لدى آل عبّاس مدونة سنوات الجريش، وهو مهتم بالتاريخ غير المكتوب، أو ذاك الذي تتجاهله الدولة عن قصد بهدف تهميش وإلغاء أي وجود للطائفة الشيعية على هذه الأرض قبل مجيء الأسرة الحاكمة، لكن العمل المتواصل والدؤوب لجاسم آل عباس إضافة إلى مساعي فردية أخرى، أفشل مشروع الدولة الذي عملت عليه طوال عقود مضت.
صار المواطن العادي يعرف اليوم الكثير عن المقابر والمدافن الأثرية، شواهد القبور التاريخية، تاريخ حرفة النسيج، طرق البناء القديم، أسماء عشرات القرى التي اندثرت، المخطوطات القديمة وغيرها، والفضل في ذلك يعود إلى أشخاص منهم جاسم آل عباس.
ولأن آل عباس تولّى مهمة تدوين تاريخ البحرين غير المكتوب وغير المعترف به قبل من السلطات، فقد تحول إلى هدف لمضايقات السلطة واستهدافها منذ مدة طويلة، فقد تعرضت مدونته لأكثر من محاولة اختراق للاستيلاء عليها وتدمير محتوياتها، آخرها قبل حوالي 10 أعوام، ما اضطر إلى إغلاقها لفترة قبل إعادتها للخدمة، وقبل 3 سنوات ونيف تعرض آل عباس نفسه للاعتقال، حينها اتهمته السلطات بـ “نشر معلومات مغلوطة” بسبب منشوراته المتعلقة بتاريخ البحرين.
أنشأ جاسم مدونته في العام 2008، وبعد العام 2011 أنشأ صفحة على انستغرام سرعان ما تحولت إلى واحدة من أهم الصفحات على مستوى البحرين، وهي الآن تمتلك نحو 320 ألف متابع، يتداولون منشوراتها الجديدة عبر الواتساب أولاً بأول، لتصبح مادة للنقاشات بين الأصدقاء أو أفراد العائلة في مجموعات تطبيق المحادثات الأكثر شعبية في البلاد.
لم يتوقع آل عباس كل هذا التفاعل الشعبي مع منشوراته بالتأكيد، لكن الناس كانوا تواقّين لمن يروي قصصهم وحكاياتهم، لمن يدوّن تاريخ أجدادهم، لمن يحفظ روايتهم التي لا تعترف بها الدولة، وسرعان ما أصبح هذا النجاح الكبير خنجراً في خاصرة نظام لا يريد الاعتراف بهذه الطائفة وأي شيء يرتبط بها.
واصل النظام بالطبع مراقبة آل عباس طوال هذه الأعوام، باحثاً عن أي ثغرة لما ينشره كي يتم ملاحقته قانونياً، لم يستطع ذلك، فذهب لما هو أبعد من المدونة، يبحث عن مشاركاته في المجالس والمآتم، خلال المناسبات الدينية والثقافية. لم يعدم النظام الحجة بالتأكيد لاعتقال آل عباس، كان يكفيه الإيعاز لأحد التابعين له في شبكات التواصل الاجتماعي لإشعال القضية عبر التحريض والدعوة لملاحقته، ليقوم بعد ذلك باعتقاله وتوجيه التهم التافهة والسخيفة بحقّه، وعزاء جاسم اليوم أنه يقضي لياليه خلف القضبان ظلماً لا لشيء إلا لأن ما بات يقدمه وينشره أصبح مؤثّراً ونافذاً إلى عقول من يريدون طمس هوية أهم مكوّن في هذا البلد.
“أمريكيون” تدين اعتقال البحرين للباحث جاسم آل عباس لنشره فيديو عن ظهور الإسلام والتشيّع وتطالبها بإطلاق سراحه
بدورها أدانت منظمة “أمريكيون من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان في البحرين” بشدَّة اعتقال حكومة البحرين للباحث التاريخي البحريني جاسم آل عباس، على خلفيّة مقطع فيديو نُشر له يتحدّث فيه عن رصده لسياق تاريخي لظهور الإسلام ومذهب التشيّع في البحرين، والتي تندرج ضمن إطار تخصُّصه في مجال البحوث التاريخية والأكاديمية.
وعبَّرت المنظمة، في بيان، عن قلقها البالغ من “اعتقال حكومة البحرين لأكاديميها ومثقفيها ووضعهم في السجون فقط بسبب مشاركة أبحاثهم التي عملوا عليها والتعبير عنها”.
وطالبت الحكومة بـ “ضمان حق حرية الأفراد في التعبير عن آرائهم وفقاً لالتزاماتها القانونية المحلية والدولية”، مطالِبة بإطلاق سراح آل عباس فوراً.
وكانت “إدارة مكافحة الجرائم الالكترونية” قد استدعت آل جاسم هاتفياً، يوم 10 نوفمبر/تشرين ثاني 2023، واعتقلته ثم أحالته، بتهمة “العمل على إثارة الفتن وتهديد السلم الأهلي”، إلى “النيابة العامة” التي أمرت بعد يومين بحبسه لمدة أسبوع في سجن “الحوض الجاف”.
“مركز البحرين”: بيان الداخلية بشأن اعتقال جاسم آل عباس مخالف للقانون
من جهته عبَّر “مركز البحرين لحقوق الإنسان” عن قلقه جرّاء اعتقال السلطات للباحث التاريخي البحريني جاسم حسين آل عباس، بعد كلمة ألقاها في تجمُّع ديني حول تاريخ البحرين القديم.
وأكد المركز، في بيان اليوم الثلاثاء 14 تشرين ثاني/نوفمبر 2023، أنّ “بيان وزارة الداخلية بشأن اعتقال آل عباس جاء قبل عرضه على “النيابة العامة” ومن دون تمكينه من الحصول على الدعم القانوني”.
وشدد المركز على أنّ “اعتقال آل جاسم يُعدُّ انتهاكاً واضحاً للحق في حرية الرأي والتعبير كما جاء في المادة 19 من “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” والتي تنص على أنّه “لكلِّ شخص حقُّ التمتُّع بحرِّية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في اعتناق الآراء من دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقِّيها ونقلها إلى الآخرين، بأيَّة وسيلة ودونما اعتبار للحدود”.
وطالب المركز السلطات البحرينية بـ “الإفراج عن الباحث آل عباس ومعتقلي الرأي كافة والتوقُّف عن ملاحقة الأفراد واستهدافهم بسبب التعبير عن آرائهم، وضمان حق الأفراد في التعبير عن آرائهم وتعديل القوانين التي تفرض قيوداً على هذا الحق المكفول دولياً”.
وليست هذه المرة الأولى التي تستدعي أو تعتقل السلطات فيها آل جاسم علة خلفيّة بحوثه، إذ سبق أنْ اعتقلته في عام 2020 بِتُهَم تتعلق بـ “نشر معلومات مغلوطة” حول مسجد تاريخي.
أ.ش