التكافل بشكل عام يُعدّ من أهم العوامل الحديثة التي تساعد الناس على بناء أنظمة اجتماعية اقتصادية متكاملة، فمعظم الدول الناجحة، تجد فيها ثقافة التكافل في أفضل درجاتها، وقد اعتمدت دول وأمم في تاريخ قديم ثقافة التكافل، ووظفته في بناء المجتمع أروع البناء، كما تم ذلك في بناء المجتمع الإسلامي عند انبثاق البعثة النبوية.
بالإضافة إلى التكافل الاجتماعي المهم في بناء الأمة والدولة، هنالك نوع آخر من التكافل لا يقل أهمية عن النوع الأول، ونعني به التكافل الفردي، ومعنى هذا التكافل كيف يكفل الإنسان حق نفسه، ولا يجور عليها، ولا يهمّشها ولا يحرمها من حقوقها المباحة شرعيا وقانونيا وأخلاقيا، فالنفس لها حقوق معروفة ومحددة على صاحبها، ولكن إذا تجاوزت الحدود سوف توصف بالصفة المعروفة والتي أوردها القرآن في نصوصه (النفس الأمّارة).
لذا فإن التكافل الفردي يُعقَد بين طرفين هما الإنسان و نفسه، فإن حدث هذا التكافل وفق الضوابط والتشريعات الصحيحة والمقبولة، حدث التصالح بين النفس والذات، وعاش الإنسان سعيدا منتجا متفائلا متفاعلا، ومتوازنا في رؤيته للحياة، حيث النفس هنا حاصلة على حقوقها وقانعة بما تحصل عليه وهنا تسمى بالنفس العاقلة الرشيدة، لأنها في نفس الوقت تقوم بكفالة صاحبها على أفضل حال، فيحدث التصالح المتبادَل بينهما،
(التكافل الفردي هو عبارة عن كفالة الإنسان لنفسه، وأن تكفل النفس الإنسان، ولا نقصد بالنفس هنا الأمارة بالسوء بل النفس العاقلة الرشيدة، وإذا تم هذا التكافل وفق ما قرره الإسلام فحينئذ يحصل السلام بين الإنسان ونفسه ويفوز بثواب الدنيا والآخرة ويعيش عيشة سعيدة ويموت ميتة حميدة، وذلك يتم عن طريق تحقيق حقوق كل من الطرفين وهما الإنسان ونفسه).
فإذا كفلت النفس الإنسان، أصبح عليه أن يكفلها ويضمن لها حقوقها، فليس صحيحا أن يحرم الإنسان نفسه مما حُلّل له شرعا، لأن هناك بعض الناس يصل بهم البخل والظلم حد أن يظلموا أنفسهم تحت حجج واهية وغير صحيحة ولا مسنودة، وهنا يحدث الفصام والخصام بين الإنسان ونفسه، ويفتقد الإنسان للتصالح النفسي.
الغنى غنى النفس ومراعاة الجسد
لذا من الأهمية بمكان أن يعمل الإنسان على تحقيق غنى النفس، وأن لا يعرّضها للحرمان من حقوقها المكفولة، لأنها سوف تقوم بنفس الخطوات وتخاصم الإنسان، وتذهب به في متاهات لا يمكنه الخروج منها، لذا يغيب التصالح النفسي بسبب انعدام وانحراف التكافل الفردي، بعضهم يضغط على نفسه بقوة بالعمل والكدح من أجل جمع المال ويحرمها مما هو حلال لها من المتع الدنيوية المحلّلة وليست المحرّمة، لذا عليه أن يلبي حق النفس كي تستغني وتكتفي بما يكفله لها الإنسان من حقوق مسموحة شرعا.
وهناك تأكيد قرآني على أن لا يهمل الإنسان نفسه، ولا يعاقبها كما يشاء، وإنما هناك توجيه واضح بأن لا يترك الإنسان دنياه، ولا يهملها، وعليه أن يستثمر نصيبه من الدنيا أفضل الاستثمار، حتى يكفل الحقوق المعروفة للنفس، وكل هذا بهدف تحقيق التصالح مع الذات، لأن الإنسان الذي لا يحقق هذا الهدف يعيش حياته ودنياه تعيسا وفاشلا.
ولكن في نفس الوقت ليس صحيحا أن يجعل الإنسان من دنياه ساحة لتحقيق الرغبات والأهواء المنحرفة لبعض النفوس، فإنه في هذه الحالة سوف ينجرف في مسارات غير صحيحة، لذا عليه أن يوازن بين متطلبات الدنيا والآخرة بطريقة صحيحة ومتوازنة.
عشْ دنياك ولا تنسَ آخرتك
إن كفاية النفس (تتطلب من الإنسان أن لا يترك الدنيا ويهملها فقالت الآية الكريمة: (وَابْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ اللّهُ الدّارَ الاَخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللّهُ إِلَيْكَ). ولكن من الضروري أن يصلح الإنسان دنياه بقدر أيضاً، ولذا جعل الله ما آتاه لأجل الدار الآخرة ثم قال تعالى: (ولا تنس نصيبك من الدنيا) حيث للإنسان نصيب من الدنيا).
ومثلما تسعى النفس للحصول على حقوقها، فإنها في نفس الوقت عليها تلبية حقوق الجسد، فهو يحتاج إلى الراحة والاطمئنان والابتعاد عن القلق وأسبابه، وهذه كلها تستطيع النفس المطمئنة المتوازنة الرشيدة من تحقيقها، إن كفالة النفس للجسد وكفالة الإنسان للنفس عملية متوازنة ليس فيها إفراط أو تفريط، فالكدح لجمع المال يجب أن لا يكون على حساب حقوق النفس، كما أن اللهو يجب أن لا يكون على حساب الإنسان.
يجب أن يتنبّه كل شخص منا إلى أن شهواته وأهوائه يمكن أن تحطمها إذا انساق وراء نفسه، وإذا سمح بحدوث حالة الاختلال في معادلة الحقوق بين النفس والجسد، فأي ميل لأحد الطرفين على حساب الآخر، يعني تهديم حالة التصالح النفسي القائمة على كفالة الحقوق بصورة دقيقة ومتوازنة بين الطرفين (النفس و الإنسان).
أ.ش