أحمد فؤاد
“وعدوكَ جاءنا يتوهم
سيموتُ بأرضنا وسيُهزم”.
في واحدة من المعارك الفارقة للحرب العالمية الثانية، وبينما كانت القوات البريطانية تتلقى الهزيمة تلو الهزيمة أمام الجنرال الألماني الأسطوري، إرفين رومل وفيلق أفريقيا، وصل الجنرال الإنجليزي –حينذاك- برنارد مونتغمري لقيادة الجيش البريطاني الممزق، وكان أول ما فعله هو “كسر هيبة عدوه”، وقال: “حين وصلت إلى العلمين لقيادة القوات، وجدت مخططات للانسحاب السريع نحو خط دفاعي جديد إلى الشرق، وجدت ضباط الأركان يدربون جنودهم وضباطهم على التراجع المنضبط لتقليل الخسائر، وجدت بعض القوات قد ذهبت فعلًا إلى الوراء، أدركت لحظتها لماذا خسرنا حربنا في شمال إفريقيا، الجندي الذي يقاتل ورأسه للخلف لا يتقدم ولن ينتصر”.
باختصار، يقدم القائد البريطاني الذكي الدرس الأهم في لحظات الصدام الكبرى، بالنار وبالدم، وهي أن النصر ممكن فقط إن نجحت أن تزرع إمكانية النصر في عقول الجنود والمقاتلين، يمكنك أن تقهر أي عدو، وكل عدو، بالثقة المطلقة في أنك تستطيع الانتصار، وأن تترجم ثقتك إلى فعل إرادة جبار، يستطيع قلب المعادلة ودعاية العدو ونفسيته وسلاحه، مهما كان متفوقًا في كل ذلك.
هذه اللحظة في عمر الأمتين العربية والإسلامية لها وقع خاص جدًا، على كل نفس عربية سوية، هي أقرب إلى المزج السحري بين الفخر والشجن، وبين الألم والدم وبين الرضا بقبول التحدي الكبير، والتضحيات العظيمة التي تدفع اليوم، بإيمان وقناعة تامّين، ليس أقل إزائها من الخروج وتأسيس عهد جديد، يخاصم عجز الماضي وبؤس الحاضر، وعتمة المستقبل المفروض أميركيًا، ورسميًا من أتباع أميركا في قصور الحكم العربية، هي البداية الواجبة والصحيحة لهزيمة “فلسفة الهزيمة” التي يعتنقها الكثيرون منا كقدر مقدور ونصيب لا مفر منه، ولا تقبل اللحظة بكل ما دفع فيها أقل من صمود وتصميم في مواجهة كل أعدائنا، الكل.
لدينا، في اللحظة الأهم بتاريخنا العربي المعاصر، رواية فلسطينية وعربية لما يحدث من بداية معركة “طوفان الأقصى” المباركة، هذه الرواية تقول إننا “انتصرنا”، على الكيان الصهيوني أولًا، وعلى الغرب كله بما فيه القوة العظمى أميركا، وأننا عن طريقة المقاومة قد استطعنا، بكفاءة وقدرة وتخطيط كشف “عجز الكيان” الكامل والشامل، وبؤس خططه، وسوء تقديراته وتصرفاته، والتي تأتي مع العجز شرسة وغبية ومحملة بكل العنف الممكن، في شكل عقاب وقصف جماعي للمدنيين والمستشفيات والبيوت والمساجد والكنائس، علها تعيد لقطعان مستوطنيها الشعور المفقود بـ”الأمن”، لكن هيهات.
إن المقاومة الفلسطينية انطلقت نحو أهدافها، في هذا اليوم المجيد 7 تشرين الأول، ومعها بالكامل “المشروعية الأخلاقية” للتحرك العسكري، لا نيابة عن فلسطين وحدها، وإنما عن أمة الإسلام كلها، إن الأهداف التي أعلنتها الفصائل، ثم تمسكت بها، من إنهاء الحصار الغاشم على غزة، إلى تحرير الأسرى، ووقف اقتحامات المسجد الأقصى، قد حققت لها هذه المشروعية، وهي تختلف كثيرًا عن “لحظة حماسة” مؤقتة، تأخذ الجميع ببريقها لكنها تتلاشى بسرعة، سلاح المقاومة وقدرته –اليوم- يعبران بشكل كامل عن التطلعات الفلسطينية والعربية، بشكل لا مجال للاختلاف عليه أو اللبس فيه، والحرب كعبء طويل وممتد لا بد لها من الأمرين معًا، المشروعية والقدرة، لكي تتقبلها الشعوب، وتقدم بالتالي التضحيات في أتونها، بيقين وإيمان كاملين.
يمكن اختصار ملامح هذا النصر المؤزر على الجبهة الفلسطينية، بالاستعانة بعبارات “أبو عبيدة”، الناطق باسم كتائب “القسّام”، الجناح العسكري لحركة “حماس”، يوم السبت 28 تشرين الأول الجاري، “نقول للعدو الذي يكرر تهديداته بالاقتحام البري، بشكل يومي، إننا لا نزال في انتظاره لنذيقه أصنافًا جديدة من الموت، زمن بيع الوهم للعالم حول أكذوبة الجيش الذي لا يقهر، والميركافا الخارقة، انتهى، بعد أن حطّمناه في غلاف غزة، وانتظروا أوان ذلتكم بفارغ الصبر”.
على الجبهة الفلسطينية أيضًا، استطاعت المقاومة أن تنتقل بالصراع، في يوم خطاب “أبو عبيدة” إلى مدار جديد مختلف كلية، بإعلانها استهداف أكثر المواقع فوق كوكب الأرض تحصينًا وأمنًا، منطقة “ديمونة”، لتؤكد على رسالة أن الفعل الفلسطيني قادر، وأنه يستطيع، وأن أسوأ كوابيس العدو الصهيوني، أو حتى ما لا يجرؤ على الحلم به، قد تحقق واقعًا، ويمكن للمقاومة اليوم أن تقول إنها نجحت بامتياز في كسر كل تلك الخرافات المذلة والأوهام التي صنعها الكيان طوال 75 عامًا كاملة.
أما على الجبهات العربية الأخرى، والتي قررت بحسم وعزم وحزم قاطع أن تنسف رسالة التهديد الأميركية، وأن تلغي فكرة التهديد بالأساطيل وحاملات الطائرات، في العراق وسورية، اليوم، يكاد يكون خبر استهداف القواعد الأميركية عين الأسد وحرير والشدادي والنتف وحقل العمر روتينيًا، هذا ليس بيانًا عربيًا من المقاومة، بل هو اعتراف أميركي متأخر جدًا و”مزيف” بالنسبة للهجمات التي طالتهم، المتحدث باسم البنتاغون، الجنرال بات رايدر، اعترف أخيرًا أنه خلال الفترة بين 17 و24 تشرين الأول، تم استهداف القوات الأمريكية 10 مرات في العراق وثلاث مرات في سورية، عبر مزيج من الطائرات بدون طيار والصواريخ الهجومية.
استهداف الولايات المتحدة الأميركية، بهذا الشكل غير المسبوق، كان هو الآخر انتصارًا فارقًا للعالم العربي كله، ومنذ أن قام الحرس الثوري الإيراني بالهجوم على قاعدة عين الأسد، جهارًا نهارًا وبإعلان مسؤولية كامل منذ اللحظة الأولى، فإن القواعد الأميركية المنتشرة في المنطقة تحوّلت من أهداف ممنوعة إلى أهداف مشروعة، والولايات المتحدة عاجزة عن شن هجمات بقواتها الحالية في المنطقة، وهي مبعثرة، وقاصِرة عن حمايتها، والشيء الوحيد الذي يمكن أن يحدث هو انسحاب مروع وهائل، يشبه هروبهم من فيتنام أو أفغانستان، ينتهي معه العصر الأميركي برمته، وينتقل إلى أسوأ صفحات التاريخ.
ما لدينا أيضًا من أوراق قوة في الصراع العربي الصهيوني، هو “الطرف الأقدر”، حزب الله، في الجنوب الذي يتنفس على الأمة عزًا، وهو قد انخرط منذ البداية في المعارك، مستهدفًا كسر معنويات العدو، وتحطيم جداره الأمني على الحدود مع فلسطين، واستهداف مواقع التصنت والرادارات، وقبل ذلك، تحويل السلاح الصهيوني “الميركافا” إلى مسخرة وتابوت لجنود العدو.
من حيث البدء يجد الانتهاء، هناك قصة رواها الأستاذ محمد حسنين هيكل، عن زيارة الفيلد مارشال برنارد مونتغمري إلى مصر، لمناسبة مرور 25 عامًا على معركته الشهيرة العلمين، وكان المشير عبد الحكيم عامر بصحبة الرئيس عبد الناصر فى استقبال الفيلد مارشال البريطاني، ورأى مونتغمرى رتبة المشير اللامعة على كتف عامر، والنياشين المعلقة على صدره وقدمه عبد الناصر قائلاً: أعرفك بـ«فيلد مارشال» عبدالحكيم عامر، فتوجه مونتغمرى –سليط اللسان- فورًا إلى عامر بسؤاله كالقنبلة: “فى أي حرب حصلت على هذه الرتبة”!
في الحقيقة فإن ما يحدث يؤكد أن الرهان على المقاومة وعلى الرفض الشعبي لوجود الكيان الصهيوني، هو النتيجة الوحيدة المنطقية لو اعتبرنا أن “البوصلة هي القدس”، وأن أي لنا “قادتنا” الحقيقيين، وخلاف ذلك لا يبقى إلا المسوخ.
أ.ش