رُلى فرحات
صوتت الجمعيّة العامة للأمم المتحدة في تاريخ 14 ديسمبر/ كانون الأول عام 1990 ليكون يوم 1 أكتوبر بمثابة اليوم العالمي للمسنين أو اليوم العالمي لكبار السن وهو أحد أعياد الأمم المتحدة ومناسبة سنوية عالمية للإحتفال بما أنجزه كبارالسن وبما قدموه للمجتمع وكذلك لرفع نسبة الوعي المجتمعي بالمشاكل التي يواجهونها كسوء المعاملة التي يتعرضون لها ومسألة تداعيات تقدمهم في السن.
كبار السن هم الأشخاص الذين بلغت أعمارهم 60 سنة وما فوق، وهم جزء هام من النسيج المجتمعي ومشاركون فاعلين فيه وفي أسرهم الصّغيرة، حيث ينشرون الحكمة والوعظ ويحرصون على تطبيق التقاليد والمحافظة على القيم التي تُبقي الأجيال على بر الأمان. يؤدّون دور الحكيم بمحبة واتزان، ويزرعون الفرح في قلوب من حولهم وخاصة الصّغار بإبتسامات الرضا، فيكونون قدوة ومثل يُحتذى به في حياة الشباب المعاصر والذي يعيش معهم.
تُشير الأرقام إلى أنّه من المتوقع أن ينمو عدد الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 65 عامًا وما فوق من 761 مليون في عام 2021 إلى 1.6 مليار شخص في عام 2050، هذا ما جاء في التقرير العالمي لإدارة الأمم المتحدة للشؤون الإقتصادية والإجتماعية الصّادر في عام 2023. وهذه الزيادة الّتي أُشير لها ب 38% في تقرير يسبق جائحة كورونا قيل أنّها نسبة تفوق الشباب على مستوى العالم، وهي الأكبر والأسرع في العالم النامي، ومؤشّر للإعتراف بضرورة إيلاء مزيد من الإهتمام للتحدّيات المحدّقة والتي تؤثّر على كبار السن، بما في ذلك في مجال حقوق الإنسان.
والشيخوخة حقيقة بيولوجيّة لها طريقتها المعينة في الحدوث خارج نطاق التحكم البشري وتكون على مستوى التغيّرات الجسديّة كنتيجة لتراكم كميات كبيرة من نواتج تفاعلات الجزيئات والخلايا بمرور الوقت؛ مما يؤدي إلى تضاؤل تدريجي في القدرات الجسديّة والنفسيّة، وزيادة إحتماليّة الإصابة بالأمراض. وهذه التغييرات ليست حتميّة، فقد يصل بعض الأشخاص إلى عمر السبعين وهم يتمتعون بصحّة جيّدة، بينما بعضهم يصيبهم الوهن ويحتاجون إلى رعاية من الآخرين. لذلك فإنّ تعريف الشّيخوخة (المرحلة العمريّة لكبار السّن) يختلف من مجتمع لآخر، فبعض الدول تعتبر العمر مؤشرًا على الشيخوخة، فيكون سن 60-65 عامًا هو عمر التقاعد وبداية الشيخوخة. أمّا في عدة مناطق أخرى لا يؤخذ العمر بعين الإعتبار لتحديد الشّيخوخة بل هناك عوامل أخرى تُحدد سن التقاعد مثل: القدرة على أداء الأعمال الموكلة لكبير السن أي “أن الشّيخوخة تبدأ عند عدم قدرة الشخص على المشاركة بشكل فعال في المجتمع”.جورمان 2000.
وهناك عدة عوامل تؤثر على صحّة كبار السن، منها ما هو فردي ومنها ما هو مجتمعي، والمهم في الموضوع الشّيخوخة الصّحيّة أي أن يبقى كبير السن مستمرًا في الإستقلاليّة لأداء احتياجاته اليوميّة. وعليه تتنوّع المشاكل الّتي تُصيب المسنين بين الجسدية والاجتماعية والنفسية.
وأكد التقريرالذي حمل عنوان: “عدم التخلي عن أحد في عالم آخذ في الشيخوخة”على ضرورة وضع حقوق ورفاه كبار السن في صميم الجهود الجماعيّة لتحقيق مستقبل مستدام في ظل إستمرار العالم في التّصدي لأزمات متعددة الأوجه، بما في ذلك إرتفاع تكاليف المعيشة وكثرة الأزمات المتلاحقة من إقتصاديّة وإجتماعيّة وحتى طبيعيّة…
ينبغي تمكين كبار السن من التمتع بحقوقهم كاملة ومنحهم الحريّات الأساسيّة خلال فترة إقامتهم في الأمكنة المخصّصة لرعايتهم و/أو لعلاجهم. بالإضافة إلى إحترام خصوصياتهم ومعتقداتهم وتطلعاتهم وتأمين احتياجاتهم، ومنحهم حق أخذ القرارات وهذه نقطة هامة جداً في حياة المسن والتي تُشعره بالإستقلالية وبنوع من الحريّة، خاصة في تلك الأماكن الّتي تؤمن للمسن بعضا من التدريبات والأنشطة الّتي تُسليه وبذات الوقت من الممكن أن تُعلمه مهارة جديدة فيُصبح شخصًا منتجًا من جديد.
ولكبير السن الحق في الحصول على ما يكفي من الغذاء والماء والمأوى والملبس والرعاية الصحيّة والطبيّة والنفسيّة. وكذلك له الحق في المشاركات الإجتماعية والحضور بفاعلية وتلبية احتياجاته العاطفيّة والماديّة هي من أهم الحقوق لأنّ العمل على تقليل إحساسه بالعجز والعزلة يجعل منه إنساناً محبًّا للحياة ويشعر بلذة المشاركة والعمل على مساعدة الآخرين حيث يرتفع عنده منسوب تقدير الذّات والشعور بالقيمة مما ينعكس إيجابًا على صحتّه النّفسيّة والجسديّة.
وعليه، يجب تنظيم برنامجًا يومي ترفيهي لهم يتضمن أنشطة في الطبيعة والاستمتاع بمناظرها الخلابة بل والإندماج أيضًا في ربوعها، ومساعدتهم في أداء تلك الأنشطة والأخذ بيدهم إن احتاج الأمر بدون أن يشعروا بأنّهم ضعفاء ولا يقوون على أدائها لوحدهم. تبادل أطراف الحديث معهم بمختلف المواضيع التي يحبونها وبتطلعون لمعرفتها من سياسيّة وإقتصاديّة وإجتماعيّة وغيرها. وكذلك استشارتهم ليشعرا أنّهم مازالوا ذي قيمة ورأيهم يُعمل به.
هناك عوامل كثيرة تؤثر في صحة كبار السن، منها ما هو نُسمّيه عوامل فرديّة (عوامل جينيّة، التغيرات بسبب التّقدم بالعمر، الإصابة بالأمراض، العادات والسّلوكيات…). ومنها العوامل البيئيّة (المواصلات، المرافق الإجتماعيّة، التقنيّات المساعدة، البيئة المنزليّة…)
وكبير السّن يتعرض إلى الكثير من الأمراض المتنوعة بين جسديّة وعصبيّة وحتى نفسيّة. فمنها من يُصيب الجهاز التّنفسي (الأنفلونزا، والتهاب الرئتين، الحساسيّة). ومنها ما يُصيب أمراض الجهاز العصبي مثل: الجلطة الدماغية، والرعاش (باركنسون)، ومنها الأمراض النّفسيّة والعصبيّة (الزهايمر، الخرف، الإكتئاب، الهذيان). وهناك ما يُصيب مشاكل الجهاز الهضمي مثل: سوء التغذية، اضطراب الشره العصبي (الهزال أو السمنة)، الإمساك، ضعف حاسة التذوق، اإخفاض قدرة المعدة والأمعاء على هضم وامتصاص الطعام. بالإضافة إلى الأمراض المزمنة (إرتفاع ضغط الدم، مشاكل القلب وأمراضه والكلى، هشاشة العظام، ضعف البصر والسمع، السّكري، السرطان…) أمراض الجهاز العضلي والحركي (فقد التّوازن، التهاب المفاصل، إضطراب المشي، صعوبة الحركة أو عدمها).بالإضافة إلى اضطرابات النّوم وحوادث السّقوط والكسور. أمّا بالنّسبة إلى المشاكل الإجتماعية فتتمثل بالعزلة الإجتماعيّة وإنخفاض مستوى الأداء الوظيفي.
وبما أنّ التّمتع بالصّحة في مرحلة الشيخوخة هو عمليّة تطوير القدرات الوظيفيّة عند الإنسان والتي تمكّنه من التّمتع بالصّحة وبالعافيّة، فثمة حاجة عاجلة إلى العمل العالمي المتضافر والمشترك بشأن موضوع التّمتع بالصّحة في مرحلة الشيخوخة، حيث يوجد بالفعل مليار من الأشخاص البالغين من العمر 60 عاماً أو أكثر، ويعيش معظمهم في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل. ويفتقر العديد منهم إلى إمكانية الحصول على الموارد الأساسية اللازمة للعيش بكرامة وبحياة تستحق أن تُعاش، خاصّة أن العديد منهم يواجه عقبات كثيرة تحول دون مشاركتهم مشاركة كاملة وفعّالة في المجتمع.
وتتمثل القدرة على الأداء في التمتع بالقدرات التي تمكّن جميع الأشخاص من أن يحققوا في أنفسهم وفي أفعالهم ما يشعرون بأهميته. ومن هنا جاءت فكرة عقد التّمتع بالصّحة في مرحلة الشيخوخة (2020-2030) والّذي هو فرصة لجمع الحكومات، والمجتمع المدني، والوكالات الدولية، والمهنيين، والدوائر الأكاديمية، ووسائل الإعلام، والقطاع الخاص، لعشر سنوات من الجهود المتضافرة والمحفّزة والتعاونية التي تُبذل من أجل تحسين حياة المسنين وأسرهم والمجتمعات المحلية التي يعيشون فيها. وهذه هي خطة العمل الثانية لإستراتيجية منظّمة الصّحة العالميّة بشأن الشيخوخة والصّحة، وتستند إلى خطة عمل مدريد الدولية بشأن الشيخوخة، وتتماشى مع توقيت خطة الأمم المتحدة لعام 2030 بشأن التنميّة المستدامة وأهداف التّنمية المستدامة.
وتكمن أهمية الشيخوخة الصحية في المحافظة على القدرة الوظيفيّة خلال مرحلة الشيخوخة واستمرار الاستقلالية في أداء احتياجاتهم اليومية مثل: تناول الطعام، والإستحمام، وارتداء الملابس، والمشي، واستخدام دورات المياه بدون مساعدة الآخرين لأطول فترة عمرية حتى وإن كان المسن يستخدم أدوات مساعدة للمشي والتنقل (العصا، ومشاية كبار السن..)، والشعور بالعافية ورفع الروح المعنوية، زيادة عدد الناس الذين يتمتعون بنوعية حياة إيجابية ويشاركون بأنشطة اجتماعية وثقافية. كذلك إطالة متوسط العمر الصحي النشط للإنسان، وخفض تكاليف العلاج الطبي وخدمات الرعاية، وبالتالي خفض الوفيات المبكرة.
وللشّيخوخة الصّحيّة طريق يبدأ الإستعداد له في عمر مبكّر من خلال:
- المحافظة على السّلوكيات الصّحيّة الصّحيحة كالنّظام الغذائي المتوازن، والامتناع عن التدخين والمشروبات الرّوحيّة وممارسة الرّياضة والأنشطة الذّهنيّة مثل الشطرنج وألعاب الذأكرة والتي تساعد بدورها على تحسين القدرات البدنيّة والعقليّة، والإحتفاظ بوظيفة الإدراك وتأخير الإتكاليّة، والحد من مخاطر الإصابة بالأمراض المزمنة، بالإضافة إلى المحافظة على الكتلة العضليّة القويّة والضروريّة لسلامة الحركة.
- إعتبار القيام بالفحوصات الطبيّة الدوريّة والّتي هي بمثابة صحة وقائيّة كنمط حياة لكن بدون المبالغة فيه كي لا يتحول ذلك إلى اضطراب توهم المرض.
- الوقاية من الأمراض المزمنة عبر مراحل الحياة من خلال الحرص على الإصابة بها ممّا يمنع تراكم الآثار السلبيّة لعوامل خطورتها؛ فيؤدي إلى تقليل خطر الإصابة بمرض السكري وإرتفاع ضغط الدم، ويقلل خطر الإصابة بمضاعفاتهما، وأهمها والجلطة الدماغيّة وأمراض القلب والأوعية الدمويّة، والإعاقة الجسديّة.
- البيئات الداعمة التي تساعد كبار السّن على القيام بالأعمال المهمة لهم بغض النظر عما فقدوه من قدرات، مثل: إتاحة المباني ووسائل النقل المأمونة والمناسبة لهم والتي يسهل الوصول إليها، وطرق يسهل السير فيها وتتمتع بمواصفات تتناسب معه وتُحافظ على سلامته.
- أخذ قسط كاف من النوم، حيث يشكو كثير من المسنين من مشكلات في النوم مثل: الإستيقاظ المتكرر أثناء الليل الأرق، والنّعاس أثناء النهار. ولنومٍ صحي:
- إيقاف تشغيل التلفزيون والأجهزة الالكترونية ساعة واحدة على الأقل قبل النوم وتركها بعيد عن فراش النوم النّوم.
- التأكد من أن غرفة النوم هادئة ومظلمة وباردة.
- استخدام قناع العين للمساعدة على حجب الضوء.
في المقابل، يعتبر عالم الوراثة ديفيد سينكلير واستناداً إلى دراساته التي استمرت لأكثر من عقدين من الزمن، أنّه من الممكن تأخير الشيخوخة ببعض العادات البسيطة حتى يتمتع الإنسان بحياة أطول وأكثر صحة، إذ يعتقد أنه سيكون من الممكن قريباً القيام بذلك باستخدام الأدوية، التي لا تزال قيد الاختبار وتقول إنه من المحتمل أننا سنكون قادرين على عكس مرحلة الشيخوخة. يعتقد العالم أيضاً أنه يجب علينا تغيير طريقة تفكيرنا بشأن الشيخوخة بشكل جذري: فبدلا من إعتبارها عمليّة شائعة وطبيعيّة، يجب أن نتعامل معها كمرض، يمكن علاجه أو حتى الشفاء منه، فقط من خلال تغيير جذري في منظورنا للشيخوخة، يمكن للإنسانية أن تزيد بشكل كبير من متوسط العمر المتوقع.
من ناحية ثانيّة هناك بعض المفاهيم الخاطئة تجاه وعن كبار السّن. فنتشر في أذهان الكثيرين صور نمطيّة متشابهة عنهم، فيرونهم أشخاصًا يذهبون إلى النوم في وقت مُبكر إذ لا يستطيعون السّهر، ويميلون إلى العزلة فيقضون أغلب نهارهم في ممارسة الأشغال اليدوية وبعض الأعمال الخفيفة كإطعام العصافير أو ري بعض النباتات، بالإضافة إلى معاناتهم مع الكثير من الأمراض المزمنة ومرض باركنسون (الرعاش) والألزهايمر.لكن العلم أثبت أن تلك الصور النمطيّة لا يمكن تعميمها على جميع المسنين، إذ أنّ هناك إختلافات كثيرة وفروقات عديدة.
هذه الصّور الخاطئة بالطّبع تؤدّي إلى معاملة المسّنين بطرق ئؤذيهم نفسيًا في المقام الأول، ويُقصيهم ويحرم الآخرين والمجتمع من الإستفادة من قدراتهم وحجم خبراتهم. ومن هذه المفاهيم والصّور الخاطئة نذكر:
1-إخفاض مستوى صحتهم الجسديّة يعني أن تنخفض معه قدراتهم الذهنيّة والفكريّة:
في الحقيقة توجد بعض الأمراض والإصابات التي تُصيب جسد الإنسان وقد تؤثر في قواه العقليّة وفي ذاكرته أيضًا مثل: الجلطات الدماغيّة وإصابات الرأس، والإدمان على المخدرات والكحول وبعض العقاقير الّتي تُسبب تشوّهات فكريّة. ولكن التقدم في العمر ليس مقياسًأ ليكون سببًا مباشرًا من أسباب تدهور العقل.
نعم من الممكن أن يستغرق كبار السّن وقتًا أطول لتعلم استخدام أجهزة معيّنة أو مهارة معيّة خاصة في مواكبة التّطور التكنولوجي، ولكنهم يتعلموا بل ومن الممكن أن يُتقنوا ذلك أكثر من أولئك الذين يصغرونهم في العمر لأنه ببساطة فئة مسؤولة وتحترم الآخر كثيرين وتحب النّجاح في أي مهمة توكل إليها. بالإضافة إلى كون كبير السّن أكثر حكمة واتّزان في التعامل بالمواقف الإجتماعيّة خاصّة أنّهم يتمتعمون بقدر عال من الضّبط الإنفعالي والهدوء. فمن الشائع إعتقاد النّاس أن قدرة الإنسان على التعلم تضعُف مع تقدُّمه في السن، ولكن هذا ليس صحيحا بالضرورة، على الأقل فيما يخص المخ البشري وقدرته على إكتساب المعرفة في كل المراحل العمريّة ومهما تقدّم في العمر. صحيح أنّ الإنسان يُصبح أبطأ في التّعلم كلما تقدم في العمر، ولكن هذا لا يعني أنّه سيتوقف نهائيًا عن إكتساب أي مهارات أو لغات جديدة، أو علوم متنوعة. وفي دراسة حديثة نسبيا، تُشير إلى أن المرونة العصبيّة للمخ لا تقلّ مع التقدُّم في السّن كما كان يُعتقد، بل إنّها تعمل بشكل مختلف فحسب.والأمثلة كثيرة على من نالوا شهادة الدكتوراة في أعمار فاقت الثمانين عاما ومنها نذكر على سبيل المثال لا الحصر: الطبيب الإيطالي “مانفريد شتاينر” والذي أثار الإعجاب والفخر وسط المجتمع العلمي، بعد أن حقَّق حلمه القديم بأن يكون فيزيائيا وهو في عمر 89 سنة، بعد أن حصل على درجة الدكتوراه في الفيزياء من جامعة براون في سبتمبر/أيلول 2021. وهو الّذي عمل طبيبًا بناء على نصيحة عائلته لمدة طويلة من الزّمن، لكنّه قرر أن الوقت قد حان لمتابعة شغفه القديم بالفيزياء وتحقيق هدفًا قد طال إنتظاره. وأستشهد هنا بفنان عصر النّهضة الإيطالي مايكل أنجلو إذ قال في سن 87 عاما “ما زلت أتعلّم“.
2-جميعهم متشابهون:
يتميز كبار السّن بنكهات خاصّة وبفروقات قد تكون مذهلة في بعض الأحيان. فهناك من يبلغ الثمانين وأكثر وهم يتمتعون بقدرات لا نُبالغ إذا قلنا خارقة على المستوى الجسدي والعقلي والنّفسي والرّوحي خاصّة إذا ما قارنّاها مع فئة الشباب. ومن هذا النموذج نذكر أن العمر لم يقف عائقاً أمام السيدة النيوزيلندية نانسي ميهرن التي لا تزال تمارس رياضة ركوب الأمواج بالرغم من تجاوزها الثانية والتسعين من عمرها، وقد أصبحت مصدر إلهام للكثيرين. وكذلك السّيدة ناهدة عابدين وهي مدرّبة رياضيّة لبنانيّة تبلغ حوالي التسعين عاماً، وهي مازالت تحتفظ بكامل لياقتها الجسديّ’ والنّفسيّة والفكريّة.
على المقلب الآخر فهناك مسنون يحتاجون لكثير من الرّعاية والدعم ليقوموا بأبسط المهام اليوميّة مثل تناول الطّعام وإرتداء الملابس، ويعود ذلك إلى عدة فروقات في البيئات الإجتماعيّة والمادية والصّحيّة وإلى الظّروف الحياتيّة الّتي قضاها في ما قبل سن الشّيخوخة وتأثيرها لى حالة الإنسان بشكل عام في الكبر.
3-لا يمكنهم تعلم مهارات جديدة ولا يستيطعون التّطور:
عادة ما يرفض المسئولون توظيف من هم أكثر من خمسين عامًا بل أحيانا يكونون مُجحفين فيرفضون من هم أكبر من أربعين سنة، لأنّهم يعتقدون بأنّ كفاءاتهم تقل ولن يعد بإستطاعتهم تطوير مهاراتهم لتتناسب مع متطلبات العمل. بالطّبع هذه الحُجَّة غير منطقيّة، خاصة أنّ هناك دراسات كثيرة وعديدة تُشير بل وتُؤكد استطاعة تعلمهم مهارات جديدة مثل الأشغال اليديويّة والحرفيّة والتصوير وأنشطة حل الألغاز، وهذا ما يُؤدي إلى تحسّن قدرات الذاكرة لديهم خاصة حين يقومون بأمور جديدة وغير تقليديّة فتُشكل تحدٍّ عقلي بالنسبة إليهم ممّا يُؤتي بثمار جيّدة خاصّة أن المخ يستمر في النمو كلما طولب بأداء مهام جديدة، وأُستثير بأنشطة تتحدى قدراته، كما أنه يتضاءل وتقل قدراته إذا حرم من الإستثارة والتحدي.
4-يميلون إلى العزلة والوحدة وتجنب الأنشطة الإجتماعيّة:
المسنّون يفهمون أنفسهم بشكل جيد فهم يعرفون من هم الأشخاص المناسبون لمرافقتهم في مرحلتهم العمريّة الممّيّزة بكل تفاصيلها فهم لا يهتمون بكثرة العلاقات الإجتماعيّة الّتي لا تعود عليهم بفائدة، ويُفضّلون إختيار القليل من الصّداقات التي تجعلهم أفضل وتُضيف إلى سجلّاتهم الحياتيّة لذة ومعرفة وخبرة، فكلما تقدمنا في السّن زاد لدينا الذّكاء الإجتماعي، مما يجعلنا نصل إلى فهم أفضل للعلاقات وللإختيارات الحياتيّة.
وللمسّنين في العديد من الدول أهميّة كبيرة في تقديم الخدمات الإجتماعيّة الّتي لا غنى عنها مثل إعتناء الأجداد والجدّات بأحفادهم، كذلك هناك الكثير من المنظمات التطوعيّة التي يُشكّل المسنين فئة رئيسيّة من نسيجها.
5-إصابتهم بالألزهايمر مسألة حتمية:
لا يجوز أن نعتبر أنّ مرض الألزهايمر هو جزء طبيعيّ من مرحلة الشيخوخة، إذا كان هناك شخصٌ مسنّ مصاب بالنسيان، إذ من الممكن أن يكون مرضه له صلة بنمطيّة حياته الّتي يعيشها ومتعلّق بنظام التّغذية الّذي يتبعه، أو نتيجة مشاكل طبيّة وأدويّة يتعاطاها، أو ناجمٌ عن ضغوطات حياتيّة نفسيّة وإجتماعيّة وحتى أحداث صدميّة. فليس بالضرورة أبدًا أنّ كل من ينسى يُفترض تشخيص إصابته بالألزهايمر.
ولا بُدّ في نهاية حديثنا عن الشّيخوخة أن نتطرأ إلى الشّيخوخة النّفسيّة والّتي تُعرّف في الطب النفسي للمسنين على أنّها حالة تُسمّى ضمور الدّماغ، وفقدان الحجم فيه، وتُؤثّر في إنتاج الموصلات الكيميائية في الدماغ مع تقدم العمر، وهي تُلاحظ مع الشيخوخة الطبيعية.
من ناحية ثانيّة وحين يتغيّر نمط حياة الشّخص بعد تقدمه بالعمر فيُعاني من بعض التغيّرات الوظيفيّة، ويختبر فقدان الأحبة وبعض مشاعر الخذلان والوحدة، والخوف، والقلق وعلى رأسها قلق الموت، وهذه أمور ومشاعر كلّها تُؤثر في صحة المسّن النّفسيّة وتُصيبه بالإكتئاب، الهوس، حتى وبالوساوس وبالذهانات، فتنعكس تداعياتها على صحتّه الجسديّة فيُعاني ما يُعانيه من آلام وأوجاع لا تنفع معها العقاقير والأدويّة لأنّها مصدرها داخلي وآلامها في الرّوح وليس في أعضاء الجسد…
ولا ننسى ما يتعرض له المُسّن من سوء معاملة سواء في الأماكن المخصّصة لإيوائهم وللإهتمام بهم أو أحيانًا داخل أسرهم، حيث نرى الكثير من الأبناء يتخلّون عن آبآئهم وإن لم يضعهوم في دار المسنين (إني لأرفض تسميته “مأوى العجزة” لما في هذه التّسميّة من تنمر وتجريح في كراماتهم وحط من أقدارهم، الكبار في السن هم بركة وليسوا عجزة!!!) فهم ينشغلون بأمورهم الشخصيّة وينغمسون في أعمالهم وفي عائلاتهم ويعتنون بأطفالهم وأزواجهم ويكدّون لتأمين حاجياتهم ويسهرون ليرو إبتساماتهم. وهم بهذا ينسون منْ سهر تلك الليالي وضحى وكدّ وعمل حتى أصبحوا على ما هم عليه اليوم، يشغلون مراكزًا ويُحقّقون إنجازاتٍ كان أساسها الأول الأب والأم اللذان مهّدا الطّريق لولدهما كي يسير في نهج العلم والطموح. يظنون أن الآباء يطلبون الكثير، وهم للحقيقة يكفيهم السؤال عن حالهم والجلوس معهم لتمضية بعض الوقت بتبادل أطراف الحديث. فقط يُريدون أن يروا في عيون أبنائهم أنّهم مازالوا حاضرين وهم على قيد الحياة لا الموت.
وهذه مشكلة موجودة في كل دول العالم المتقدّمة منها والنّامية، كذلك تبرز في مختلف العائلات الفقيرة أو الغنيّة. وهي مشكلة حقيقيّة لفتت النّظر إليها الأمم المتحدة في التّحضيرات للإحتفال بيوم المسن العالمي في السنة الماضيّة (2022) حيث عنونت الوثيقة بـ “التّصدي لإساءة معاملة المسنين” وضمّنتها خمس أولويات لعقد الأمم المتحدة للشيخوخة الصحيّة 2021-2030. وحدّدت تلك الوثيقة الأولويات الرئيسة لمنع إساءة معاملة المسنّين والتّصدّي لها بما يُسهم في تحسين تنعمهم بالصّحة والرفاه وصون كرامتهم. وفي إحتفال هذا العام (2023) سوف يتم عرض المستجدات في ما يتصل بتنفيذ تلك الأولويات، ومنها معالجة العنف القائم على النوع الإجتماعي في مرحلة الشيخوخة في إطار السياسات العامّة والقوانين والإستجابات المرتكزة على الأدلة.
ومن هنا يجب وضع مناهج وبرامج لكشف ومعالجة إساءة معاملة المسنّين في سياق ثقافي توعوي من خلال الحكومات ومنظّمات المجتمع المدني والأنديّة والمراكز الّـتي تُعنى بالدّعم والإرشاد والتوعيّة والتّثقيف. بالإضافة إلى تدريب العاملين في المستشفيات والمراكزعلى كيفية التّعامل مع كبار السّن والرأفة بهم واحترام عقولهم وأفكارهم وإحتياجاتهم ودائمًا النّظر إليهم بإحترام وتقدير وعلى أنّهم أشخاص منتجون وإن اختلف مقياس انتاجهم ما بين العاطفة والحنان واللإبتكار والحكمة.
كبارنا هم عزّنا وكرامتنا وعنفواننا، هم وطننا الحاضر وعبق التاّريخ المنتقل إلينا من خلال إرث الزمن. ولا ننسى أنّنا شبابُ اليوم وأطفال الماضي والشّيخوخة تنتظرنا في الغد القريب…!!!
أ.ش