يصب في مصلحة أميركا وبريطانيا أكثر من الجميع

ممرّ زنغزور أو ممرّ الناتو؟

2022-12-18

كانت القوقاز وآسيا المركزية إبّان القرن التاسع عشر الميلادي أرض اللعب الكبيرة للامبراطوريتين الكبيرتين في ذلك الوقت، بريطانيا وروسيا القيصرية. التطوّرات التي طرأت على مدى أكثر من القرن الأخير لم تسبّب في تحجيم الأهمية الاستراتيجية لهاتين المنطقتين وخاصّة القوقاز فحسب، بل ازدادت أبعادها “الجيوسياسية” في علاقات ومعادلات القوى العظمى العالمية واللاعبين الإقليميين والدوليين.

إنّ القوقاز الجنوبية ومن جهة عدّة أسباب فريدة، منها التموضع في النطاق الاستراتيجي وكونها همزة وصل الشرق والغرب والشمال والجنوب في العالم والتمتّع بمصادر الطاقة الغنيّة (النفط والغاز) وخطوط الاتصال الاستراتيجي ومحاذاة روسيا وإيران، تحوّلت بالفعل إلى “هارتلند الجديدة” في العالم ، الامر الذي وضعها في بؤرة اهتمام اللاعبين الدوليين والإقليميين الهامّين.

اكتسبت القوقاز الجنوبية أهمية مزدوجة منذ عام ٢٠٢٠. انتصار أذربيجان على إرمينيا في حرب الــ ٤٤ يوماً والذي أسفر عن تحرير أقسام مهمّة من المناطق المحتلّة في هذا البلد، أحدث وضعاً جديداً في هذا الموقع.

من جهة عزّزت دولة أذربيجان أهدافها وسياساتها “العابرة لقره باغ” في القوقاز وهذا الموضوع خلص إلى تكثيف “الحسابات الخاطئة ” في سياسة هذا البلد الخارجية. ومن جهة أخرى ازداد عمق ونطاق “السياسات الطموحة” لبعض اللاعبين الإقليميين والدوليين بما فيهم الكيان الصهيوني. في هذا المنحى انبرت دولة تركيا للنهوض بالأهداف الشاملة وطويلة الأجل في سياساتها الخارجية ، يعني “تشكيل تركستان الكبيرة” من خلال اللعب في أرض القوقاز الجنوبية.

إنّ السعي وراء إنشاء الممرّ المسمّى بزنغزور من قبل دولة أذربيجان، حيث تقدّم تركيا التعاون والدعم الجادّ للمضي به، هو في نقطة ارتكاز تطوّرات القوقاز والمصدر الرئيس لجميع الخلافات والتوتّرات الموجودة في جنوب القوقاز.

إنشاء الممرّ آنف الذكر مقدّمة لتغيير الحدود في المنطقة،حيث إذا تمّ تطبيقه  فهذا من شأنه أن يؤدّي إلى “انهيار”جنوب القوقاز ويواجه ردّ الفعل المؤكّد من بيئته المحيطة خاصّة إيران وروسيا فضلاً عن إحداثه “تغيّرات جيوسياسية ”

وهذا بالتحديد هو الذي كانت تسعى الدول الغربية خاصّة بريطانيا وأميركا منذ سنوات وحتى العقود المنصرمة وراء تحقيقه، حيث يحمل في طيّاته مصالح جمّة لأمريكا وبريطانيا والدول الأعضاء في الناتو وأهداف عناوينها الرئيسية هي الحؤول دون اتّحاد روسيا وإيران والصين والتعثّر في مسيرة الدفع بأكبر مشروع استثماري في التاريخ وهوحزام واحد – طريق واحد، والقضاء على التحالفات الإقليمية المنافسة والمناوئة لأميركا وأوروبا في المنطقة وأيضاً النقل اليسير وزهيد التكلفة لمصادر الطاقة من آسيا المركزية وبحر قزوين وأذربيجان إلى أوروبا.

إنّ سبب تسمية ممرّ زنغزور بــ” ممرّ الناتو” يكمن في أنّه يمهّد سياسة ” مدّ الناتو” من بحر قزوين وحدود روسيا الجنوبية دون عوائق جدية. والمصالح  الرئيسة لمثل هذه الخطوة بالنسبة لأمريكا باعتبارها قوّة رئيسة في الناتو، تحضى من جهة باستحسان ودعم بريطانيا لأنّ لها مصالح متشابكة مع شركة “بريتيش بتروليوم” البريطانية بصفتها شركة أم (رئيسية) في القوقاز وأذربيجان وتقوم بتمرير غاز آسيا المركزية من روسيا والصين الى أوروبا؛ ومن هنا في نهاية الأمر سمّي “ممرّ تركستان” لأنّه يربط شرق وغرب عالم الترك المزعوم تركياً ، وهذا يعتبر أمراً حيوياً لأنقرة.

إنّ بريطانيا التي هي المخطّطة الرئيسية لتغيير الحدود في المنطقة، تحاول من  وراء الكواليس إنشاء ممرّ زنغزور المزعوم، وذلك لهدف أبعد من المصالح الاقتصادية والطاقوية والأمنية والسياسية. يجدر الذكر أنّ السواد الأعظم من مشاكل غرب آسيا اليوم هو نتاج رسم الحدود بعد الحرب العالمية الأولى والثانية والذي جرى على يد بريطانيا دون الأخذ بالاعتبار المكوّنات التاريخية والثقافية والاجتماعية وإنّما كان من أجل توفير “المصالح الاستراتيجية” وطويلة الأمد للندن في المنطقة.

ممرّ زنغزور والذي تلحّ أذربيجان وتركيا كثيرا على إنشائه، إنّما ينطوي على “المصالح قصيرة الأجل” لهذين البلدين خلافاً لحساباتهما. و هو فعلياً ممرّ اللاعبون الدوليون والعابرون للإقليم، ومنهم بريطانيا، الذين هم المخرجون الرئيسون له.

فضلاً عن ذلك، خطّة إنشاء هذا الممرّ الذي ترافقه المعارضة الإقليمية تشكّل مصدر التهديدات الأمنية والجيوسياسية لأذربيجان وتركيا على المدى الطويل. إلحاح باكو و أنقرة على التغيّرات الحدودية لا يقود سوى إلى تصعيد المشاحنات الجيوالسياسية في القوقاز. إذ من المؤكّد أنّ ديمومة هذا الوضع ستسبّب “تبعثر النظام القائم” والاخلال بتوازن القوى و بردود الفعل الإقليمية.

تبحث أميركا وأوروبا عن تعريف نموذج جديد في منطقة القوقاز ولأجل ذلك وضعتا “لعبة كبيرة ومعقّدة” في جنوب القوقاز على جدول أعمالهما وهي بالفعل تكرار جديد للعبة القرن التاسع عشر الكبرى، في الأجواء المختلفة للقرن الواحد والعشرين. علماً أنّ “توريط اللاعبين الإقليميين” و”إثارة الشروخ القومية” هما موضع التركيز الشديد في هذه اللعبة الكبيرة.

إنّ الجانب الاكبر من مشاكل وأزمات هذه المنطقة امنيا وعسكريا جاء من مخططات وأهداف رسمت في خارج المنطقة. وأوجه التعاون الاستراتيجية الإقليمية في القوقاز خاصّة بين إيران وأذربيجان وتركيا هي موضوع تقيّمه أميركا وبريطانيا والكيان الصهيوني وبعض الدول الأوروبية بأنّه يعود عليها بالضرر.

هذا يدقّ جرس الخطر لدول المنطقة خصوصاً أذربيجان حتى لا تلعب في ملعب أميركا وبريطانيا والكيان الصهيوني. بغضّ النظر عن المناطق المحتلّة في قره باغ، على دول منطقة القوقاز تجنّب المزاعم المتبادلة حول ملكية الأرض والامتناع عن الإجراءات الناجمة عن ذلك وأيضاً تشديد المناكفات الأمنية والعسكرية والسياسية، إذ ستنجم عنها تداعيات غير متوقّعة لا تصبّ في صالح أي دولة في المنطقة.

المصدر: الوفاق خاص/ حميد خوش آيند