إن زيارة السفير السعودي نايف الديري إلى الضفة الغربية وتسليم أوراق اعتماده لدى السلطة الفلسطينية، تعدّ تطوّراً غير مسبوق منذ عقود، فالزيارة هي الأولى من نوعها، ولعل أبرز ما نتج عن هذه الزيارة هو تصريحات السفير السعودي، وعرضه للموقف السعودي تجاه القضية الفلسطينية، وتمسّك الرياض بحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على قاعدة حل الدولتين.
اللافت هنا أن الزيارة تأتي بعد أيام قليلة من الكشف عن مفاوضات بين السعودية والاحتلال الإسرائيلي برعاية أميركية، بغرض دفع عجلة التطبيع مع السعودية إلى الأمام، تزامناً مع تصريحات تعدّ الأولى من نوعها لولي العهد السعودي محمد بن سلمان، والتي قال فيها إن السعودية تقترب أكثر وأكثر من إقامة علاقات رسمية مع “إسرائيل”.
ثمّة رابط مهم ما بين تفسير حقيقة الموقف السعودي من القضية الفلسطينية، وتصريحات ابن سلمان. فتصريحات السفير السعودي إذا ما قورنت بالواقع الذي فرضته حكومات الاحتلال على مدار تاريخها، وصولاً للحكومة الإسرائيلية الحالية التي تعد الأكثر إجراماً بحق الفلسطينيين، سنجد أن مثل هذه التصريحات ما هي إلا ذرّ للرماد في العيون، وأن ما يسمّى بحل الدولتين أصبح شيئاً من الماضي بفعل استمرار الاجرام الإسرائيلي، والسيطرة على الأرض والإمعان في انتهاك المقدّسات، والعمل على تقسيم المسجد الأقصى زمانياً ومكانياً. كما أثبتت كل الوقائع أن نتيجة التطبيع مع دول سابقة كانت عامل تشجيع وفتحت شهية “إسرائيل” أكثر نحو ارتكاب مزيد من جرائم القتل والبطش والتنكيل وانتهاك المقدّسات، كما يتضح أن ما يعني الأنظمة المطبّعة مع “إسرائيل” أولاً وأخيراً هو حماية كرسيّ الحكم فيها، ليس أكثر من ذلك.
التحرّك السعودي في هذا الصدد من حيث التوقيت يعد صفقة سياسية ورشوة مالية، ويندرج في إطاره ضمان تمرير التطبيع بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية من دون معارضة صريحة، وهي أوّل من أقامت علاقات رسمية واعترفت بـ “إسرائيل” بعد توقيع منظمة التحرير الفلسطينية اتفاق أوسلو عام 1993، وفتحت الباب على مصراعيه لكثير من الدول نحو الاقتراب من “إسرائيل” أكثر، فكانت السياسة الرسمية الفلسطينية منذ تلك اللحظة عامل تشجيع لكثير من الأنظمة في إقامة علاقات تطبيع سرية ثم علنية مع “إسرائيل”.
أما الرشوة المالية فستتعهّد السعودية بتأمين ما أسمته الحقوق السياسية وتوفير فرص اقتصادية أفضل للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهذا يندرج في إطار دعم مسار السلام الاقتصادي الذي تتبنّاه الإدارة الأميركية وحكومة الاحتلال الحالية، في ظل انشغال الولايات المتحدة بملفات كبرى في المنطقة، وهذا يكشف من جهة أخرى طبيعة تراجع الموقف العربي الذي كان يطالب بدولة فلسطينية أصبح يتحدث عن تحسينات معيشية ودعم اقتصادي مقابل علاقات تطبيع مع “إسرائيل”.
اللهفة السعودية للتطبيع تشير بوضوح إلى أن الدول التي تسعى للتطبيع مع “إسرائيل”، تقايض التطبيع في مسارين أساسيّين، المسار الأول يندرج ضمن مكاسب خاصة بها وكان ذلك ملاحظاً في المطالب السعودية، والمسار الثاني تنضوي تحته الإغراءات بتقديم الدعم المالي للسلطة الفلسطينية التي تعيش أزمات مالية مستفحلة، وهذا يأتي على حساب عدالة القضية الفلسطينية التي كانت تعد قديماً قضية العرب والمسلمين المركزية الأولى، وكلّ ذلك يتم تحت شعارات ووهم تعيشه الأنظمة العربية، سواء التي طبّعت أو التي تسعى للالتحاق في ركب التطبيع.
ثمة نتيجة ثابتة برهنتها تجارب التطبيع السابقة، وهي أن الأنظمة التي تكثر الحديث عن انتظار خطوات ملموسة تجاه الفلسطينيين وإيجاد حل لقضيتهم، هي أنظمة تسوّق خطاب الوهم للتغطية على جريمة التطبيع التي تريد ارتكابها، وأن الهدف من وراء هذه التصريحات هو توفير غطاء للقيام بالجريمة.
محطات كثيرة أثبتت أنّ التطبيع الذي سلكته الأنظمة العربية شكّل انحرافاً خطيراً في الموقف العربي التاريخي من القضية الفلسطينية وعمقها العربي والإسلامي، لكنه كشف عن الفجوة الكبيرة بين سلوك مشين وخطير ومنبوذ، وبين توجّهات الشعوب العربية التي طبّعت، بمعنى أن التطبيع هو تطبيع حكومات لا تطبيع شعوب مهما روّج له.
على مدار التاريخ لطالما عبّرت الشعوب العربية والإسلامية بوضوح لا لبس فيه البتة، عن موقفها الرافض وبشكل مطلق من التطبيع مع “إسرائيل” أو فكرة التعايش معها، وهذا ما أكده آخر استطلاع حديث حول رغبة السعودية التطبيع مع “إسرائيل”، والذي نشره مركز دراسات الشرق الأدنى الأميركي، وكشف فيه عن أقلية سعودية تدعم تطبيع السعودية مع “إسرائيل”، مقارنة باستطلاع سابق نشر في الصدد ذاته. وفي حال أقدمت السعودية ووصلت للحظة التطبيع الرسمي فإنها ستهدم كل أرصدتها الرمزية والدينية باعتبارها قبلة المسلمين، فضلاً عن ذلك فإنها ستقوّض كل المكتسبات السياسية والاقتصادية التي بنتها في السنوات الأخيرة باعتبارها لاعباً إقليمياً مهماً في المنطقة، مستفيدة من حال التعددية القطبية الراهنة والحاجة لنفطها وموقعها الحسّاس.
أيّ تنازلات تمنح للسعودية من جرّاء التطبيع ستؤثّر على رصيدها في عقول وقلوب الأمة العربية والإسلامية، بل وفي قلوب المسلمين في مناحي الأرض، وأيّ تطبيع سيؤثّر على رصيدها المادي والمعنوي معاً من دون أن تحصل على شيء، ولنا في الدول المطبّعة السابقة عِبَرٌ لمن لا يعتبر. وهنا علينا أن نتوقّف أمام تغريدة للمتطرف الصهيوني يهنوتان يوسيف، عضو مجلس بلدية الاحتلال في القدس، في مقابلة أجراها حديثاً مع القناة الإسرائيلية (14) تكشف العقلية الصهيونية تجاه العرب كافة، والذي كشف فيها عن النظرة اليهودية تجاه العرب: “يجب أن نصنع نكبة ثانية للعرب لأنهم نسوا النكبة الأولى”.
صحيح أنه بهذا التصريح يقصد الفلسطينيين، لكن المهم بالنسبة إليهم أنه لا يوجد ثمة فرق بين العرب والفلسطينيين، ومثل هذه التصريحات ما هي إلا إهداء إلى كلّ المتشبّثين بمسار التطبيع، الداعين إلى التعايش مع “إسرائيل” ممن يمدّون حبل النجاة لكيان مأزوم يعيش في مأزق على كل المستويات، ولا مستقبل له بعد أن تأكّلت كل مكامن القوة فيه.
مع كل الآلام التي تصيب الشعب الفلسطيني برؤيته سقطات دول عربية في وحل التطبيع، في ظل التراجع الكبير في الموقف العربي تجاه القضية الفلسطينية، والهرولة نحو إقامة تطبيع علاقات رسمية مع “إسرائيل”، تأتيك صورة تطبطب على قلوب الفلسطينيين، في وقت سجّلت وما زالت تسجّل فيه إيران موقفها الثابت الراسخ والمتقدّم في سياستها الخارجية، بنصرة فلسطين في المحافل كافة، والتي عبّر عنها حديثاً الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في خطابه الأخير من على منصة الأمم المتحدة، كما تواصل دعمها للمقاومة ورفضها كل أشكال التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي.
أما عن “إسرائيل” ولو مدّ العرب جميعاً أياديهم إليها، فستبقى كياناً سرطانياً احتلالياً عنصرياً فاشياً، لا سلم ولا تعايش معه، ولن يكون ذلك في يوم من الأيام، بل هو عدو أبدي، والتطبيع معها لا يجلب أي مصلحة في المنطقة بل يشكّل تهديداً لها وخطراً على مصالحها. أما عن السعودية فهي ليست بحاجة إلى هذه العلاقات، والتطبيع خيانة لفلسطين والقدس وطعنة في شرف الأمة، ولا يجوز تبريره أو تسويقه تحت أي ظرف كان وفي أي زمان، فلسطين فوق الجميع هي الرافعة والخافضة، وهي قضية طاهرة وستبقى كذلك، من اقترب منها ارتفع ومن تخلّى وتطبّع مع “إسرائيل” سيردّ إلى أسفل السافلين.