يلعب هذا الفيلم دوراً كبيراً في تقديم فيلم سيرة «تطبيلي» لواحدة من أفظع النساء القتلة عبر تاريخ البشرية جمعاء. ربما قد تبدو الجملة صادمةً في التعامل مع «شخصية سياسية». لم تكن غولدا مائير (1898 ــ 1978) كذلك، كانت رئيسة وزراء العدو الصهيوني التي قالت يوماً لوزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر أثناء حصار الجيش الصهيوني للجيش الثالث المصري: «سأقصفهم جميعاً، وأقتلهم وسأخلق مئات الآلاف من الأرامل واليتامى، جربني وسترى» (كلامٌ ورد في مذكرات كسينجر، كما في الفيلم).
يروي الفيلم جانباً من حياة مائير وتحديداً أيام حدوث «حرب العبور» وما تلاها من شبه محاكمة مع لجنة التحقيقات «أغرانات» التي حققت مع القادة الصهاينة لأدائهم خلال تلك الحرب. يغوص الفيلم في تفاصيل الحياة اليومية لرابع رئيسة وزراء صهيونية (1969-1974)، والمرأة الوحيدة التي سمّيت ضمن «ملوك إسرائيل الجدد». يمرّ على التفاصيل اليومية خلال أيام الحرب يوماً بيوم، مظهراً ما كان يحدث معها إبان تلك الأيام، مع التركيز الدقيق على علاقاتها مع «مجلس الحرب» الصهيوني، مسؤولي الموساد، والسياسيين والوزراء.
في الإطار عينه، يعرج على حياتها الشخصية، إصابتها بالسرطان، سلوكياتها الشخصية اليومية كالتدخين الكثيف، حتى أنه يتناول «موضتها الخاصة»، إذ اشتهرت باسم «حذاء غولدا» وهو «حذاء طبي» خاص كانت تنتعله بسبب مشكلة في قدميها. الفيلم «سياسي» بامتياز، يروي تاريخ غولدا ضاغطاً كل «أزرار» التعاطف معها منذ اللحظات الأولى. بدلاً من «السيدة الحديدية» والمرأة «المتوحشة» كما كان يصفها خصومها السياسيون، شاهدنا سيدةً مسنّة تتعرّض لـ «المساءلة القانونية»، وتواجه «التظاهرات ضدها في الشوارع»، وفوق كل هذا معاناتها من السرطان الذي ينهش جسدها في ما هي تقاوم عبر التدخين.
يخترع صنّاع الفيلم شخصيةً جاذبة، ويجعلوننا كمشاهدين ندور حولها بافتتان. يخلق هذا تعاطفاً مذهلاً لا مع «غولدا»، بل مع جيشها و«شعبها» أيضاً: مشاهد قصف الطائرات المصرية والسورية وانتصارها في حرب العبور، نشاهده مترابطاً مع ملامح غولدا المتعبة والمنهكة والحزينة في آنٍ. حتى اللعبة الكلاسيكية «المستهلكة» و«الكليشيه» حيث نرى البطل/البطلة يسألان أحداً عن ابنه/ابنتها ليكون الجواب بأنه «على الجبهة»: طبعاً لاحقاً سيقتل هذا الابن؛ لنرى غولدا تبكي بحرقة على ابن مساعدتها. تبدو كما لو أنها «الموناليزا» بصمتها وحزنها تجاه ما يحدث كما لو أنّ لا دخل لها بهذا الأمر، وكما لو أنَّ هذه الحرب لم تكن من صناعتها من ألفها إلى يائها.
رغم هذا كله وفي لحظة «تخلّ» من صنّاع العمل، يظهرون قوة غولدا حين تحادث هنري كيسنجر (لو شرايبر) وزير الخارجية الأميركي آنذاك قائلة: «لن يأخذوا بالقوة أي شيء، إذا ما أرادوا أرضهم (تقصد المصريين) عليهم أن يعترفوا بإسرائيل». يحاول الفيلم تغييب الأعداء (نحن)، فلا تمر أي شخصية «عربية» سوى بعض الصور للرئيس المصري أنور السادات ضمن فيديوات تُبثّ على التلفزيون في الخلفية. تشد غولدا «الجمهور» دائماً عبر سلوكياتها «العاطفية» المكتوبة باحترافية في العمل: تقول طوال الوقت إنّها «سترحل» و«لن تطيل البقاء»، وهذا الكلام يبدو شديد الأثر، وخصوصاً حين نرى تأثير أدوية السرطان القوية عليها حين يبدأ شعرها بـ «السقوط»، ويبدو الهلع على وجه مساعدتها لو كادار (كاميل كوتين). إنه مرضٌ عالمي مشترك، بالتالي سيكون التعاطف كبيراً.
إلى هذا الحد ينجح الفيلم في تقديم شخصية «مجرمة» بهذا الشكل البريء، الطيب، والطاهر. سيدة، مسنة، تعمل في منزلها العادي، غير المبهرج، تطبخ، تصنع الحلويات والكيك، تنام على سريرها وحيدة، تزور ابنها أيام العطلة، تبتسم لجميع من حولها، وتعاملهم بلطفٍ شديد. نجح المخرج غي ناتيف في تقديم شخصيةٍ يمكن لأبناء من يتّمتهم غولدا وجيشها وقواتها العسكرية أن يتعاطفوا معها، شاعرين بأنهم «ظلموها» حين لم يتركوها تحتل أرضهم، وتهدم بيوتهم على رؤوسهم، وتقتل آباءهم وتقتلهم، فقاوموها ولا يزالون.
في «غولدا»، نحن أمام فيلم «بروباغندا» مهدى «إلى من سقطوا في حرب يوم العبور من الصهاينة». فيلمٌ مصنوع بتأنٍ ومهارةٍ. فيلمٌ سياسي، لا شيء فيه يخضع للمصادفة، قائمٌ برمته على «الاهتمام بتاريخ كيان الاحتلال» وتحسين صورته، عربياً وعالمياً، مع بدء تبيان أن كيان الاحتلال وكل ما بُني عليه، كما يقول إيلان بابيه، أحد مؤرخي الكيان الجديد: «قد بني على حق القوة، لا حق توراتي، وليس فيه شيءٌ مقدسٌ أو طيب وطاهر. فقط حق القوة».
أ.ش