غالباً ما تطرح الحروب مجموعة إشكاليات تتعلّق بقوانين وقواعد ذات مظلّة إنسانية، وتضع قيوداً وشروطاً بشأن استخدام أنواع معيّنة من السلاح والذخائر، فتحظر التي تعدّ ضمن المحرّمات الدولية، باعتبارها أسلحة دمار شامل، أو أنها قد تؤدي إلى سقوط عدد غير محتمل من الضحايا؛ ومن ضمن هذه القوانين والقواعد ما يتعلّق بالتعامل مع الأسرى والمعتقلين وظروف السجن والإحتجاز، وتحدّد مواصفات صارمة بشأن أسلوب التعاطي مع هؤلاء تحت عنوان “أسرى حرب”، أما المدنيّون فلا يبيح أي قانون اعتقالهم أو التعرّض لهم طالما أنهم لا يقومون بأعمال حربية أو أنشطة مؤثرة على سير المعارك، ولا سيّما منهم النساء والأطفال والعجزة.
اتفاقية جنيف
ولعلّ الإتفاقية الموقعة في جنيف بتاريخ 12 آب 1949 تعدّ من أشهر الوثائق التي حدّدت الأحكام المتعلقة بحماية المدنيين في “حالة الحرب المعلنة أو أي اشتباك مسلّح ينشب بين طرفين أو أكثر، حتى لو لم يعترف أحدها بحالة الحرب”، كما تنطبق هذه الاتفاقية في “جميع حالات الإحتلال الجزئي أو الكلّي لإقليم أحد من الأطراف، حتى لو لم يواجه هذا الإحتلال مقاومة مسلّحة”. وتعدّد الإتفاقية الأفعال المحظورة في “جميع الأوقات والأماكن” بحق “الأشخاص الذين لا يشتركون بأعمال عدائية، بمن فيهم أفراد القوات المسلّحة الذي ألقوا عنهم أسلحتهم”، وتفرض على “الأطراف المتحاربة معاملتهم معاملة إنسانية دون أي تمييز ضارّ يقوم على العنصر واللون أو الدين والمعتقد، أو الجنس أو المولد، أو الثروة أو أي معيار مماثل آخر”، هذا عدا عن أحكام أخرى متعلّقة بطريقة التعامل الإنساني مع الجرحى والمرضى ودور العبادة والمستشفيات وطواقم الإسعاف.
أسطورة الأخلاق الإسرائيلية
ولا داعي للاستطالة في تعداد وشرح بنود هذه الاتفاقية، وغيرها من الاتفاقيات التي صادقت عليها مواثيق الأمم المتحدة وشرعة حقوق الإنسان، والتي تؤكد جميعها على احترام البشر بما هم فئة تتمتّع بالحقوق التي تفرضها إنسانيتهم من حيث الخَلق، وهو المبدأ الذي انطلقت منه الشرائع لتبني عليه الأطر الأخلاقية الواجب اتباعها واحترامها على قاعدة التناظر والتماثل الإنساني، إلا أن كل ما سبق ذكره لا يجد له أي شكل من أشكال الاعتراف اللفظي أو التطبيقي عند “إسرائيل”، خصوصاً في ما يتعلّق بالإعتبار تجاه العرب والمسلمين عموماً، وتجاه الفلسطينيين خصوصاً، ولهذا الأمر صلة بالمبدأ التلمودي الذي يعتمده الصهاينة معياراً في النظر إلى الشعوب وتصنيفها وفق مقولة “شعب الله المختار”، فضلاً عن “الأسطورة الأخلاقية” التي ابتدعوها، وجعلوا لها ميزات ومواصفات لا تنطبق إلا عليهم أنفسهم، فالقتل عندهم مبرّر بناءً على مبدأ “أخلاقي” يضعهم في رأس هرمية التصنيف البشري بما يتيح لهم ارتكاب أي فعل قد يعتبره الآخرون شائناً، في حين أن هذا الفعل لديهم مباح، طالما أنه يدخل في منظومة البقاء والهيمنة.
ذرائع القتل والإرهاب
لطالما اعتبر الصهاينة أن ما كانوا يرتكبونه من إبادة شاملة بحق قرى بأكملها، وعمليات تهجير وتشريد للشعب الفلسطيني، منذ ما قبل العام 1948 وحتى اليوم، وتنفيذ عمليات الإغتيال والتفجير في شتى بقاع الأرض، وحياكة المؤامرات الدولية، هي كلّها “أعمال نظيفة” تحتّمها ظروف الميدان، فإذا لم يؤد قتل مجموعة أشخاص إلى تشريد الباقي، فهذا يحتّم قتل عدد أكبر لتحقيق الهدف، وإلا فلا مناص من قتل الجميع حتى تكون الأرض لهم مباحة، ولذلك فإن التمادي غير المقيّد في حرب الإبادة على البشر والحجر والطبيعة في قطاع غزة، والاعتداءات الإرهابية التي ترتكبها قوات الاحتلال في الضفة الغربية، هي ترجمة طبيعية لمبادئ “الأسطورة الأخلاقية” التي كرّس الصهاينة ذرائعها في ذهن اليهود أنفسهم، وسوّقها لهم الغرب المتماهي مع هذه الأسطورة؛ إلا أن هذه الأسطورة سقطت بشكل ذريع أمام المقاومة الفلسطينية في “طوفان الأقصى” بأبعاد مختلفة، وأهمها:
أخلاقية القتل
البعد الأول: أخلاقية القتل، حيث كان من السهل على الصهاينة ادّعاء تاريخ مزوّر يقلب الحقائق، فيصوّرون العربي – الفلسطيني بأنه متوحّش يستحق القتل، ويدّعون أن اليهود “شعب” عانى الأمرّين عبر التاريخ من القتل والتشريد في دول أوروبا، ويسوّقون الهولوكوست المزعومة على يد النازيين كنموذج لهذه المعاناة.. ولعلّ حكومات العدو المتعاقبة استساغت هذا المنحى ظنّاً بأن العالم بات يتقبّل مقولة “القتل النظيف”، ويتفهّم الأسباب التي تجعل الولايات المتحدة الأمريكية تفتح خزائنها من الأسلحة والذخائر المحرّمة دولياً لاستخدامها في حرب الإبادة، ولكنها لم تلتفت إلى فقدان القدرة على الاستمرار في تشويه الحقائق في ظل طغيان الإنفوميديا، فما عاد الصهاينة قادرين على تزييف الحقائق إزاء مصداقية الوقائع وصدقية الصورة، فلم تظهر صور جثث المقاتلين الفلسطينيين بأسلحتهم، بينما صدعت ضمائر الناس صور أشلاء الأطفال والنساء والتدمير الهمجي، وبالتالي لم تعد حرب “إسرائيل” عسكرية بحتة بقدر ما هي حرب جبانة لنظام عنصري جبان وجيش جبان على الإنسان والبشرية، فخسرت معركة الرأي العالمي التي لطالما كانت تراهن عليها في تسويغ جرائمها عبر التاريخ.
أخلاقية الأسر
البعد الثاني: أخلاقية الأسر، حيث إن الصهاينة يمتلكون تاريخاً أسود في هذا السياق، وهم يسوّغون عمليات الدهم والاعتقال العشوائية وهدم المنازل الفلسطينية، وانتهاكاتهم لحقوق الأسرى وتعذيبهم في المعتقلات، بادّعاء أن العربي – الفلسطيني هو دوماً في موقع المعتدي، وأن “إسرائيل” هي دوماً في موقع الدفاع عن النفس، حتى لو تطلّب ذلك القيام بعمليات استباقية غير مبرّرة، يدعمهم في ذلك الفيتو الأمريكي الذي “دجّن” دول التجمّع العالمي (الأمم المتحدة)، ويأّسها من إمكانية اتخاذ أي إجراء يضع حداً للإرهاب الصهيوني، فيما أظهرت المقاومة الفلسطينية أرقى مستويات التعامل الإنساني مع الأسرى الصهاينة، على الرغم من مشاعر الحنق الذي يكّنها هؤلاء المقاومون في ذواتهم، وهم يرون بيوتهم تدّمر وعوائلهم تُدفن تحت الركام، وأمهاتهم وأطفالهم يتمزقون أشلاء بصواريخ الإرهاب الأمريكي – الإسرائيلي، وما تظهره عمليات التبادل التي تجري في أيام الهدنة المؤقتة تؤكد بلسان اليهود أنفسهم أعلى مستوى من الرقي الأخلاقي الذي تعتمده المقاومة في التعامل مع الأسرى، لدرجة قد يخال الجمهور أن هؤلاء يغادرون أماكن الاحتجاز وقلوبهم مع مقاتلي حماس الرحماء.
أخلاقية المواجهة
البعد الثالث: أخلاقية المواجهة، حيث إن التاريخ يسجّل أن الصهاينة لم يحققوا أي إنجاز في مسار الصراع العربي – الصهيوني إلا بفعل تواطؤ وخيانة بعض الأنظمة العربية، التي تسير اليوم في ركب التطبيع وتدعم “إسرائيل” سراً وعلانية في عدوانها على قطاع غزة وتحرّض على المقاومة الفلسطينية وحركة حماس؛ ولئن كانت الكفة راجحة عسكرياً لصالح “إسرائيل”، فذلك عائد إلى الدعم المالي والإمداد الحربي من قبل أمريكا والغرب عموماً، مقابل ترسانة متواضعة لحركات المقاومة، إلا أن سجّل المعارك التي خاضتها المقاومة ومحورها ضد العدو الصهيوني منذ عام 1982 وصولاً إلى “طوفان الأقصى”، الذي يتحضّر ليختم فصول انتصاره، يرسم خطاً انحدارياً لمحطات السقوط الإسرائيلي، وبذلك تفرض المقاومة منظومة أخلاقها في ميزان المواجهة على قاعدة “الندّ للندّ” على الرغم من انعدام التكافؤ العسكري، وتمعن في إسقاط أسطورة التفوّق الإسرائيلي، ليتطوّر اختلال ميزان الردع ويتبلور مأزقاً وجودياً يهدّد مصير الكيان المؤقت واستمرارية وجوده.
محمد أ. الحسيني
أ.ش