مؤلفاته لاقت رواجاً لدى الأوساط العلمية

الآخوند الخراساني.. قائد وسياسي بارع

انتشر صيت الآخوند الخراساني في أرجاء المعمورة، ودوّى اسمه في الآفاق، ونال من المنزلة الرفيعة والمقام العلمي الشامخ، وقد تجاوزت شهرته في العلم وبراعته في التدريس آفاق النجف الأشرف

2022-12-14

الوفاق/خاص/عبير شمص

ولد الملا محمد كاظم بن الملا حسين الهروي الخراساني والمشهور بالآخوند عام 1839م في مدينة مشهد المقدّسة، أكمل دراسة المقدّمات في مشهد المقدّسة، ثمّ ذهب إلى مدينة سبزوار لدراسة الحكمة والفلسفة، وبقي فيها مدّة قصيرة، ثمّ توجه إلى طهران لمواصلة دراسته الحوزوية، وبقي فيها مدّة قصيرة، ومن ثم سافر إلى النجف الأشرف لإكمال دراسته الحوزوية، وبعد سفر أُستاذه السيّد الشيرازي إلى سامرّاء المقدّسة التحق به، وبقي هناك مدّة قصيرة يحضر دروسه، ثمّ عاد إلى النجف الأشرف.

مكانة العلامة الآخوند العلمية

يعتبر العلامة الآخوند من مدرسي علم الأُصول البارزين، وقد انشغل بتدريس العلوم الحوزوية مدّة أربعين سنة، تمتاز طريقته بالتدريس بالسهولة وحسن البيان، وله أسلوبٌ خاص بالتقريرات، حيث ينتقل من مطلبٍ إلى آخر بسرعة، ولهذا أصبحت لدروسه شهرة واسعة بين أوساط الطلبة، حتى اتجه العلماء وطلبة العلوم الدينية من جميع بلاد الشيعة إلى النجف الأشرف للحضور في حلقات درسه، حيث كان عدد الطلاب كبيراً جداً ولم يسمع بمثل ذلك أحد حتى تلك الفترة. يقول الشيخ آغا بزرك الطهراني وهو مؤلف موسوعة كبيرة عن العلماء الشيعة: ” وقد سمعت ممن أحصى تلاميذ الأستاذ الأعظم المولى محمد كاظم الخراساني في الدورة الأخيرة في بعض الليالي بعد الفراغ من الدرس أنه زاد عددهم علىٰ الألفين والمائتين، وكان كثير منهم يكتب تقريراته”.

انتشر صيته في أرجاء المعمورة، ودوّى اسمه في الآفاق، ونال من المنزلة الرفيعة والمقام الشامخ العلمي، وقد تجاوزت شهرته في العلم وبراعته في التدريس آفاق النجف الأشرف بل آفاق العراق حتّى وصل خبر ذلك إلى جميع أرجاء الدولة العثماني، وحضر شيخ الإسلام (مفتي الدولة العثمانية) إلى بغداد لرؤيته فدخل إلى مسجد الطوسي حيث كان الآخوند يُلقي درسه، فلمّا رآه وهو يدخل قام بنقل البحث إلى قول أبي حنيفة حول المطلب الذي كان يشرحه، وشرع ببيانه على أحسن ما يُرام، فاندهش شيخ الإسلام من قدرة الآخوند على مباني أبي حنيفة وغيره من أئمّة السنّة.

مرجعية العلاّمة الآخوند 

بعد وفاة الميرزا الشيرازي بدأ نجم الحوزة العلمية في سامراء بالأفول؛ واتجهت الأنظار مرةً أخرى إلى حوزة النجف العلمية وزعيمها، حيث خلف العلاّمة الآخوند الميرزا الشيرازي واعتُبر مرجع تقليد للشيعة، وكان له قسطٌ وافر من المقلّدين من بين أقرانه، وإلى جانب المرجعية وما تقتضيه من جهودٍ مضنية، اهتم بالتأليف والتصنيف فخلّف لنا مؤلفات قيّمة لاقت الرواج والشيوع لدى الأوساط العلمية لمّا لها من أصالة وتجديد، وبما حفلت به من تدقيقٍ في علميّ الاُصول والفقه، وأشهرها كتابه “كفاية الأصول”، وبسببه اشتهر الآخوند بـصاحب الكفاية،‌ وهو  كتاب دراسي للطلاب في نهاية المرحلة الدراسية المتوسطة في الحوزة العلمية والذي يعتبر أساساً لمنهج المدّرسين في المرحلة العالية لعلم الأصول، حيث استمر تدريسه في الحوزات العلمية منذ تأليفه حتى الآن، وقد كتب أكثر من 100 مجتهد حواشي وتعليقات على هذا الكتاب. وفي الوقت الذي كان فيه الآخوند منهمكاً بأعماله العلمية وتربية الطلاب وإدارة شؤون الحوزة العلمية التي كان يتألق نجمها يوماً بعد يوم، كان يتابع الأحداث السياسية في إيران متابعةً دقيقة.

العلامة الآخوند والثورة الدستورية

بذل علماء الدين في العراق وإيران جهوداً جبارة من أجل إعلان النظام الدستوري الإيراني، وتحقيق الانتصار الكبير على الاستبداد القاجاري. إلا أنّ هذا الانتصار كان ينقصه القضاء على تسلط المستعمرين وتحكمهم في الحياة السياسية الإيرانية، ودفعهم لبعض العلمانيين للهيمنة على مقاعد البرلمان على حساب أصحاب القضية ومن لهم الدور الريادي في النهضة الدستورية وهم ( رجال الدين).

وقد شهد الفكر السياسي الشيعي في تلك الفترة تطورا ً ملحوظاً، انطلق بقبول فكرة قيام دولة في عصر الغيبة بناءً على نظرية النيابة العامة للفقهاء عن الإمام المهدي(عج) في العهد الصفوي، ومما يُضاف لذلك التقارب الذي حصل بين الفكر السياسي الشيعي والأفكار الحديثة التي نادت بها النخبة المثقفة الإيرانية، نتيجة انفتاح إيران على الغرب، وصياغة بعض المفاهيم الحديثة في قوالبٍ إسلامية مما يجعلها محط رضا الشارع الإيراني. ولدت كتابة الدستور نوعين من الصراع، الأول بين المطالبين بتطبيق الأحكام الإسلامية والعلمانيين الذين عبروا ومن خلال الحريات الواسعة التي كفلها الدستور عن معارضتهم لجعل الإسلام مرجعاً للدولة، أمّا الثاني فكان بين المطالبين بتطبيق الأحكام الإسلامية أنفسهم، فعلى الرغم من أنّ علماء الدين هم من أول من رفع راية النهضة الدستورية، والجهاد بوجه الاستعمار، نراهم بعد تأسيس المجلس النيابي وصدور الدستور يختلفون في البحث الفكري والسياسي حول النهضة وكتابة الدستور.

انقسم علماء الشيعة ومراجعهم بين مؤيد ومعارض للدستور الإيراني بعد صدوره، فقد عارضه  السيد كاظم اليزدي والشيخ فضل الله النوري وثلة من العلماء في تلك الحقبة، فهؤلاء كانوا يعتقدون أن القيام بسن القوانين المدنية بوجود القرآن الكريم، يُعد تدخلاً وكفراً وإلغاءً للحكم الإلهي والرسالة المحمدية، وجاءت معارضة هذا الفريق للحياة الدستورية من منطلق معارضة الإصلاح على النمط الغربي وعدم مراعاة خصوصية المجتمع الإيراني.

أمّا الفريق المؤيد فتشكل من العلامة الآخوند، والميرزا حسين خليل، والشيخ محمد حسين النائيني، هؤلاء كانوا يرون الحياة الدستورية ضماناً لتحقيق العدالة وسن القوانين التي تخدم الشعب الإيراني، وإنّ الحكومة الدستورية لا يمكن لها أن تخالف الشريعة المقدسة بوجود فقهاء عدول بين وكلاء السلطة التشريعية، مهمتهم الإشراف على سن القوانين وبيان مدى مطابقتها من عدمها للشريعة الإسلامية.

أصبح العلامة الآخوند في مقدمة زعماء الحركة مع إثنين من المجتهدين الكبار المعاصرين له، وهما ميرزا حسين الطهراني والشيخ عبدالله المازندراني، وذلك بإرسالهما الرسائل والبرقيات للزعماء الدينيين والسياسيين في داخل إيران، وإصدارهما منشورات للتوعية، ساعد العلامة ميرزا محمد حسين النائيني في هذا المجال؛ إذ ألّف كتابًا عنوانه: “تنبيه الأمة وتنزيه الملّة”، سعى فيه  لتبرير النظام الدستوري من وجهة نظر الشريعة الإسلامية ورفض حجج العلماء المعارضين، وقد كتب العلامة الآخوند مقدمة لذلك الكتاب أعلن فيها أن أسس الحركة الدستورية مأخوذة من الشريعة الإسلامية الحقة. كذلك دعا جميع المسلمين إلى الإشتراك في هذه الحركة، وعندما أصبح محمد علي شاه ملكاً في العام 1907 م أرسل له رسالة دعاه فيها إلى الالتزام بموازين الشريعة والعدالة والسعي في طريق تأمين استقلال البلاد. ولكن الشاه وعلى الرغم من تظاهره بتأييد الحركة الدستورية كان يريد أن يحكم البلاد بصورةٍ ديكتاتورية، فأخذ ينسق مع قوات الأحرار الإيرانيين آنذاك، لإدامة الصراع مع الحكم الاستبدادي.
وشارك العلامة الآخوند، مع الشيخ الطهراني والشيخ المازندراني في كتابة بيان، يطلب من الثوار المسلمين في القوقاز وتبليس والمناطق الأخرى المسارعة في تقديم المساعدة إلى ثوّار تبريز وأن يضعوا نهايةً لديكتاتورية القاجاريين، كذلك أبرق إلى السلطان عبد الحميد الثاني عند إعلانه الدستور بأن المجتهدين في النجف يطالبون بالدستور كفرضٍ ديني، وقد أراد أن تسلك إيران الطريق الذي سلكته الدولة العثمانية، وغرضه من ذلك تحجيم سلطة الشاه الإيراني وتقييد مقرراته عن طريق إعلان الدستور وتأسيس المجلس، وقد التف حوله أعلامٌ كبار ولهم المقام العلمي الرفيع وكان هو المحور الذي يدور الجميع من حوله.

وعقب نشاط الآخوند السياسي، وجهت حكومتا روسيا وبريطانيا مذكرة مشتركة إليه وبقية الزعماء الدستوريين المقيمين في العراق وطلبتا منهم إيقاف نشاطاتهم السياسية، كما طلبتا من زعماء الفئات المطالبة بالحكم الدستوري في داخل إيران الالتزام بالإعتدال.
لكن العلماء لم يعبأوا بهذا التهديد، وبخاصة الآخوند الذي لا يلين، ومنذ ذلك الحين، نشرت وسائل الإعلام الانجليزية موضوعات معاديةً جداً له، ولغرض الاطلاع أكثر على ما يجري في إيران، قرر السفر إلى إيران، إلا إنّ وفاته المفاجئة في النجف الأشرف حالت دون ذلك.

نضاله ضد الاستعمار

لم يقتصر بروز العلامة الآخوند وإبداعه على صعيد الفقه والأصول، بل هو قائد وسياسي بارع، فهو إضافة ًلدوره المركزي في الثورة الدستورية، لعب دوراً بارزاً في مقاومة الاحتلال الروسي لبلاده إيران وأصدر أوامر بالجهاد ضده، ساهمت أوامره وفتاواه في تخليص إيران من براثن الاحتلال وفي الوقت نفسه كان لا يتوانى أو ينشغل عن الإصلاح الداخلي، فاتخذ موقفاً شجاعاً من الحكم المستبد لشاه القاجار مظفر الدين شاه الملكي، أمّا على الصعيد الدولي فلم يكن بعيداً ورفض أن يكون معزولاً عما يدور في العالم الإسلامي فبالرغم من انعدام المواصلات وصعوبة التواصل، عندما غزت إيطاليا البلاد الليبية وقتلت الآلاف من شعبها، أدان العلامة الآخوند هذا الغزو، وأصدر فتوى بالجهاد ضد الجيوش الإيطالية الزاحفة على طرابلس الغرب، وحينما اقتحمت القوات الروسية ولاية خراسان انتفض في وجه الغزاة فأبرق قائلاً : “اذا لم تنسحب جيوشكم من خراسان لأصرخن في العالم الإسلامي صرخة”، وما أن وصلت هذه البرقية إلى الغزاة حتى سحب الروس جيوشهم من خراسان. وكان قد أعد جيشاً من المجاهدين، وصمم على الذهاب بنفسه لمجاهدة الروس، فنصبت الخيام خارج سور النجف من الجهة الشرقية، وحضر رؤساء العشائر إلى النجف وبايعوه وتعهد كل واحد منهم أن يحضر ومعه عدة آلاف من الرجال المسلحين، وقد وصل النجف مائتا ألف شخص في يومين كما تعهد رؤساء عشائر كرمنشاه بالالتحاق بركبه واستعد طلاب العلم للجهاد، ولكن الحدث المفاجئ كان وفاته في تلك الليلة وقد أحاطت الشكوك في أسباب الوفاة.

وفاته

توفي العلامة الآخوند في مدينة النجف الأشرف في عام 1911م، وقد أحدثت وفاته صدمة أليمة في نفوس المجاهدين، وقد أذهلت الأوساط العلمية والطبقات الاجتماعية بنبأ الوفاة وصلى عليه الشيخ عبد الله المازندراني، ودُفن في الصحن الحيدري للإمام أمير المؤمنين(ع).