاقة الذرية التابعة للاتحاد الأوروبي أن النيجر هي المورد الثاني لليورانيوم إلى الاتحاد الأوروبي، وهذا هو سر أهمية النيجر بالنسبة لفرنسا.
يوجد في النيجر منجمان كبيران من الحديد الخام ، حيث تمتلك شركتين فرنسيتين تدعيان اورانوست نسبة 64% من أسهمهما، وهما المسؤولتان عن استخراج ومعالجة اليوانيوم الخام من مناجم النيجر. وثلاثة أرباع الأرباح من هذه المصادر لصالح هاتين الشركتين الفرنسيتين. وبصرف النظر عن هذه المصالح، فإن للنيجر مصالح أخرى بالنسبة لفرنسا. فإذا عدنا قليلا إلى الوراء، سنجد أن فرنسا استثمرت بكثافة في تعليم وتدريب العديد من الأفارقة، كما تم تدريب العديد من قادة النيجر على يد فرنسا، فهم جيل مدرب من قبل فرنسا.
فالرئيس السابق قد تدرب على يد النظام الفرنسي. والناس في العديد من البلدان الأفريقية تنتقد بشدة قادتها وينتقدون الاستعمار القديم. وفي حين أن الانقلاب في كل مكان غير مرحب به ، إلا أنه في النيجر وبوركينا فاسو والغابون، يدعم الناس هكذا انقلاب ويعتبرون قادتهم دمى في يد الغرب وخاصة فرنسا.
وهذا في حين أنه في وقت ما كان إذا حدث انقلاب في دولة إفريقية، كان الناس يشعرون بالخوف، وكانوا يظنون أن الانقلاب سيسبب الفوضى ونهب الممتلكات العامة وما إلى ذلك، أما الآن في النيجر والغابون فالناس يملأون الشوارع مبتهجين، ويعبرون عن كراهيتهم للحكومة.
النيجر إحدى الدول الأفريقية التي كانت متعاونة للغاية مع فرنسا، حتى أن حكومة النيجر وافقت على نشر طائرات أمريكية مسيرة وقوات أمريكية خاصة في النيجر. لمحاربة بوكو حرام وداعش في هذه المناطق ومكافحة الإرهاب بمساعدة القوات الأمريكية. وبما أن العديد من الدول الأفريقية لديها حساسية خاصة من نشر الطائرات الأمريكية المسيرة، وإستقرار القوات الأمريكية. وكذلك أن العديد من الدول الإفريقية مناهضة للغرب والاستعمار، فمن الصعب جدًا قبول وجود قاعدة عسكرية أمريكية في هذه الدول.
يتمتع الرئيس بازوم بإمكانية الحصول على جميع الإمكانيات دون أية قيود. وبما أن العديد من اللاجئين من القارة الأفريقية يتوجهون إلى أوروبا، فإن معظم الدول الأفريقية لا تمنعهم، لكن النيجر كانت من الدول التي منعت الهجرة، وحاربت هؤلاء اللاجئين، لذا أثارت غضب عامة الناس، ومن ناحية أخرى فقد خصصت الولايات المتحدة ميزانية سنوية قدرها 500 مليون دولار للتدريب العسكري في النيجر. ولذا أصبحت النيجر بمثابة دمية وعميل للدول الغربية. حتى قبل بضعة أشهر، عندما زار وزير الخارجية الأمريكي “بلينكن” النيجر، شكر النيجر على نموذجيتها في الديمقراطية والتعاون والمقاومة، وانتقد العديد من المثقفين الأفارقة هذا الموضوع.
من خلال شواهد عدة يتبين أن هذا الانقلاب قام به الحرس الرئاسي. في حين أن معظم الانقلابات يقوم بها الجيش، كيف تفسر هذا التحول في الجهاز العسكري؟
نعم نشهد بأن مدبر الانقلاب هو نفسه قائد الحرس الرئاسي. ورئيس الحرس من الدرجة الأولى ويثق به الرئيس، لدرجة إنه يستطيع أن يلتقي بالرئيس كل يوم. ورغم أن أفراد الحرس الرئاسي تم اختيارهم بشكل دقيق ويتلقون تدريبات خاصة، إلا أن الانقلاب هذه المرة نفذه الحرس الرئاسي، وانضم الجيش إلى الانقلاب بعد 4 أيام من الصدمة.
وبما أن أفراد الحرس الرئاسي يتمتعون بحقوق ومزايا عالية، فليس لديهم مشكلة مع الحكومة، لكن في النيجر لم يكن الأمر كذلك، حيث سرى السخط الاجتماعي إلى جسد الحرس الرئاسي، ومن ناحيتها تقف فرنسا في مقدمة مواجهة مدبري الانقلاب وتسعى إلى استثارت (المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا) لاتخاذ موقف صارم ضد مدبري الانقلاب.
في الوقت الحاضر تغيرت الظروف، والانقلاب نفسه أوجد حالة تضامن ليس في النيجر فحسب، بل في بلدان أفريقية أخرى أيضاً، ويحظى مدبرو الانقلاب بدعم الشعب ويقدمون أنفسهم على أنهم عناصر مناهضة للغرب.
هل تم تحديد أية جهة أو أية حكومة كانت وراء هذا الانقلاب؟
الملاحظة المهمة والملفتة للإنتباه، هي أن الولايات المتحدة لم تتخذ موقفا صارما ضد الانقلاب، وكانت راضية إلى حد ما عن هذا الوضع، لأن الانقلاب يضعف موقف فرنسا في النيجر وفي سائر الدول الأفريقية الأخرى، ويقلل من نفوذ فرنسا في القارة السوداء، ويوقف تصدير موارد النيجر المعدنية إلى أوروبا، وبموازات هذه القضية، لدينا مسألة اعتماد أوروبا على أمريكا.
والحقيقة الأخرى التي يمكن ملاحظتها في هذا السياق هي أن الولايات المتحدة تبدي الإرتياح تجاه انقلاب النيجر، وأن هناك خطة كبيرة لنقل 30 مليار متر مكعب من الغاز النيجيري إلى أوروبا عبر طريق نيجيريا وإلى شمال أفريقيا، ومن هناك كانوا ينقلونه إلى إسبانيا وإيطاليا تحت عنوان “العابر للصحراء”، وهذه الخطة إذا نجحت، يمكن أن تكون خطوة كبيرة للغاية في إغناء أوروبا عن مثل هذه الموارد.
وهذا الأمر يصدق أيضاً بالنسبة الى موسكو، فموسكو أيضاً مسرورة بهذا الانقلاب، لكن إنصراف الأذهان إلى تدخل روسيا كان بمثابة الاستفزاز الإخباري. وإذا تأكدت هذه الخطة وتحققت، فإن اعتماد أوروبا على الغاز الأميركي والروسي سيقل، وبتنفيذ هذا الانقلاب تعطلت الكثير من المعادلات لصالح فرنسا وأوروبا، ولا تزال لروسيا وأميركا اليد العليا في هذا الأمر.
والأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو أن دولًا أوروبية أخرى مثل إيطاليا دعمت الانقلاب أيضًا، كما ان رئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني خاطبت فرنسا من خلال عرض صورة لطفل من النيجر كُتِبَ تحتها “أنتم تجبرون أطفال النيجر على العمل في المناجم وتستخرجون ما يصل إلى 30% من اليورانيوم في النيجر لمصلحتكم الخاصة، وفي الوقت نفسه، لا يزال 90% من الشعب النيجري محروم من نعمة الطاقة الكهربائية ، وهذه المسألة مهمة أن دولة مثل إيطاليا، التي كانت يوما ما تستعمر دولا مثل الصومال وإريتريا وإثيوبيا، واليوم تنتقد سلوك فرنسا وتدعم مدبري الانقلاب. وأعتقد أن الدائرة قد بدأت من غينيا، ثم بوركينا فاسو، ثم مالي، والآن النيجر، وستستمر هذه الحلقة بشعار مناهضة فرنسا ومعاداة الاستعمار.
لقد تصرف انقلابيو النيجر بذكاء شديد، حيث بدلوا الصحوة الإسلامية في شمال أفريقيا إلى حالة مناهضة الفرنسيين والاستعمار، وهذه الموجة ستؤدي إلى تعريض مصالح فرنسا للخطر وتعزيز مواقف اليساريين الأفارقة. دائما ضعوا هذه النقطة في نظر الاعتبار، وهي من غير الممكن أن يحدث انقلاب في أفريقيا دون التنسيق مع الدول الأوروبية، وخاصة الولايات المتحدة. بل ويقال إن ماكرون كان قد وبخ رئيس المخابرات الفرنسية في أحد الاجتماعات بعدم المعرفة والغفلة، فقال رئيس المخابرات الفرنسية: “لقد قدمت لكم تقريرا قبل أشهر وذكرت فيه أنه سيحدث انقلابا قريبًا في النيجر”. ولسوء الحظ، سخر بعض الوزراء من هذا التقرير.
د.ح