كان الإعلاميُّ والفنّان الجزائري “عُمر راسم” أوَّل من حذَّر من خطر الصُّهيونية وارتباطها بالقوى الاستعمارية الغربية، في جريدته “ذو الفقار” التي أصدرها سنة 1913، وأطلقَ نداءاتَه مُستصرِخًا ضميرَ الأمة العربية ليستيقظ قبل “ضياع” فلسطين.
ولم تتوقَّف الأقلامُ الجزائرية عن الكتابة، في الصُّحف الجزائرية والعربية، حول فلسطين قبْل احتلالها بعقود، رغم كلِّ أشْكال القهر والتَّضييق التي عانتْ منها. وتواصلتْ مسيرةُ دعم الجزائر لفلسطين خلال ثورة التَّحرير الوطني، ثم في عهد الحريَّة والاستقلال. وقد تنوَّعَ الدَّعم بأشكاله غير المُعلنة، والمُعلنة التي منها الدَّعم بالكلمة والأدب والشِّعر، حيث ظلَّتْ الأجيالُ الأدبية الجزائرية وفيَّةً لمسيرة أسْلافها.
بادرتْ الكاتبةُ والشاعرة الجزائريَّة “وردة أيوب عزيزي” بإعداد ملفٍّ حول “جدوى الأدب في دعم فلسطين، ورصدَتْ آراء شعراءٍ جزائريين في هذه القضيَّة. وشاعرتُنا هي صاحبة مُبادرة ديوان “طوفان الأقصى” الذي شارك فيه أكثر من خمسين شاعرًا جزائريًّا وعربيًّا حتى الآن..
وقد قال شاعرُ ثورة التحرير الوطني “مفدي زكرياء”: (رسالةُ الشِّعرِ في الدنيا مُقدَّسةٌ — لولا النُّبُوءَةُ كان الشِّعرُ قُرْآنا).
تعدُّ القضية الفلسطينية من أبرز القضايا التي اهتم بها الأدب الجزائري والشعب على حدٍّ سَواء، فقد كانت قضيته الأولى واهتمامه بها كان منذ إعلان “وعد بلفور” سنة 1917، مرورًا بانتفاضات الشعب الفلسطيني في الثلاثينيات، إلى غاية رفضه قرارَ التقسيم. وقد وقف شعراءُ الجزائر إلى جانب فلسطين والعرب أثناء حرب 1948، ونكسة 1967، وساندوا أطفال الحجارة، ورفضوا قرار التقسيم.. فَصِلةُ الشعب الجزائري مَتِينةٌ وعريقةٌ بالشعب الفلسطيني الجبَّار المُقاوم، وكلاهما عرف الاستعمار الاستيطاني المُوحِّش الذي خلّف وراءه دمار الإنسان والأرض والحياة.
فلسطين أمُّ القضايا في الأدب الجزائري
لطالما كانت ولا تزال القضية الفلسطينية في قلب التاريخ الجزائري روحًا وشعارًا وبمواقف ثابتةٍ، فالعلاقة بين البلدين ليست كأيّ علاقةٍ عابرةٍ، بل هي علاقة وطيدة بل مُقدَّسة، وتظل الجزائر بمواقفها الثابتة والراسخة في الأذهان.. تدعمُ وتساند فلسطين بثباتٍ ويقين لا يتبدَّل ولا يتغيَّر. ولهذا تُعدُّ فلسطين المحورَ الأول والأساسي من بين الموضوعات المهمة والشائكة التي يصبّ من خلالها الأدب الجزائري والعربي.
نشيد الملاعب الجزائرية: فلسطين الشهداء..
وخيرُ دليل على حبِّها، نجدُ الكثيرَ من الهُتافات في الملاعب الجزائرية باسم فلسطين، حيث يهتفُ الشَّباب الجزائري بسلام وودٍّ ووئام: فلسطين الشهداء فلسطين الشهداء، الحبيبة يا فلسطين، نفديكَ يا أقصى.. ويرفع عَلَمها أمام مرأى الإعلام العربي والعالمي، ويتوشّحُ بكُوفِيَتها الأصيلة نساءً وأطفالاً ورجالاً بسواعد تضامنية يُشكّلون لُحْمةً واحدةً مُجسَّدة في صورةٍ جماليةٍ تسرُّ الناظرين، تمجيدًا لهذا الشعب الفلسطيني العظيم المحتل من طرف الكيان الصهيوني الغشيم المغتصب لأراضيه وحقه وروحه وجماله وفرحته.
مع فلسطين ظالمةً أو مظلومة
فالشعب الجزائري عاهد نفسه أن يبقى يساند شقيقه الفلسطيني في قضيته ظالما أو مظلوما كما قالها الرئيس “هواري بومدين”: “نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة”. فالشعبُ زرَع بذرةَ وفاءٍ لتنمو فوق جبين الحرية، ونثَر العزة وجلب الكرامة من أرض الزيتون بوفائه إلى أرض المليون ونصف المليون شهيد، فأصبح مُتمرِّدًا بحبِّه لها، وجعل هذا الحبَّ من ضِمن عاداته وتقاليده اليوميَّة.
القضيَّةُ التي تُحرِّكُ ضمائر الشُّعوب
فلولا قضية فلسطين لما تحرّكت الشعوبُ بضمائرها وإنسانيتها كما قال الدكتور والشاعر الجزائري “صلاح الدين باوية”، في سياق هذا الموضوع، أنَّ “جدوى الأدب العربي تكْمنُ في تحريك ضمير الأمة العربية وإعادتها إلى إنسانيتها”.
ويبقى الأدبُ خيْرَ دليلٍ في ذاكرة لا تموت ولن تُمحى من العقول، فلا قيمة للأدب الذي لا يناصر القضية الفلسطينية سواء بالفلسفة أو بالتاريخ أو بالشعر، أو بالرَّسم فرِيشة الفنان أيضا تلعب دورًا هاما وأساسيَّا في إيصال مضمون الرسالة. أما الكاريكاتير فحدث ولا حرج.. فدعم القضية الفلسطينية ليس بالسلاح والمال فقط، بل هناك كلام أقوى من السلاح.
فَلَسْطينُ العـزيزةُ لاَ تُراعِي
ينْدُرُ أن نجدَ شاعرًا جزائريًّا لم يكتب قصائد حول فلسطين، سواءٌ من القرن الماضي أو من أجيال هذا القرن. فهذا
“محمد العيد آل خليفة” يقول في قصيدته التي نظَمها تضامُنًا مع القضية الفلسطينية، بل كان يؤيّدُ كل قضايا الأمة العربية في فلسطين وفي شمال إفريقيا، ويدعو إلى نصرة المظلوم والمكلوم في قصيدة “فلسطين العزيزة”، حيث يقول:
فَلَسْطينُ العـزيزةُ لاَ تُراعِي
فَعَينُ اللهِ رَاصدِةٌ تُـراعِي
وحَوْلَكِ مِنْ بَنِي عَدْنانَ جُنْدٌ
كَثِيرُ الْعَـدِّ يَزْأرُ كَالسِّباعِ
إذا اسْتَصْرَخْتِهِ لِلْحَـرْبِ لَبَّى
وخَفَّ إلَيْكِ مِنْ كُلِّ الْبِقاعِ
يَجودُ بِكُلِّ مُرْتَخَصٍ وغـَالي
لِيَدْفَعَ عَنْكَ غَاراتِ الضّباعِ
بُليتِ بِهِمْ صَهـايَنَةً جِياعًـا
فَسُحْقًا للصَّهايِنَةِ الْجِيـاعِ
سَتَكْشِفُ عَنْهُمُ الهَيْجاءُ سِتْرًا
وتَرمِيهِمُ بِكُلِّ فَتَّى شُجـاعِ
رقصةُ المَبْكى
ومن أبرز الشعراء الجزائيين المعاصرين الذين كتبوا عن فلسطين الشاعر “إبراهيم قارعلي” صاحب الملحمة الشعرية “ألْفية الجزائر”، يقول في قصيدة “رقصةُ المَبْكى”..
لَنْ نَرْفَعَ الرَّايَةَ الْبَيْضَاءَ يَا وَطَنِي
إمَّا الشَّهَادَةُ إمَّا النَّصْرُ قَدْ حُسِمَا
لَا لَـمْ تَـنَـمْ غَـزَّةٌ عَـنْ ثَـأرِنَـا أبَـدًا
مَا إنْ يَزَالُ شِهَابُ الْحَرْبِ مُضْطَرِمَا
اللَّٰهُ أكْبَرُ والطُّوفَانُ مُنْهَمِرٌ
اللَّٰهُ أكْبَرُ نَحْمِي بِالدِّمَاءِ حِمَىٰ
قصائد من ديوان “طوفان الأقصى”
ومن بين الأسماء الجزائرية التي شاركتْ في ديوان “طوفان الأقصى”، الذي أعلنتُ عنه في وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتويتر) وأيضا تم نشر الإعلان في الجرائد والصحف، الشاعرة الجزائرية “عائشة جلاب” تزمجرُ قائلةً في قصيدتها المعنونة بـ “مَنْ يوقف الطوفان”..
من يُوقِفُ الطّوفــــان مَن ذا يقْدِرُ *** أتُراهُ وَحْيٌ مِن سمـــاءٍ يسْطُر
تنثالُ مِنْ مسرى الرّسولِ ملائكٌ *** مِثلَ الأبابيلِ التي لا تُقهرُ
ولا يفوتنا اسم الشاعر الكبير “صلاح الدين باوية” المناصر للقضية الفلسطينية روحًا وقلبًا كان عنوانها (أينَ الرُّجُولَةُ)، (إهداء: إلى أبطال غزَّة الصَّناديد، ورجالات المقاومة الفلسطينية. قال الشاعر:
يَا قُدْسُ مَاذَا قَدْ أخُطُّ بِأحْرُفي
هَرَبَتْ حرُوفي، وَالرُّؤى تتَعَذَّرُ
مَا الضَّادُ؟ مَا سِحْرُ الْقَصَائِدِ كُلِّها
وَالنَّارُ أفْصَحُ في الْحَديثِ وَأَطْهَرُ
إنَّ الْـحَديدَ عنِ الحدِيثِ مُبَجَّلٌ
نِعْمَ الحديدُ بأرْضِ غزَّةَ يَزْأرُ
وطَنٌ يَنامُ على ضَحَايَا عُزَّلٍ
قَصْفٌ، وإرْهَابٌ، ومُوتٌ أَحْـمَرُ
أطْفالُ غزَّةَ قَاومُوا وَاسْتُشْهِدُوا
عَنَّا ونحنُ حِيالَـهُمْ نتَعَذَّرُ
ثم يُوجّهُ رسالةً إلى أطفال غزَّة وشعبها أن يقوموا ويقاموا ويستبشروا فالنصر حليفهم..
أطْفالُ غزَّةَ قَاومُوا وَاسْتُشْهِدُوا
عَنَّا ونحنُ حِيالَـهُمْ نتَعَذَّرُ
يَا أُسْدَ غزَّةَ قَاوِمُوا وَاسْتبشِرُوا
فاللهُ يخذُلُ مَنْ يشَاءُ وينْصُرُ
وفي الأخير يوجّهُ رسالة قويّة إلى المُطبّعين الذين تنكّروا لأصلهم وتجرّدوا من إنسانيتهم، وللأمّة المتخاذلة، يزمجرُ غاضبًا بأسئلته التي لا جوابَ لها.. يسألُ عَنِ الرجال تارةً وعنِ المواقفِ البطولية تارة أخرى، وعنِ الشَّهَامة والْبُطُولة أينها يا صلاح الدين في حلقةٍ دائرتُها المتَاهة والحيرة قائلاً:
هَلْ نحنُ حقَّا في الخيانَةِ أمَّةٌ
وَهَبَتْ إلى الأعْداءِ مَا لا يخْطُرُ؟
سَارتْ إلى التَّطْبيعِ تُنْكِرُ أَصْلَهَا
إنَّ اللَّئيمَ لأَصْلِهِ يَتَنَكَّرُ
أينَ الشَّهَامةُ والْبُطُولةُ والْفِدَى؟
أينَ الرُّجُولَةُ أيْنهَا يَا مَعْشَرُ؟
أينَ الْفتُوحَاتُ الأوائلُ أينَ مَنْ
دَانَتْ لهمْ بعْدَ الصَّحَارى الأبْحُرُ؟
ومن غزة الصُمودِ وقُدسِ الثورة والنار، يرفعُ الشاعر “محمد شايطة” رايةَ الحق ليقول:
مــــــن غـــزّةَ أرض الأحــــرار
مــن قــدس الثــورة والنّـــــــار
رايـــات الحــقّ بــها سطـــعــت
وشَــــدَتْ لـلـــرّايـــة أشـعـــاري
وتجــلّى الصّــبح لهـــمّـــتــنــا
فــتـغـنّـى الـكـــون بــأفـــــكـاري
مــن طـفـل غـابـتْ بــسـمــتـــه
بــقـــــذائــفِ حــقــدِ الأشــــــرار
مــن دمــعـة أمّ قــد سُــلِــبـَــــتْ
سيجيئُ النّــصــر كـإعصــار
فلسطينُ نبْضُ القلب الجزائري
وهناك أسماء جزائريَّة كثيرة أخرى ناصرتْ بكتاباتها القضية الفلسطينية منذ بداياتها، من أمْثال: الشيخ عبد الحميد بن باديس، الشيخ البشير الإبراهيمي، شاعر الثورة مفدي زكريا، عبد القاسم خمار، محمد العقون..
إلى جانب الأسماء الجزائرية المعاصرة، ومنها: محمد جربوعة، وردة أيوب عزيزي، ليلى لعوير، لخضر فلوس، شهرزاد مديلة، عائشة جلاب، محمد شايطة، نور الدين العدوالي، صلاح الدين باوية، حورية غلام، بلقاسم عقبي، سـعــدون عــبــود، محمد برحايل، محمد بن رقطان، الطاهر زوايمية.. وأسماءٌ أخرى لم ينصفها النقاد ولم يكتبوا عن تجاربها.
ديوان “طوفان الأقصى” يُوحِّد العربَ شعريًّا
ولا يفوتني ذِكْرُ بعض أسماء الشعراء العرب الذين شاركوا في ديوان “طوفان الأقصى” الذي يضمّ أكثر من 50 شاعرا وشاعرة من جميع أنحاء البلاد العربية، ناصروا فلسطين بوجعهم وحماسهم وجرأتهم.. من السعودية واليمن وسوريا والعراق ولبنان وفلسطين ومصر والأردن والكويت.
يجسّدُ الشاعر السعودي “محمد أحمديني” مشهد النُّبل في غُصَص الأيام النائحة، فيقول في قصيدة “اجمعْ متاعك وارحل خلف من رحلوا”..
أطفال غزة بين النبل مشهدهم
فأين مشهدكم من بين ما نبلوا
ما ظل في غصص الأيام نائحةٌ
إلا تواصل في أفواهها الجللُ
أين النصيرُ ودين الله يشعرهم
أم بات خيط رداء الله ينتسل
غابت رياحك عن حقلٍ به مطرٌ
فكيف ينبت والأرياح لا تصلُ
ومن اليمن الشاعر “عبد الرحمن حسن” في قصيدة كتبها تزامنًا مع “طوفان الأقصى”..
لغزَّةَ دمعتانِ فقُلتُ: سَمِّي
القصيدةَ باسْمِها والدمعَ باسْمي
جحيمٌ واحدٌ يكفي لأنسى
هُنا ما ظلَّ مِنْ جِسْمي ورسْمي
وموتٌ واحدٌ يكفي لتغدو
أبي يا أيُّها الأقصى وأُمِّي
غزِيَّةُ ما غَوَتْ إلّا لتغزوا
وغزّةُ ما غَزَتْ إلّا بظُلمِ
فكيفَ تُلامُ غزةَ في عدوٍّ؟
أليسَ الرُّشْدُ بعدَ الظلمِ يُدمي؟
فكُنْ حُرّاً كغزَّةَ كُنْ غزِيًّا
وحيثُ رَمَتْ فَسَمِّ اللهَ وارْمِ
بالإضافة إلى المحامية والشاعرة الأردنية “جمانة الطراونة” في قصيدة باذخة ومُعبِّرة رسمتْ لوحةً فنيَّة بقلبها قبل يراعها، تقول:
نبكي جراحَ الأمسِ والأقصى غدُ
فالنورُ مِنْ رحمِ القَتَامةِ يُولدُ
يا للفلسطينيِّ كيفَ نظنُّهُ
يتنفّسُ الصعداءَ إذْ يتنهّدُ؟!
إلى أنْ تُصّور لنا مشهدَ القُدس بأنَّهُ مَلحمة السّماء، بلْ قصيدة سلام باللوح مُذْ خُلِقَ اليراعُ..
(القدسُ) ملحمةُ السماءِ قصيدةٌ
باللوحِ مُذْ خُلِقَ اليراعُ تُعمّدُ
مُذْ (نون …،) والأقلامُ تكتبُ نزفَها
سُورًا وللشعراءِ أنْ يتأكّدوا
لمْ تدخلِ (الأقصى) القصيدةُ نزهةً
وعلى الشهيدةِ كم تصلّي (أبجدُ)
إنَّ فلسطين هي بوصلة الشِّعر العربي عبر أزمنةٍ طويلةٍ، وستبقى بوصلة الروح العربية والضَّمير الإنساني في عالمٍ صار يفقدُ الكثيرَ من إنسانيته كلَّ يوم تحت وطأة تزييف الحقائق ودعم قوى الشَّر للكيان الصهيوني الشيطاني على حساب براءة الأطفال وأحلام الأمّهات وآمال الشَّباب.. وسيبقى الشِّعرُ والأدبُ عمومًا السلاحَ العربي الذي لا يصدأ ولا يخون.. مُرابطًا في جبهات الرُّوح، مانعًا الضَّميرَ العربي أنْ يغفل أو يتغافل على فلسطين العربيَّة.
الأدب.. سلاح الكاتب في مواجهة تزييف التاريخ وتغييب العقول
يبدو أن الأدب قد تأثَّرَ بقضية فلسطين، فهو أدبٌ جادٌّ، له هدف وبه إرادة وتصميم على الحرية حتى ولو كان الواقع مُكبَّلٌ بالقيود ومسجون في زنازين الاحتلال. لقد رسَم أدبُ القضية الفلسطينية طيورَ الحريَّة وسماء الأمل عبر الروايات والقصص القصيرة والشعر، قبْل أن يراها على أرض الواقع، لأنَّ القضيةَ الفلسطينية قضيةٌ لها أبعاد خاصة تختلف عن أيِّ قضية أخرى..
جميعُ أنواع المعاناة على الأرض تَخِفُّ حِدَّتها كلَّما مرَّ الزمن ولكن القضيةَ الفلسطينية تزدادُ حِدَّتها كلما مرَّ الزمن، بل تنشأ عن هذه المعاناة مئاتُ الأنواعِ من المعاناة في كل سنة وفي كل عصر. وهي معاناةٌ تتغيَّر وتتبدَّل وتتجدَّد.. ولكنها تبقى عميقة متجذِّرة لها أبعاد وجذور ونتائج، وجميع هذه العناصر تتراكم في الأدب لأنَّه صورة عن الواقع وأيضًا وسيلة للتخفيف من حدة هذه المعاناة، ويساعد في نشر الوعي حول القضية.
كما نجد أن أحَد أهم أهداف الاحتلال الصهيوني هو طمس هذه القضية، فهو قد حصَّن نفسه محليًّا ودوليًّا ضدَّ أدب المقاومة ولكنه لن يستطيع، ولا بأي شكل من الأشكال، أن يحصن نفسه ضد الأدب في العالم حول القضية الفلسطينية بمفهوم الإنسان، والذي يتوجه بهذه القضية إلى كل دول العالم بمختلف الثقافات والتوجُّهات.
ولا تزال فلسطين صحْوةً تجمعنا من جديد حول معنى الأمة التي تقف وتبني ذاتها، لذا انطلاقًا من هذا المعنى.. نقول: الشعر محطَّةٌ أدبية قريبة من الناس، وسلاح المُقاوم العربي في وجه تزييف التاريخ، وطمس الحقائق، وتغييب العقول. وهنا نستطيع القول بأن القضية الفلسطينية شغلت عقول الأدباء والشعراء في كل العالم ومن بينهم أدباء وشعراء الجزائر.
اهتمَّ الأدباء الجزائريين بالقضية الفلسطينية وبقضايا الأمة العربية الإسلامية فهم لا يعيشون بمنأى عمَّا يحدث فيها، فالتزام الأدباء لا يعني البقاء في حدود الجزائر لمعالجة مشاكل الوطن فهم أدباء متفتحون على العالم بأسره يعالجون المآسي أينما وُجدت، فقد أبدع الشعراء الجزائريون في الحديث عن القضية الفلسطينية لسببين: الأول هو أنها قضية عادلة وقضية إحقاق حق. والثاني أن معاناة الفلسطينيين عاشها الجزائريون منذ الاستعمار الفرنسي للجزائر، لذلك فكل شاعر جزائري نظَر إلى فلسطين على أنها أرضه وعرضه، وردود الأفعال الصادرة عن الشعراء الجزائريين هي ردود إيجابية وقد خاضوا ويخوضون المعركة بأقلامهم دون يأس ودون فقدان أمل.
وعلى الرغم من البعد الجغرافي بقيت الجزائر وفلسطين قريبتين جدًّا بفضل علاقات متينة ودائمة إلى يومنا هذا.. نعم لقد واكب شعراء الجزائر الأحداثَ الدامية اليوم في غزة بدقة شعورهم تجاه فلسطين وحدة الجرح العربي.
الأدب.. ليبقى الضمير العربي على قيد اليقظة
مِمَّا لا يدعو إلى الرِّيب إنَّ الأدب هو باعثُ آمال الشّعوب ومُحفِّزها إلى التَّقدم في أحلك الظّروف وأصْعبها، فجدوى الأدب العربي يكمن في تحريك ضمير الأمة العربية برمَّتها وإعادتها إلى إنسانيتها، ولفْت أنظارها إلى فلسطين وقضيتها العادلة على أمل أنْ يُحيِي الأدبُ العظامَ النَّخرة، والهمم المشلولة، والأنفس المنبطحة، وقد تفعل الكلمة الأفاعيل، وفي البدء كانت الكلمة.
إنَّ علاقة الشَّعب الجزائري بالشَّعب الفلسطيني علاقةٌ أخويَّةٌ عميقةٌ منذ القديم، والارتباط بالقضية الفلسطينية هو ارتباطٌ عقائديٌّ مقدَّسٌ لا ريب فيه، ولذا فموقف الشَّعب الجزائري واضح منذ البدء فهو يدعم كلَّ الدَّعم القضيةَ الفلسطينية العادلة على نهج ما قاله ذات يوم رئيس الجزائر الرَّاحل هواري بومدين، “نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة”.
ذلك إنَّ الإنسان الجزائري – أيًّا كان- بحكم طبيعة تركيبته الفيزيولوجية والوراثية تهزُّه الحمِيَّة العربية الإسلامية، ولا يقبل بالظلم والعدوان مهما كان. وتأكيدًا لرابطة الأخوَّة، والعلاقة الوثقى بين الشَّعبين، فلقد تغنَّى منذ البدء كثيرٌ من الشعراء الجزائريين بالقضية الفلسطينية، فهذا “محمد العيد آل خليفة” يقول في مطلع قصيدته:
“فلسطين العزيزة”، على الوافر:
فلسطين الْعزيزة لاَ تُراعي — فعينُ اللهِ راصدةٌ تُراعي
ويقول الشَّاعر “مفدي زكريا” مؤكّدًا اللُّحْمةَ والارتباط بفلسطين، وأنَّ بعثها سوف لن يكون إلاَّ من الجزائر بمشيئة الله، وهذا في قصيدته: “فلسطين على الصَّليب” على بحر المتقارب:
فِلسْطينُ…في أرْضِنا، بعْثُها — ومِنْ أرْضِنا، تزْحفُ الْحَامِيهْ
أمَّا الشَّاعر الطبيب: محمد الصالح باوية فيقول في قصيدته: (الصَّدى) على المتقارب:
بعينَيكِ أنْتِ…
بعينَيكِ ترعشُ مَأسَاتِيَهْ
وترقُدُ “يافَا” و”حِيفَا” وأصْحَابِيَهْ
هذا غيض من فيض، فالأدباء الجزائريون إلى حدِّ السَّاعة يدعمون القضية الفلسطينية بمختلف إبداعاتهم، يتفاعلون مع الأحداث الدَّامية في كلِّ شبر من أراضيها ويؤازرونها بالرّوح وبالدَّم، وبالإعانات، وبالدعاء وهذا أضعف الإيمان، ولعلَّ ما نراه ونقرأه يوميًا من منشورات هنا وهناك لَدليلٌ على مدى قوَّة هذا التَّفاعل الإيجابي الهائل.
هل يكتمل الإيمان.. دون الإيمان بتحرير فلسطين؟
أليس “في البدء كانت الكلمة”؟ لا أحد ينكر ما للكلمة من وقْع في نفوس المُتلقين وما تخلِّفه من آثار إيجابية أو سلبية، وقد قال الشاعر قديما “وطعنات اللسان أشد وقْعا على نفس الكريم من السِّنان”. وقد سجَّل التاريخُ أيضًا ما كان يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم مع الشاعر حسان بن ثابت “أهجوهم وروح القدس معك” هذا قول الرسول كاف وشاف للجواب على ما للكلمة من أثر بليغ في شحْذ الهمم وإيقاظ العزائم، ولعلها الباعث الأول والدافع والمحفز نحو العمل من أجل تحقيق أيّ غاية لتجسيدها في أرض الواقع.
القضية الفلسطينية ليست مجرد حدثٍ، كما يجري في شتى بقاع العالم، إنها عقيدة راسخة في القلوب ترقى إلى درجة أن الإيمان لن يكتمل إلاَّ إذا اعتبرناها رُكنًا ركينا في أذهاننا ونفوسنا وقلوبنا قبل كل شيء.
لم يكن الأدب يوما ما بعيدا عن هذه القضية منذ زمن بعيد، وخاصة الشعر الذي كان و لا يزال يواكب هذا الحدث من شتى بقاع الأرض، ومن الأقلام الرافضة لكل معاد سواء للجانب الإنساني، ولا سيما الجانب الديني.
ثم أنَّه في الجزائر، ظلت القضية الفلسطينية جزءًا كبيرًا من وجدان الشعب ككل، وعند الأدباء والشعراء الذين تغنوا كثيرا بفلسطين في شتى المجالات، خاصة وأنَّ هناك خيطًا يربط الشعبين معًا، إذْ سبَق وأنْ عاش الشعب الجزائري مثل هذه المحن لقرن وثلث من الزمان، عانى فيه كل ويلات المصائب، فلا غرو ولا عجب إذن أن نجد هذا التفاعل مُجسِّدًا في كل الأوان الأدبية وخاصة الشعر الذي وقْعًا خاصًا في نفس المتلقي. وتعليقًا على ما يجري الآن نقول كما قاله الشاعر الجزائري “مفدي زكريا”:
نطق الرصــاص ُفما يُباحُ كـلام — وجرى القصاص فما يتاح ملام
وقضى الزمان فلا مـردّ لحكمه — وجرى القضاءُ وتمّتِ الأحكام
مبادرتي لدعم “طوفان غزة”
في الحقيقة إنَّ فلسطين بالنسبة إلى الجزائريين تحملُ منزلةً خاصة ربما أكثر من كل الوطن العربي، وعن نفسي أعتبرُ كلمة الرئيس الراحل هواري بومدين “نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة ” قانونًا كونيًّا بحياتي، لهذا كان لفلسطين حصة الأسد بالموازاة مع الدول العربية الشقيقة، ولهذا هذه المرة كانت مبادرتي أكثر فاعلية بالواقع حيث أطلقت مساندة لـ “طوفان غزة” بنشر نتاجي الشعري على صفحتي وبعدها جسَّدتُها واقعًا يوم 21 من أكتوبر بجلسة أدبية من تنظيمي الشخصي بمسقط رأسي، احتفيت بها بإصداري الجديد “أوتار الكون” وقراءات شعرية خاصة بفلسطين، وخصصت العائد المادي لدعم القضية الفلسطينية.
والحمد لله رغم أن الجلسة كانت ببلديتي الصغيرة التي لا تعرف النشاطات الثقافية على الإطلاق إلاَّ أنَّ الحضور كان جميلاً جدا فقد لبَّى النداءَ شعراءٌ وأدباءٌ ورجال قانون وأساتذة من البلديات المجاورة لـ “قرارم قوقة”. وأيضا من ولاية قسنطينة، وقامت إذاعة “ميلة” بإعلان عبر أثيرها عن المبادرة مع تغطية إعلامية للحدث، وهذا من أجل نشر المبادرة في ربوع الوطن الحبيب، لأنَّ الكلمة سيفٌ وكل روافدها أجنحة سلام ومحبة لكل الإنسانية، ونحن الشعراء والكتاب رُسُلها إلى الخلق.
لم نعد نُقدِّر الكلمة..
إنَّنا نَخسرُ قضايانا الكبرى مع الغرب لأنَّنا لمْ نعدْ نقدِّر الكلمة. والأدب هو سيّد الكلام، بإمكانه أنْ يدعم الثورات والقضايا مُمَهِّدًا لها أو مُرافقًا أو مشيّدا بها بعد وقوعها..
وفلسطين هي قضيتنا الكبرى التي خدَمها الأدبُ أكثر منَ السلاح، ودفَع الوجدانَ العربي والإسلامي إلى احتضانها عبر أكثر من نصف قرن. الذين يعرفون محمود درويش، وسميح القاسم، وفيروز، ومارسيل خليفة، ونزار قباني.. والقائمة طويلة، هُم بالملايين مَنْ تربّوا على نصوصهم وقصائدهم واعتنقوا فلسطين على الدوام بفضل ما قرأوا وما حفظوا من بدائع أدبية تغنَّت بفلسطين ووصفتْ حالها وجابهت مغتصبها.
الأدب هو حصارُ الحصارِ، ووقود الملاحم، وحافظ المآثر، والانتصارات والهزائم. وللأسف في أيامنا هذه نسجِّلُ تراجعًا رهيبًا للكلمة المبدعة الهادفة، وإنْ وُجِد بِقلَّةٍ، نلمسُ لامبالاة بها من قبل المناهج التربوية ومنابر الإعلام، وبهذا نُضيع قلاعًا معنويَّة وحصونًا روحانيَّة كان بإمكانها أن تصدَّ الأخطارَ وتُعزِّز الوعي الجمعي بها.
حرف دامع وشُعلة متَّقدة.. فلسطين تكتُبُنَا
“فلسطين داري ودرب انتصاري” هكذا تغنَّى الشاعر السوري “سليمان العيسى” وتغنَّت معه الملايين، حيث كانت القصيدة مُقرّرَةً في المناهج التربوية في كل الأقطار العربية.
تجري فلسطين كالدم في عروق كل عربي، هي تتجدّدُ كل حين، تقفُ بعد كل هزيمة، تصهل كالخيل العربي الأصيل في داخلنا، تُعيد تشكيلَنا.. إنَّها في الأصل تكتُبنا؛ وتفتحُ للحرف الصادق شِعابًا في أراضي قلوبنا المفتونة بها وبكفاحها العظيم.
فلسطين ليست قطعة أرض فقط، إنّها تاريخ أمتنا العربية.. تاريخ كفاحٍ مريرٍ، عاشتْه أجيالٌ قبلَنا ونعيشه نحن، وستعيشه الأجيال اللاَّحقة.. إننا نرسمها حرفًا دامعًا حينًا، وشعلة متّقدة أحيانا أخرى.
لقد حضرتْ فلسطين في جميع أنواع الأدب، شعرًا وروايةً وقصةً ومسرحيةً، وكان القاسم المشرك بين هذه الأنواع جميعًا هو الوفاء المستمِيت للقضية الفلسطينية.
ويعلم القاصي والدَّاني أنّ الشعب/ الأدب الجزائري يرتبط بقضية فلسطين ارتباطًا مجنونًا، فهي حاضرةٌ عند الكبير والصغير من أبنائه؛ ومُنْدَسَّة في حروف المُبدعين على اختلاف أزمنتهم.
لقد رافق الشعر الجزائري هذه القضية على مدى عقود طويلة، وهو العارفُ بقيمة الأرض وثمن الحرية؛ لقد غصّ شعره بالتنديد والكره للكيان المحتل، والتمجيد والتعظيم لصفوف المقاومة الفلسطينية.
القائمة قد تطول ونحن نعدّد الأسماءَ الشعرية والنَّثرية التي واكبتْ القضية الفلسطينية؛ من الشيخ البشير الإبراهيمي إلى أحمد سحنون ومحمد العيد آل خليفة ومفدي زكريا، ثمّ بلقاسم خمار ومصطفى الغماري وسليمان جوادي وعيسى لحيلح والزبير دردوخ…، غير أني أريد الوقوف عند شاعرة بعينها تناضل بالكلمة في سبيل نصرة القضايا الإنسانية وعلى رأسها القضية الفلسطينية، هي لا تفوّت فرصة نزْفِ الحرْف بكل أمانة ووفاء.
تُدهشني الشاعرة الشابة “نجوى عبيدات” المُلتصقة بالقضية الفلسطينية والمنتمية شعريَّا إليها وبالأخص محنة “غزة” التي أدْمتْ قلوبنا وأسالتْ أقلامنا، وهي القائلة في “سقط القناع وما أخذنا ثأرنا”:
عربٌ، ونعشق أن تدوم الأقنعة
بالأمس خان العهدَ إخوةُ يوسف
لا تندهش أنّ الدِّماءَ مُطبِّعة….
تلتصق “نجوى عبيدات” بالكفاح “الغزاوي” التصاقًا شعريًّا عميقًا، إذْ تُفصِح عنه في صفحتها على “الفيسبوك”، وتساندُ القضيَّةَ شعرًا ونثرًا:
باقٍ هنا غصنُ زيتونٍ ولي شفةٌ
تقول للكون:
إنّ القدس عاصمتي
الأدب.. ضروري لترسيخ الذاكرة والمقاومة والانتصار
يُمثِّل التحدي اليهودي الصهيوني، الذي انْزرع في قلب فلسطين، ومدَّ جذوره فيها بأشكاله المختلفة، أبْرز التحديات التي تواجه الأمة في سعيها إلى التحرر من هذا المغتصب الغاشم، وأبرز القضايا الشائكة التي لم تجد لها حلاًّ أمام تخاذل عربي مشهود وتكالب غربي ليس له مثيل.
ورغم حالة الإنهاك التي يعيشها أهلنا في فلسطين، إلاَّ إنَّ هناك روح مقاومة عجيبة تتجدَّد في النفوس وعلى الأرض في كل مرة لتخبر العالمَ أنَّ الشعوب التي تحارب لأجل الدفاع عن عقيدتها وعرضها وأرضها كطائر الفينيق لا تموت.
ولأنَّ الأدب يمثل ذاكرة الشعوب، وتاريخها العميق، فقد كان دائما على المِحكَّ مع قضايا الأمة وهمومها المختلفة التي من نُسغها يولد ويكبر ويستمر، ولا جدوى من أدب لا يستغرق القضايا الحرة، ويدافع عنها، فالكلمة سلاح ثانٍ يُذكَى به الوعي وتتسع بمخرجاته الرؤيا، وتتضح معالم الطريق لكل مهموم غير قادر على إيصال صوته للجماهير.
وقد وعى الأدباءُ، منذ القديم ذلك، فكتبوا لفلسطين وعن فلسطين روايات وقصص وأشعار مثَّلت وسائل عملية لتصدير قضيتها إلى العالم بتفاصيل الآلام اليومية في صورتها النفسية أو الاجتماعية أو السياسية أو العسكرية أو الحضارية ولا سيما في عصرنا، من أمثال: نجيب الكيلاني، رضوى عاشور، جهاد الرجبي، نوال مهنى، جابر قميحة، محمود درويش، سميح القاسم، غسان كنفاني، نزار القباني، أمل دنقل، حسن الأمراني، وليد الأعظمي، محمود مفلح، وغيرهم كُثُر..
كتبوا لأنهم وعوا، بما لا يضع مجالاً للشك، أن القضايا تحيا بالمعايشة، وأنَّ الأدب يعيش بالقضايا التي يحملها، فما بالك لو كانت قضية فلسطين، هذه القضية التي أبقى على حياتها الأدبُ وحديث الشعراء والروائيين والقصاص كموضوع مكَّنها من البقاء على المحك، وألغى مَواتَها وبالتالي مَوات حق الشعوب في تقرير مصيرها، وفي حرصها على الدفاع عن مقدساتها وتربتها السماوية الرائحة.
وفي كل مرة تثار قضية فلسطين، ويتجدد المعارك مع الصهاينة على أرض الواقع إلاَّ ويعلو صوت الأدب بأجناسه المختلفة، ليحكي تفاصيل القضية وتطوراتها من جديد.
لقد عشنا على أنفاسها دائما، ولا زالت تُجلجل في داخلي قصيدة “محمود درويش” التي كبرنا عليها: “سجِّل أنا عربي”، وقصيدة “سميح القاسم”: “تقدَّموا تقدَّموا كل السماء فوقكم جهنم”، و”أمل دنقل”: “لا تصالح”، وروايات “نجيب الكيلاني”: “عمر يظهر في القدس”، “دم لفطير صهيون”، “حارة اليهود”، “نور الله”، وغيرها من الروايات.. فالأدب في اعتقادي جسَّد القضايا الكبرى، ومن أعْراقه يُولد الوعي والانتماء والمقاومة وكل جميل مستشرف يؤسس للحياة ولنخوة المعنى وبقائه، ولذا لن يسقط من تاريخ القضايا والحضارات.
وأمَّا عن الأدباء الجزائريين فلم يتوانوا يوما في نصرة فلسطين والقدس، فقد كتب عنها: عمر راسم، الزاهري، عبد الحميد بن باديس، البشير الإبراهيمي.. وناصرها بشعره: محمد العيد آل خليفة، محمد بوزيدي، مفدي زكرياء، محمد الأخضر السائحي، صالح خبشاش، أحمد سحنون، وأبو القاسم خمار، وغيرهم.. ولا يزال الشعراء والأدباء على عهدهم في نصرة الأقصى وفلسطين بالكتابة. وما أحداث غزة عنا ببعيدة، فلا ترى شاعرًا أو أديبًا مُنتميًّا إلاَّ وتحرَّك قلمُه للكتابة حول غزة وأوجاعها.
ويمكن أن نتمثَّل للمشهد في راهنه الأليم والمخزي بقصائد: سليمان جوادي، زبير دردوخ، نورالدين درويش، عبد المالك بومنجل، نذير طيار، عبد الغني ماضي، ليلى لعوير، وردة أيوب عزيزي، عائشة جلاب، مختارية بن غانم، الصديق الثلايجي الذي ملأ صفحاته الفيسبوكية بأشعار الحب والنار في نصرة غزة وفلسطين، ونصوص زكية علال.. وغيرهم كثير لا يتسع المقام لذكرهم.
إنَّ ما يحدث في غزة ـ وهي معادل موضوعي للتحرير ولكل المقدسات في فلسطين ـ يخنق الأنفاسَ إلاَّ أنفاس المقاومة بالكتابة فهي تنتعش وحبها جارفٌ في قلوب المبدعين الجزائريين، بما يقدمه أهلها من تضحيات لأجل الأقصى وفلسطين مهبط الوحي ومنزل الرسالة ومهد الحضارات وقِبلة الأنبياء والمرسلين..
لا يكفي القلم وحده ليقول بطولتهم، ولكنه ضروري لترسيخ الحضور والذاكرة والبطولة والمقاومة والانتصار.
فلسطين على الصليب.. للشاعر “مفدي زكرياء”
قصيدةٌ نَظَمها شاعر الثورة الجزائريَّة “مفدي زكرياء” في الذكرة 13 لتقسيم فلسطين، ونشرها في ديوانه “اللهب المُقدَّس”، في قسم “من وحي الشَّرق”. وكَتَب تحت عنوان القصيدة هذه العبارة: “حوار بين الشاعر وفلسطين والعرب، بمناسبة الذِّكرى 13 لتقسيم فلسطين”.
الشـاعـر:
أناديكِ في الصّـرصر العاتِيَهْ — وبين قواصِـفـهـا الذَّارِيَــه
وأدعـوكِ بين أزِيز الوغـــى — وبين جمـاجمهـا الجـاثِيَــه
فلسطينُ… يا مهبـط الأنـبـيـآ — ويا قِبلـة العـرب الثانـيــه
ويـــا حُجّـة الله فـي أرضــه — ويا هِبَة الأزلِ السَّاميـــه
ويــا قــدُســًا بــاعــــهُ آدم — كما بـاع جنَّتــَه العالِيَـــــه
وأضْحى ابنُه بين إخوانه — يلقـّبــه العُرْبُ بالجـالِيَـه
فلسطينُ والعُـربُ في سُكْرَةٍ — قد انحـدروا بك للهـاويــه
رمــاكِ الزمـانُ بكـل لئيـــمٍ — زَنيــمٍ من الفئة الباغِيَــه
وكـل شريـدٍ على ظهـْـرهـا — تُسخـّـِـره بطْنُه الخاوِيَــه
وألقــى بكِ الدهــر شُــذّاذَه — ومَنْ لم تُؤدِّبْـهُ ” ألْمـانِيَه”
وصبَّ بكِ الغـَربُ أقـْـذارَه — ورِجْسَ نِفـاياتـــه الباقِيَــه
وحط ابنُ صهيونَ أنذالـَه — بأرضكِ آمِـرةً نـاهِيَـــــه
ومـن ليس يهتزُّ فيه ضميرٌ — ولا في حوانيـهِ إنسانِيَــــه
وبالمال تُغْدِقُه الصَّدقات (1) — مَضَتْ فيـك بائعـةً شارِيـَه
ودسّ ابن خَرْيون أوساخَه — فعجّـلَ من نَتْنِهـا الغاشِيَـه
بكيتِ فلسطينُ في حائط (2) — به – قبل – قد كانتِ الباكيـه
فيـالكَ مـن معبـد نجـسّــوا — حناياه بالسـَّـوْءة البـاديــــه
ويا لـكَ من قِـبــلةٍ كَدَّســوا — بمحرابـِها الجِيَـف الباليـه
ويا لكَ مـن حَـــرَم آمِــــنٍ —— جياعُ ابن آوى به عــاوِيَه
فـلـســطـيـــن:
أيــا شـاعـر العُـرْب ذكـَّرْتـنـي — وهِجْتَ جراحاتـي الدامِيَــــه
لـقــد كـان لـي سـبـبٌ للـبـقــــا — فـقـطّــعَ قـومـي أسْبـابِـيــَـــه
ورحــتُ أُبــــاع وأُشْــــــــرى — كما تُباع لجزَّارِها الماشِيَـــه
وأُشـنَـقُ في حبْـل مُسْتـعـمِـري — وأُصْلـَب فـي كَـِّف جَلاَّدِيَـــه
ويَسْلبُنـي عِـزَّتـي، غـاصِـبـي — وتَنهبُ دارِيَ، قُـطَّـاعِـيَــــه
وفرَّقني “الخُـلـْفُ” أيدي سَـبَـا — وشتَّتَ في الأرض أوْصالِيَه
فأصبحتُ أَرْسُفُ في مِـحـنـتي — وقومي عـن مِحـنـتـي لاهِيَـه
وفي سُكْرةٍ ضَيَّعـوا عــِــزَّتــي — ولـم يـُغْـن ِ عـنِّي سُـلـْطـانِـيـَه
فـلا أنـا حــقـقَّـتـُهـــا بـيـــــدي — ولا سلَّـَح العـُرْب أبْنـائِـيـَــــه
وزوَّدني العُرْبُ بالـصـلـــوات — وبالشِّعْـر.. والخُطَب النَّارِيَــه
ومـاذا عَـسـاهُ يـفــيـــدُ الكــلامُ — ومـا سوف تصنعـُه القـافِـيَـه؟
فلا الدمعُّ يدْفعُ خَطْبي الرَّهيـبَ — ولا دعــوات ورُهْــبـانِيـَـــه
ومـاذا عساها تصـنـعُ الصـلاةُ — إذا أسْكـتَ العُـربُ رشـَّاشِيَـه؟
فـلـو كـان لـي أمـرُ تـدْبـيـرِهــا — لما احْترتُ في أمْـرِهـا ثانيــه
وكنتُ الجـزائـرَ فـي زحـفـهــا — وحقـقـَّتُ بالشعب آمـالِيَه
وأهْويتُ بالفأس أذْرو الجذوعَ — وأسْـحـقُ بالـنـَّعـل ثُعـبـانِـَيــه
وألهبتُها فـوق أرض الحمــى — وحرَّرتُ بالشعـب أوطـانـِيَــه
وغسلـْتُ عـارَا علـى جبهـتـي — وأعْـلـيـْتُ بالهـامـة الحانِيـَة
فأقْصف من لم يصـن حُرمتي — وأخْسِف بالأرض أصْنامِيَه
ومن كان دلاّلَ أعْـجـوبَـتـي — ومن قد تسبَّـب في عـارِيَـــــه
ومن قـد أعــان عـلـى نكـبـتي — ومـن كـان عَـيْـنًـا لأعدائِيَـه
ومـن كـان سمسـار أسـلحتـي — فعجَّـل بالغــدر إذلالِـَيــــــه
وناديتُ بالدم عدلَ السمآ — وقـدَّمـتُ لـلـنــار قـُربـانِـيـــَـــه
وخلَّدتُ حِطِّينَ في مقـدسي — وجدَّدتُ غـــزْوةَ أنـْطـاكـيــه
وناديتُ – إنْ خذلوا ثورتي — من القـادسـيـةِ أنصــارِيَــه
وجنَّدتُ من خالد بن الوليـد — وسعد بنِ وقاص أبْطـالِيَــه
فأقتصُّ من (قوم موسى) غدًا — وآخـُـذُهــم أخْــذَةً رابـِيــَــــــه
هو الشعبُ لا السادة المُترَفون — يُحـقِّـق للـنـصـر أحلامِيَـــه
ومن يحتقـرْ وثَبـات الشعــوب — تـُـذِبـْـه أعاصيرهـا السَّافِـيَـه
(إذا جاء موسى وألقى العصا) — تـلقـَّـفُ ما يـأفِــك الطاغِـَـيــه
العـَـرب:
وقال ابن يـَـعْرب لمــَّــا تيـَقَّــظ — لم أدر من سكرتي ما هِيَه؟
ولــــم أتــــفـــطـَّـن لثــــــالوثها — ولم أدر من غفوتي ماهِيه؟
فـلم أُجـِـدَّ فـــي صــدها — ولم يُـفدْني في القضآ مالِيَــه
وفوضَّتُ أمـْــريَ للحاكميـن — فـضيـَّع قـُــدسيَ حُـكـّــامـِـيَـه
وهامَ السُّرَاة بنُعْمـى الحيـاه — وعــاثوا (انتهـازًا وإقطاعِيَـــه)
وهل يُرتَجى العوْن من معشــرٍ — قواعدَ طاعِمَــــةٍ كاسِيــَــــه
فيا لـيتني لـم أخــن ثورتـي — ولـم أُطــْفِ نـــيرانَها الحـامِيَــه
ويـا ليْتـها لــم تكـن (هدنةً) — ويا ليتــــها كانــت القـاضِيَـــه
فلسطيــن لا تيأسي إننـي — سأصْلحُ في الشرق– أخطائِيَـه
لئن خنتُ فيما مضى إنـه — يُوبِّخُني اليــومَ وِجْدانِيـَــه
تخاذلتُ وانْهار مني الضميرُ — فضيـَّــع أرْضـــــيَ خـُـذلانِيَـه
وأهملتُ قدسيَ، نَهْبَ الذئـابِ — فألْبَسنـي الخــزيَ إهمــالـــيـَــه
وأعْرضتُ عن صارخٍ من نِداك — وطاوعت في الكيْد شيطانِيَه
ولطَّختُ عرْضيَ بين الورى — وسايرْتُ للإثم أهــوائِيـَــه
فإنْ تصْفحي اليوم عن زلَّتي — تـُكـفِـّرْ عن الذَّنبِ أفْعـالِيَــه
وكيف أنام عـلـى غادرٍ — يُفتِّتُ في الأرض أكْبـادِيـَــه
يـُهـدِّدُ أمْنـي ثـُعـبـانُــه — وتَقْـضـــم أفْعـاهُ أحْشائِيَــه
تَيــقـظَّ فيَّ الـدمُّ العــربي — وطهَّرني اليومَ إيمــانِيَـه
لئن نام مِنْ قَبْل فيَّ الضميرُ — وأخْلدَ للموت إحـساسِيَـه
فــــإنَّ العروبةَ ترْبَأُ بي — وينْهــانيَ اليـومَ قـــرآنِيَه
مصيركِ آخـُـــــــذُه بيـــدي — وأدعو إلى الثأر إخـوانِيَه
وأقـْفـُوا الجـزائرَ فــي زحْفها — وأعْضــدُ ثـورتَها الغالِيَه
وأغضبُ غضْبةَ ليثِ (القـنال) — وأذكـر(بِنـزَرْتَ) و(السَّاقِيَه)
فلسطين.. لا تجزعي فالسَّمـآ — ستَسْـنـدُ للنصـر إخْلاصِيَه
فلسطين.. لا تقنطي فالحمى — سيُـنصفه اليومَ أحْـرارِيَــه
أنا العربيُّ الكـريـمُ الجُدودِ — أنا النـور في الليلة الـدّاجِيَه
أنا الشعب.. والشعب لا ينـثـني — أنا الحرُّ إنْ حلَّتِ الداهِيَه
الـشاعـر:
أنا ابن الجزائر.. من أمَّة — على دمها تصعد الرَّابِيَــــه
على ذَوْبِ أكبادها، ترتـقـي — وفوق جماجمها ماضِيـَه
غدوتُ لثورتها شاعـرًا — من النار والنور ألْحانِيَه
فلسطين.. في صُلْبنا، لُحْمــةٌ — جراحاتها في الحشى ثاوِيَــه
عروبتنا في ضمير البَقآ — وشائجُ راسخةٌ راسِـيَـه
فلسطين.. في أرضنا بَعثـُها — ومن أرضنا تزحفُ الحامِيَـه
ومن أرضنا… نقطة الانطلاق — وثورتنا … حَجـرُ الـزاوِيَه
عقيدتنا في الـورى (وِحدة) — وأسْمى العقائد وِحْدانِيَـه
“محمد” أبقـى لنـا عِبْرةً — من (الذئبِ والغنم القاصِيَه)
وفـي نكبـة العرب موعظةٌ — مدى الدَّهْر- للمُهَج الواعِيَه
فـَمُـدّوا يدًا نَحْـــمِ أوطانَنا — ونُنقِـذْ حِمانا مـن الهاوِيَه
فـإن تنصـروا الله ينصـــركمُ — ويُنجــزْ أمانيكُــمُ الغالِيَه
ولـن يخـلفَ الله ميعـادَه — ولا ريب.. ساعـتـُنا آتِـَيـــه
وردة أيوب عزيزي – كاتبة وشاعرة جزائرية
أ.ش