تستمر تماضر رأفت بالنظر إلى هاتفها الذكي لتتأكد من أن منطقتها لا تتهيأ لاستقبال نيران الصواريخ الإسرائيلية من جديد، لكن ما لفت انتباهها ورقة بيضاء استقرت على شباك غرفتها، فدفعها الفضول كي تقرأ ما هو مكتوب، خاصة أن السماء من حولها أصبحت تمطر ورقاً، وكان ما شاهدته ينذر بكارثة.. نعم، إنه أمر واضح بإخلاء منطقة بيت لاهيا تمهيداً لنسفها بالكامل.
كانت عينا تماضر فاغرتين حين ناولت والدها تلك الورقة، ليأتي أمره الحاسم “احملوا حقائبكم، سننزح”، فهي تعتبر أن تهديدات القوات الإسرائيلية لا تقبل النقاش، و مجزرتا الرمال والكرامة الماضيتان تشهدان على ذلك، فقد تم مسح مربعات سكنية كاملة عن الخريطة، كما أزيلت أسماء عائلات فلسطينية للأبد من السجلات بسبب مقتل جميع أفرادها في قصف مروحي استمر طوال الليل”.
تنظر تماضر إلى اليمن وإلى اليسار وهي تسأل نفسها “هل قامت القيامة بالفعل”، أي جنون هذا الذي يدفع الاحتلال إلى ارتكاب تلك المجازر في أيام معدودة، فمشاهد عشرات الأسر وهي تركض بهلع في شوارع مدينتها وسط قنابل الفسفور لم تكن تعني لها سوى أمر واحد أن الجميع هنا أصبح في مرمى الموت، خاصة أن مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين أصبحت تستضيف ما يزيد على طاقتها، بالتالي لا مكان لمزيد من العائلات هناك.
تقول تماضر ” من يظن أن المدرسة ملجأ آمن فهو مخطئ، منذ بدء العدوان وحتى اليوم قصفت “إسرائيل” ما يزيد على تسعة مدارس، بالتالي باتت جميع العائلات هنا معرضة لإبادة جماعية عائلة تلو الأخرى فما هي إلا مسألة وقت، خاصة في ظل الصمت المخزي من قبل العالم أجمع وكأنهم تركوا المدينة المحاصرة تواجه الموت وحدها.
وهذا ما أكدته مادلين أحمد، وهي تصرخ وجعاً على أطفالها الذين تركتهم في غزة قبل سفرها، مشيرة، “أنبئت بخبر قصف منزلي في قطاع غزة ولم أكن لأحزن لكن، ما يعتصر له فؤادي أبنائي، ماذا سيفعل أولئك الصغار، إذ لا مكان آمناً في غزة، فإن لجأوا إلى المدارس ما الذي سيضمن لي عدم استهداف المدرسة، متسائلة إلى متى سيستمر هذا الصمت العربي المخزي، هل إلى أن تمحى غزة عن خريطة العالم”.
وفي قصة نزوح أخرى، بالكاد استطاع محمد حجازي، مريض السرطان، التقاط أنفاسه إثر قنابل الفسفور التي ألقوها في محيط منزله، فيقول “كنت أستعد لأتلقى آخر جرعات العلاج الكيميائي لأخلص من السرطان اللعين في الوقت الذي رفض سرطان الاحتلال تركي أفرح بلحظات الشفاء، معلناً حربه على غزة وقصفها من خلال الجو والبر والبحر، لجعل الأبنية الشاهقة تعلن هزيمتها مصافحة الأرض من جديد”.
يروي محمد أنه يقطن منطقة التفاح وقد اعتاد على القصف المدفعي في كل عدوان، لذلك يأخذ الحيطة والحذر ولا ينزح من منزله، لكن هذه المرة، وبعد أن أمطرت منطقته بالفسفور، فر هارباً إلى بيت عمه الذين أجبروا، بدورهم، على النزوح بعد يومين تحديداً، لافتاً “اليوم، لا أدري إلى أي مكان أنزح، وهل تتسع تلك الحقائب التي نحملها على ظهرنا تلك الزاوية في البيت التي كنت أرغب قراءة آخر صفحات كتابي بها، أو إلى ألبوم صور عتيق يحمل ذكرياتنا”.
بينما كتبت حنين ميمة على صفحتها الشخصية إلى أختها التي ما زالت منذ أولى أيام العدوان على غزة وحتى اليوم تحت الأنقاض، ” تحملي يا سلام لم يستطيعوا إخراجك من تحت الركام حتى اليوم أنت وهادي وشام فبقيتم في غيبات الجب، ربما في الغد تخرجي لتري النور” وكانت الصحفية سلام ميمة قد تعرض منزلها للقصف من دون إبلاغها بذلك ليعلن نبأ استشهادها على الفور، فيما اكتشف والدها بعد زيارته إلى المكان مرات عديدة أنها تناشد أحدهم لانتشالها وأطفالها قبل أن تقتلها وحشة الليل والجوع والعطش”.
في صباح السابع من تشرين الأول/أكتوبر، لا ينسى إسحاق حلس، ذلك التاريخ الذي أعلنت فيه فصائل المقاومة دخول منطقة غلاف غزة، كون بيته الذي يفصله عن تلك الحدود كيلو متر واحد فقط قد شهد تلك الأصوات، متخذاً وعائلته قراراً سريعاً ورادعاً وهو مغادرة المنزل مع حزم الأمتعة القليلة جداً كأدوية الكبار والصغار وبعض الفراش، لينطلقوا إلى وسط البلد مع دموع الأطفال التي انفجرت رافضة محاولات تبسيط الموقف. فقد كشفوا الأمر.
يروي إسحاق أنه لجأ إلى المكتب الذي يعمل فيه، محوّلاً إياه إلى بيت سكني، ورغم ضيق المكان، فإنه يضم الآن 6 عائلات هربوا تحت قصف الطائرات والمدفعية، على الرغم من أن ملجأهم الجديد شاهد على بصمات الاحتلال الإجرامية في عدوانات سابقة، لكن ما زاد الأمر سوءاً هو تحذير البرج الملاصق لهم، مضطرين بذلك إلى النزوح إلى مكان جديد ملاصق للمساجد والمؤسسات الحكومية يومين من دون ماء أو كهرباء أو طعام.
كان ما يفزعه هو قصف الاحتلال للمكان من دون أن يعلم أحد بوجودهم داخله، فما كان منه سوى أن أخبر الأصدقاء عن مكانه موصيهم إذا تم قصفهم بالبحث عنهم تحت الأنقاض، وحدث ما كان بالحسبان، فقد تم تحذير الملجأ الذي نزح إليه للمرة الثالثة، ليتركوا المكان وسط جنون نيران طائرات الاحتلال التي أبادت مربع الرمال بالكامل، ليستمر حتى الآن بالنزوح من مكان إلى آخر وسط عتمة المدينة وإكماله عمله الإنساني بمساعدة العائلات النازحة البالغ عددها حتى الآن ربع مليون إنسان.
وكان قد أفاد مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة في بيان له إن “عدد النازحين الذين فروا جراء القصف العنيف على القطاع البالغ عدد سكانه قرابة 2.3 مليون نسمة، قد ارتفع بمقدار 75 ألف شخص إضافي ليبلغ قرابة 338934 نازحاً”.
أ.ش