لكل خطاب ميزته وتوقيعه الخاص، ففي كل مرة تستمع فيها لسماحته يمر الوقت كالسحاب، تشعر وكأنها المرّة الأولى من حيث المواقف والمعادلات الجديدة. هذا ما لم نعتد عليه في المشهد السياسي، حيث تبدو جُل الخطابات مكرّرة خالية من أي جديد.
ورغم أنّ سمة التميُّز طبعت مختلف الخطابات السابقة لسماحته، ما جعلت أي إعلان عن خطاب مرتقب محط انتظار من قبل العدو قبل الصديق، إلا أنّ خطاب الثالث من تشرين الثاني 2023 شكّل خطابًا مفصليًا بكل ما جاء فيه. من حيث الشكل، أتى الإعلان عن الخطاب بعد ترقُّب وصفه البعض بـ”الطويل”، لتأتي الأيام الخمسة التي تلت الكشف عن خطاب الجمعة “ثقيلة” على الأصدقاء والأعداء على حد سواء. وبالموازاة، سرت التأويلات والتحليلات كالنار في الهشيم حول فحوى الكلمة قبل أن يكون لسماحته الخطاب الفصل.
أما من حيث المضمون، فقد حمل الخطاب العديد من الإشارات والمواقف التي استهلها سماحته بقطع الطريق على أي مطالبات بدخول المعركة مشيرًا الى واقع أنّ المقاومة الإسلامية بدأت المعركة منذ الثامن من تشرين الأول أي بعد يوم واحد على “طوفان الأقصى”. وهو الإعلان الذي يبدو الحديث بعده عن عدم تصعيد أمرًا مستغربًا لا سيّما وأنّ الخطاب وجّه تهديدًا صريحًا للولايات المتحدة الأميركية بأنّ العدة قد أعدت للأساطيل التي تهدّدون بها، فضلًا عن مواقف أخرى كان لها الأثر البالغ في البيت الأبيض وكيان العدو.
أكبر خطاب “ثوري” أقله في العشرين عامًا الماضية
الكاتب والباحث في الشؤون السياسية روني ألفا يقرأ في خطاب السيد نصرالله، فيصفه بداية بأكبر خطاب “ثوري” أقله في العشرين عامًا الماضية. العالم كله كان ينتظر كلام سماحته فأتى الخطاب أصيلًا ثابتًا على موقف المقاومة. يحلو لألفا أن يسمّيه “خطاب القدس”، فهو خطاب لأجلها وقد أتى على قدر التوقعات والتقديرات والأماني.
يُعلّق ألفا على التعليقات السلبية التي أعقبت الخطاب وأبدت رأيها حول ما اذا كانت سقوف المواقف تليق بفلسطين. برأيه، ثمّة نوعان من هذه المواقف؛ نوع يريد أن تصطاد في الماء العكر، بمعنى يريد أن يورط المقاومة ويزايد عليها، وثانٍ من نوع آخر أعرب عن قناعته بأنّ الدخول المباشر لفلسطين المحتلة هو الحل الوحيد. وفي كلتا الحالتين وسواء كانت المواقف عن حسن أو سوء نية، هناك جهل مطبق ــ برأي ألفا ــ بأساليب المقاومة واستراتيجيتها وتكتيكاتها، فالمقاومة ــ كما أكّد سماحته ــ انخرطت في المواجهة انخراطًا تامًا منذ 8 تشرين الأول، وهذا أمر مفروغ منه، وعليه، فنحن كمقاومة في لبنان في قلب المواجهة.
يشير ألفا الى الاتهامات التي تكال للمقاومة وتتهمها بأنها موظّفة ولديها رب عمل سياسي خارج الحدود وأن حزب الله هو ذراع من الأذرع الخارجية، وكذلك “حماس” في محاولة لتسخيف حركات المقاومة، فيوضح أنّ سماحته أكّد في سياق حديثه أن المقاومة الفلسطينية هي بنت الألم والعذاب والجراح والاضطهاد والموت والتنكيل والظلم، عمرها 75 عامًا، وبالتالي هي حركة فلسطينية مستقلة تحظى بدعم إيران والمقاومة، لكن لها تكتيكاتها واستراتيجيتها. التنسيق بين الحركات لا يمنع أن لا يكون حزب الله على علم بتارخ “طوفان الأقصى”، هذا الأمر لم يزعجه بدليل صورة اللقاء الذي جمع السيد نصر الله والأمين العام لحركة “الجهاد” الإسلامي زياد النخالة، ونائب رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” صالح العاروري. تلك الصورة أتت زمنيًا في منتصف المعركة الدائرة، وهذا يدل أنّ المقاومة في لبنان تنسّق تنسيقًا تامًا مع المقاومة في فلسطين، يضيف ألفا.
يتابع الكاتب والباحث السياسي مقاربته، فيلفت الى أنّ سماحة السيد ألغى في خطابه ما تُسمى بقواعد الاشتباك الثابتة. وفق قناعات ألفا، لا شيء اسمه قواعد اشتباك بين المقاومة في لبنان والعدو الصهيوني، وسماحته عبّر عن ذلك صراحة حين قال “المدني مقابل المدني”، كما أطلق مواقف صارمة حين أعلن أنّ كل الاحتمالات مفتوحة، وأعددنا العدة للأساطيل.
يأسف ألفا لأنّ في البلد “قصر نظر” لدى البعض. هذا القصر يعود لعدة أسباب، ربما لطموحات صغيرة على المستوى المذهبي والطائفي، والجهل، والأحقاد الدفينة، أو ربما هو مقصود من عملاء يتقاضون أموالًا مقابل مواقفهم سواء في الإعلام أو السياسة أو ما شابه، ما يجعلهم يعارضون دائمًا كل ما يقوله السيد نصر الله حتى ولو كانوا يوافقونه سابقًا. بينما اذا نظرنا في الخارج فإننا نرى سيلًا جارفًا في العالم حيث يتظاهر مئات الآلاف من المواطنين في أميركا وأوروبا وفرنسا وأفريقيا وغيرهم، وتقطع أميركا اللاتينية علاقاتها وهم ليسوا عربًا. على سبيل المثال، 80 بالمئة من سكان بوليفيا التي قطعت العلاقات مع الكيان “كاثوليك”.
يشدّد ألفا على أنّه كان يجب للبعض أن يقرأ جيدًا الرسائل الواضحة من الورقة التي خطّها سماحة السيد والتي طالبت بتسمية الشهداء شهداء على طريق القدس. يجب أن يقرأوا ويتعظوا. وفق ألفا، جميعنا معنيون بأن نكون على طريق القدس مسيحيين ومسلمين. المسيحيون المشرقيون معنيون بتحرير القدس كالمسلمين. يحب أن نلغي الفوارق بين الأديان والطوائف لأنّ فلسطين علّمتنا أن لا فرق بين المسيحي والمسلم، الفرق فقط بين الخائن والوفي لهذه القضية.
وفي ختام حديثه، يقول ألفا لكل من يزايد على الخطاب: “أعطونا أي زعيم في العالم العربي تسير وراءه الشعوب العربية.. بالطبع لن تستيطعوا أن تسموا شخصية واحدة على مستوى التاريخ والحضارة، وعلى مستوى الأحلام والآمال الا شخصية السيد نصر الله، فلتخيطوا بغير مسلة، وكفانا “ترهات””.
فاطمة سلامة
أ.ش