معرض السيرك.. في مواجهة ركام الأبنية

مجموعة من الفنانین الناشئین من خلفیات متنوعة. تجمعوا، لكل أسلوبه بالحیاة، كما ھي خلفیته، لیبنوا مكاناً نابضاً مثیراً للتفكیر، أدواتھم مشاعر وحب، تعاون وعمل، ، وقماش وألوان. وكم مدھش أن نرى كل ذلك یأتي معاً.

2023-10-16

قرب دوّار البطيخة، في أول شارع 30 في دمشق، نُصِبَت خيمة السيرك، بمواجهة رُكام الأبنية، لكنه ليس سيركاً تقليدياً، إذ تحوَّلت فيه ألعاب الخفة والتوازن ولحظات التَّرقُّب والدهشة إلى منحىً آخر، ذا بُعدٍ فنّي إنساني، إذ استطاع 24 فناناً أن يلبّوا نداء الاستغاثة الذي أطلقته مؤسسة مدد بعد الزلزال بطريقة إبداعية، تُعيد تخليق مناخات السيرك بأسلوب مميز بكل ما يحتويه من فرح ومفاجأة واختبارات لردود الفعل تجاه المواقف المختلفة.

 

بات السيرك دعوة للمحبة والتآلف ومعرفة الذات والنظر إلى العالم بعين أخرى، ضمن فلسفة فنية تُجاهر بالاختلاف منذ اللحظات الأولى لافتتاح المعرض، فهناك لعب يرغمك على استعادة مرح الطفولة، والتَّمتُّع بتفاصيل أرغمتك ضغوطات الحياة وأزماتها المتكررة على التخلي عنها، بحيث أنك ستدخل في متاهة من ممرات قماشية مضاءة وتُقلِّب مع حلا نهار ألبوم الصور وستكتب ذكرى جديدة على الحائط، وكأنك تكتب أملاً ما.

 

وستختبر الفرح في ظل الشمس ضمن عمل آدم عجيب والظلال الممتدة على الكون ضمن تكوين بصري متوازن حد التكامل، لتكتشف معه أن السعادة ليست أكثر من انعكاس نورك في الآخر. وسترمم النقص في أعمدة معدنية عارية بقطعة قماش ملونة، لا تلبث أن تشع بالنور على صوت حسيس النار الذي يدعوك للتأمل مديداً، بحيث تصبح كمن يُرمِّم عروقه وقدرته على الاستمرار في الحياة.

 

 

 

ورغم عدم وجود مُهرِّجين في هذا السيرك، إلا أنك بمجرد الدخول في حجرة “أزرق” التي صممتها سالي الصائغ، ورؤيتك للوجوه المُعلَّقة التي نحتها حسام جنود، وسماعك لأصوات الضحكات، فإن عدوى الضحك ستنتقل إليك، خاصةً أن الإضاءة الزرقاء مع الوجوه التي وُضِع على أنوف بعضها الكرات الحمراء المطاطية، ستحيلك مباشرةً إلى مناخات من الفرح واستذكارات الضحك التي غابت أسبابه وغارت عميقاً في البال.

 

وكنوع من التوازن بصيغته الفكاهية، ستضع وزنك على إحدى كَفّات لعبة الميزان لتكتشف أنك لا تساوي سوى بضعة كيلوات من البصل، وفي مرات أخرى ستكون في مواجهة جرة غاز أو بيدون مازوت، وما أن تغلبها بوزنك حتى تنير لمبة نجاحك ومعها فرحتك، وفي أحيان أخرى لن يُساعدك وزنك ولا حتى عُلب دخّان الحمراء في تحقيق التوازن المطلوب ضمن العمل التركيبي الذي صممته تولين رضائي كتعبير عن ارتباط سعادة السوري بالحصول على أساسيات حياته البسيطة.

 

ولأن الزمن له سطوته على السوريين تحديداً، وكوننا لا نستطیع التحكم به ولا المساومة عليه، فإن ساعات الرمل في عمل دانا سلامة تُعلن النهاية، وكل إنسان سيحدد ماهيتها، مع إضاءة وأصوات لنزيز الوقت، رغم أن الفنانة تقول “إنه الوقت المناسب للابتسام”.

 

وضمن رحلة لاكتشاف الذات تضعنا “زينب الأبرار زبيدة” في مشروعها “أنت الآن وهنا” على قرص دوار في مركز ألواح عاكسة تفصلنا عن الخارج، لنحاول الغوص في دواخلنا ضمن دورة لا تتجاوز ثوانٍ قليلة. وبالمثل لكن ضمن رحلة تفاعلية مسلية قامت غنى الهلال ضمن عملها “من أنت؟” بإحالتنا إلى ما يشبه لعبة تركيبية مقسمة إلى أجزاء قابلة للدوران بعضها مرايا وأخرى صور لشخصيات سياسية وكرتونية، تضعنا أمام احتمالات ظريفة لرأس ترامب وجسد عارضة أزياء وذيل النمر الوردي، وغير ذلك.

 

وكي نشعر بنوع من التناغم يعطينا رسول أواري مطرقة رأسُها مصنوع من اللدائن ويطلب أن نطرق على أربع أسطوانات متلدية من السقف، لنستمتع بمجموعة هائلة من الأصوات الغليظة والرفيعة، بحيث أننا مهما طرقنا وباختلاف زمن الطرقة وقوتها فإنها ستصنع تناغماً رهيفاً يتردد صداه في المكان وفي النفس.

 

وطالما من المهم أن نترك أثراً في حياتنا فإن كريم الخياط بنى حائطاً من البلوك والإسمنت ووضع بجانبه مجموعة من بخاخات الألوان، وجعلنا نقف قبالة مشاعرنا ونكتب ونرسم ما نشاء على ذاك الجدار الرمادي الشاحب والمليء بالثقوب، لكنه في هذه الحالة تحوَّل إلى لوحة بيضاء بإمكاننا أن نبثب عليها ما نُريد كفنانين للحظة التي قد تستمر طويلاً. تماماً مثل اللحظات والذكريات التي استرجعناها مع أرشيف السعادة الذي صممته زينة طيارة، والمليء بصور لبرامج الأطفال والمسلسلات الدرامية، وما تكتنفه طفولتنا من مفردات كالبلبل الخشبي والليرات السورية التي باتت من عملاتنا الأرشيفية، وأغلفة مجلات وغير ذلك مما يصلح لأن يكون علاجاً لآلام الحاضر وأنيساً لوحدتنا، كما ترى طيارة.

 

 

 

الحب في صيغة المضارع المستمر ماثل ضمن أكثر من عمل في معرض سيرك ومنها ما صممه علي مجر في عمله “حب” وهو تجهيزي تفاعلي يحول النص الشعري المقروء إلى نص بصري بمفردات جديدة كالكلمات والأشكال، وهي أشعار عن الحب واختبار مقدار السعادة التي نشعر بها في حضرة أو في غياب من نحب. وهو موجود في الورود الصفراء بتمايلها وانتشائها بالنور على الرمال الحمراء ضمن مشروع “تفتح” لدلع جنبو، وأيضاً في حبل غسيل بيسان سلهب، وما يحيلنا إليه من أمان وسلام وحب، خاصةً مع تحريك الهواء للأقمشة الرهيفة أثناء ملامستنا لها.

 

وإمعاناً في إدخالنا ضمن عالم الطفولة قامت مريم الفوال ومحمد المعلم بجعلنا في الوقت ذاته مُحرِّكي وممثلي خيال ظل وشخصياته، فنحن من نُحرِّك أشياءنا الطفولية الملونة ونُغير أماكنها، وبالتزامن مع ذلك نكون شخصيات لمتفرجين آخرين في الخارج.

 

وبطريقة مشابهة لدفع صخرة سيزيف فإن تجهيز الفيديو الذي حققه إميل عفلق بعنوان فراغ يدعونا بأسلوب بصري بسیط وبالاعتماد على الجانب المفاهيمي للفن، أن ندفع بشكل مستمر في طريقنا اللا متناهي ففي ذاك الدفع يكمن الرضا، وكأن عفلق يدعونا إلى تمثل مقولة ألبير كامو “سيزيف هو بروليتاري الآلهة، الذي ينبغي على المرء أن يتخيَّله سعيداً”.

 

وفي فلسفة موازية استندت جلنار صريخي في عملها “أنا أراك، هل تراني؟” على فكرة أن الألم الذي يشعر به الإنسان لم يكن ليأتي لو لم يعش سعادةً بمقداره، واستطاعت عبر مجموعة من الشاشات وتسليط الفيديو عليهم أن تنقل لنا إحساسها بالغير وتبادل كينونة الألم والفرح على السواء.

 

أما حمود رضوان في عمله التركيبي أركادیا فيحيلنا إلى استكشاف العلاقة بین الانسان ورغبات السعادة لدیه، والتي ضاعت ضمن رحلة البحث عن الهدف والوجهة ومحاولة معرفة الذات، لكن بالصوت والصورة وبضعة ألواح بلكسي باتت الرحلة أمتع وأكثر روحانية.

 

وللرسم التعبيري حصته من المعرض، إذ رسمت دعاء المسوتي لوحة جدارية تضمنت العديد من الشخصيات والعناصر المعالجة بأسلوب تعبيري جميل، متكئةً على الخيال والعاطفة في بنائها التشكيلي، بالاعتماد على روحية كلمات أغنية “سوف أحيا” للسيدة فيروز، بحيث كانت اللوحة بمثابة معادل بصري للأغنية وخاصةً عبارة “من نور إلى نور” التي شكلت دافعاً لاستكشاف الحياة وكنهها لدى المسوتي.

 

وإضافة إلى تلك المشاريع هناك خرفان نائمة لكريم الخطيب بكامل راحتها أحلامها ولامبالاتها، ورحلة السعادة لكنان أباظة عن الأشياء التي تعرف بأضدادها، وسكون لينا البيروتي التي تحرض المتلقي على التمعّن في المحيط والتركيز على المتغيرات البسيطة، ضمن تجربة نسترجع من خلالها حواسنا الأولية المنسية التي تقودنا إلى الروحانيات والماورائيات وذلك من خلال بضعة أوعية من الماء وانعكاس أضواء متحركة عليها وأصوات.

 

أما مايا أنزور فأدخلتنا في منظورها الخاص ورؤيتها للفضاء والمجرات والكون ضمن مشروعها “الوعي بالاتحاد” لتؤكد على مقولة “وفيك انطوى العالم الأكبر”.

 

وأوضحت مشرفة المشروع الدكتورة بثينة علي على بروشور المعرض أن استغاثة كان عنوان الإعلان الذي أرسل للفنانین الشباب في نھایة الشھر الثاني من عام 2023 للمشاركة في المعرض، وتتساءل: “أھو حقاً كان نداء للاستغاثة؟ لمن؟ لنفسي؟ لھم؟ أم لنا جمیعاً؟ زلزال السادس من شباط مرَّ ھنا.. في ھذا الزمن، واختصر جمیع الآلام، آلاماً كنا قد عشناھا.. ھنا أو ھناك. لم نُرَ! لكننا رأینا أنفسنا من جدید. لذلك أردنا من هذا المعرض أن يكون استغاثة فرح لنا جمیعاً، استغاثة نرمم فيها آلاماً صیغت لنا، لنبتسم، علّنا نرتاح. نبتسم.. فنكون”.

 

أما “مؤسسة مدد” فبيّنت في كلمتها أن هؤلاء الفنانون الــ 24 “یریدون أن يُسمع صوتهم الخاص، من دون إيديولوجيات سابقة. وهم بلغتھم البسیطة وبصیرتھم الصادقة، یثبتون الیوم أنھم كانوا شھوداً على الحكایة، حكایتنا.  إنھم ھنا.. فنانون أحرار، لا یحدھم اختصاص. إنھم یفرحون، ویدعونكم أن تفرحوا معهم”.

 

وأوضحت المؤسسة الراعية للمعرض أنه لطالما حظي السیرك بقلوب الكثیرین، فكل عنصر من عناصره یخلق جواً سحریاً یجذب انتباه المتفرج. كان ھذا الجو مصدر إلھام للعدید من الحركات الفنیة، من الرومانسیة مروراً بالسریالیة والتجریدیة حتى فنون یومنا الحالي. من الموسیقى الغریبة الى الأعمال التجریدیة نرى أعمالاً لسورا، رامبرنت، وكالدر وغیرھم الكثیرین اللذین استخدموا خیالھم وحوّلوا طاقتھم الإبداعیة لإنشاء أعمال فنیة تحاكي عروض السیرك. ومازال الفن المعاصر یحتفي بھذه اللحظة الأیقونیة المتحركة حتى یومنا ھذا.

 

أما في هذا المعرض، يكمل بيان “مدد”، نستكشف أعمالاً معاصرة لفنانین ناشئین، یطرحون موضوعات المغامرة، التحدي والشجاعة التي تمیزھم، من خلال إحضار عالم من الاحتمالات إلى الحیاة، بعمل فني یحاكي قصصھم ویجمع بین الألوان النابضة بالحیاة والخطوط المدھشة سواء من خلال لوحة فنیة أو تركیب فني تفاعلي، أتقنوا من خلال ھذه الأعمال استخدام رموز شفافة، كالضوء والظلام، السلاسة والسرعة، والموسیقى وغیر ذلك الكثیر.

 

مجموعة من الفنانین الناشئین من خلفیات متنوعة. تجمعوا، لكل أسلوبه بالحیاة، كما ھي خلفیته، لیبنوا مكاناً نابضاً مثیراً للتفكیر، أدواتھم مشاعر وحب، تعاون وعمل، ، وقماش وألوان. وكم مدھش أن نرى كل ذلك یأتي معاً.

ويؤكد البيان أن هذا المعرض أنشودة قصیرة، مبنیة من أربعة وعشرین مقطعاً فنیاً، تشبھنا ولا تشبه أي قصة أخرى في العالم. لتبدوا أماسي مدینتنا كأنھا ذاھبة للإنشاد الجماعي، ولتكن حكایة قصیرة ستسمع في وقت لاحق.. أنت منھا.

 

أ.ش

المصدر: الميادين