دراسة تحليلية

السينما الفلسطينية.. قرن من الزمن

يُعد "فلسطين في السينما" أرشيفاً كاملاً بجهد هائل وجبار يوثق لتاريخ السينما الفلسطينية.

2023-11-29

محاولة رصد كل إنتاج السينما الفلسطينية والتأريخ لها تعد عملاً صعباً. تعالوا نتعرف إلى المراحل الأساسية للسينما الفلسطينية منذ قرن.

 

يجمع كتاب قيس الزبيدي “فلسطين في السينما” معظم ما التقطته عين الكاميرا عن فلسطين خلال قرن من الزمن تقريباً، وتحديداً من وعد بلفور إلى ملحمة جنين، وذلك في نحو 800 فيلم شارك في صنعها فنانون مختلفو الجنسيات من فلسطينيين وعرب وأجانب.

 

تتوزع الأفلام بين الأفلام الروائية والتسجيلية، الطويلة والقصيرة، وتعنى بتصوير مأساة فلسطين وشعبها. الأفلام التي يرصدها الزبيدي تغطي الفترة المصيرية من سنة 1911، أي منذ زمن الحكم العثماني، مروراً بعهد الانتداب البريطاني وكذلك زمن النكبة والتشريد وقيام دولة الاحتلال سنة 1948، وكل ما تعرض له الشتات الفلسطيني حتى عام 2005.

 

يُعد “فلسطين في السينما” أرشيفاً كاملاً بجهد هائل وجبار يوثق لتاريخ السينما الفلسطينية، لئلا يتعرض هذا الجزء الحيوي من الذاكرة الفلسطينية للضياع والفقدان، ولا سيما أن قسماً مهماً من الأرشيف السينمائي الفلسطيني تعرض للتلف والمصادرة أثناء الغزو الاسرائيلي للبنان، في محاولة لمصادرة الذاكرة بعد مصادرة الأرض.

 

مع ذلك، تبقى محاولة رصد كل منتوج السينما الفلسطينية والتأريخ لها عملاً صعباً، كما أنّ المراجع حولها عديدة ومتنوعة، وثمة إشكاليات أو اختلافات سنجيء على ذكرها.

 

البدايات

 

لم تختلف بدايات السينما في فلسطين عن بداياتها في دول مثل تونس والجزائر والمغرب ومصر. إذ قام مصورو الأخوين لوميير، كما تشير المراجع، بالتصوير في هذه الدول العربية في نهاية تسعينيات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ثم راح السينمائيون الأجانب يضطلعون بالدور الرئيسي في إنشاء السينما فيها ممهدين لبداياتها الوطنية بعد الاستقلال.

 

يمكن القول إن تاريخ السينما في فلسطين بدأ حينما قام مصور لوميير جان ألكسندر لوي بروميو بتصوير مشاهد قصيرة في مدينتي يافا والقدس بين 3 و25 نيسان/أبريل سنة 1897.

 

ومع ذلك، يتّفق النقاد والباحثون الذين يتصدون للتأريخ للسينما الفلسطينية أنّها تظل شبه مجهولة قبل نكبة سنة 1948، وتتضارب الروايات حولها في ظل غياب الأفلام والوثائق الموثوقة، كما يرى معظمهم أنّ تاريخ السينما في فلسطين شهد انطلاقته الفعلية بعد ولادة الثورة الفلسطينية المعاصرة في النصف الثاني من ستينيات القرن العشرين، علماً بأن مرحلة ما قبل النكبة شهدت قيام بعض المخرجين اليهود بإنتاج أفلام وثائقية أو شبه وثائقية تعرّف بفلسطين ومدنها وحياة سكانها، من ضمنها فيلم “أول فيلم عن فلسطين” الذي صوره وأنتجه سنة 1911 موراي روزنبيرغ، وفيلم “جوديا محررة” الذي صوره ياكوف بن دوف، وسجل فيه دخول الجنرال البريطاني إدموند اللينبي إلى القدس أواخر سنة 1917.

 

ومع ذلك، تبقى هذه العناوين خارج إطار السينما الفلسطينية، إلا مكانياً، والمقصود بالسينما الفلسطينية تلك السينما التي تعنى بتناول القضية الفلسطينية أو التي صنعها فلسطينيون، والمهم أنها تصب في إطار القضية.

 

دار السينما الأولى

 

كانت سينما “أوراكل” في القدس من أوائل قاعات العرض السينمائي في فلسطين، وقد أنشئت سنة 1908، كما شجعت الصحافة الفلسطينية على ارتياد دور السينما، وكُتب في صحيفة “مرآة الشرق الفلسطينية” سنة 1930 نصٌ يشجع العرب على ارتياد قاعة “سينما فلسطين”. وافتتحت سينما “ريكس” في القدس أيضاً سنة 1938 واعتبرت أول قاعة سينما بمعايير متطورة، ناهيك عن عشرات دور السينما سواء المُقامة كدور سينما، أو تلك التي كانت قاعاتها في المقاهي، في يافا، منذ مطلع القرن العشرين.

 

بعد صدور الكتاب الأبيض من بريطانيا سنة 1939 استهدفت سينما “ريكس” من قبل عصابات الأراغون التي زرعت عبوات متفجرة فيها خلال عرض “طرزان والقرد شيتا”، كما عادت هذه العصابات لحرق القاعة سنة 1947.

 

في السياق نفسه، في يافا، كان ثمة 17 قاعة سينما في الثلاثينيات، ومهدت قاعة سينما “الحمراء” لإطلاق المرحلة الثانية من الثورة الفلسطينية ضد الاحتلال البريطاني، ذلك عبر استضافتها للاجتماعات السياسية.

 

يسرد المخرج الفلسطيني جورج خليفة في كتابه “السينما الفلسطينية: أرض، صدمة، وذاكرة”، قوانين الرقابة البريطانية على السينما الفلسطينية، مثل قانون الصور المتحركة سنة 1929، وقانون الصحف 1933، وقانون الترفيه العام 1935، وقانون عدد 57 سنة 1935.

 

ويقدم خليفة في كتابه أيضاً فواصل تقريبية لمراحل تأسيس السينما الفلسطينية، ويذكر 4 فترات ميزت السينما الفلسطينية، الأولى في فترة الانتداب البريطاني، والثانية تمتد ما بين النكبة والنكسة (1948 – 1967) وتسمى بعصر الصمت، أما الثالثة فبين 1968 و 1982، وتسمى بسينما الثورة الفلسطينية، فيما تمتد المرحلة الرابعة إلى ما تعيشه السينما الفلسطينية اليوم.

 

سينما ما قبل النكبة

 

يستعرض حسان أبو غنيمة في كتابه “فلسطين والعين السينمائية” احتمالاً يقول فيه إن فلسطين كان يمكن أن تعرف السينما سنة 1926/ وأن تزدهر فيها كما ازدهرت في مصر، ذلك لو تابع السينمائيان الشابان إبراهيم وبدر لاما (الأعمى) طريقهما إلى فلسطين وهما في عودتهما من تشيلي إلى وطنهما في فلسطين. لكنهما لما شاهدا النشاط الفني في الإسكندرية قررا البقاء فيها، وقاما بإنتاج فيلم صامت هو أول فيلم عربي طويل يعرض في مصر “قبلة في الصحراء” عام 1927.

 

تعرض المراجع، كلها تقريباً، أن إبراهيم حسن سرحان صوّر سنة 1935 فيلماً مدته 20 دقيقة، وثّق فيه زيارة الأمير سعود للقدس ويافا، ولقاءه بمفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني، ويُعد هذا الفيلم نقطة انطلاق السينما الفلسطينية. كما أخرج سرحان فيلماً بعنوان “أحلام تحققت” مدته 45 دقيقة.

 

على العموم، يفند أبو غنيمة في كتابه سالف الذكر مزاعم سرحان بناءً على أقوال السينمائي الفلسطيني أحمد حلمي الكيلاني، ويقول إن محقق الفيلم عن زيارة الأمير سعود كان جمال الأصفر، وإن محقق فيلم “أحلام تحققت” هو خميس شيلاق، ويُذكر أن أول فيلم فلسطيني روائي كان قد حققه صلاح الدين بدرخان سنة 1946 باسم “حلم ليلة”، ويؤكد ذلك الكاتب محسن البلاسي في كتابه “الخيال الحر”.

 

في منتصف أربعينيات القرن الماضي، ظهر مخرجون محترفون درسوا الإخراج والتصوير مثل أحمد حلمي الكيلاني وجمال الأصفر اللذان أسسا “الشركة العربية لإنتاج الأفلام السينمائية” في فلسطين.

 

سينما الثورة الفلسطينية

 

بعد بدء الكفاح المسلح الفلسطيني عام 1965 بدأ نوع جديد من السينما العربية وهو السينما الفلسطينية الثورية.

 

اشتهر فيها مجموعة من المصورين والمخرجين الذين أخذوا على عاتقهم إنتاج مواد فيلمية مواكبة للثورة. وأسس هؤلاء “وحدة أفلام فلسطين” التي قدمت مجموعة أفلام رصدت الكفاح الوطني في عدة مراحل من تجربتها.

 

تتضمن هذه القائمة فيلم “لا للحل السلمي” الذي أنجزه مصطفى أبو علي، وصلاح أبو هنّود، وهاني جوهرية، وسُلافة مرسال، في سنة 1968، إضافة إلى فيلم “بالروح بالدم” المنتج سنة 1971 لمصطفى أبو علي، وهو مؤسس “سينما الثورة الفلسطينية”. كل الأفلام التي قدمتها “وحدة أفلام فلسطين” كانت أفلاماً تسجيلية ترصد الحراك المسلح ضد الاحتلال، ومعاناة الفلسطينيين في الشتات.

 

وساهمت الوحدة في تأسيس “جماعة السينما الفلسطينية” التي اتخذت في ما بعد اسماً جديداً هو “أفلام فلسطين – مؤسسة السينما الفلسطينية”، في إطار مكتب الإعلام الموحّد في “منظمة التحرير الفلسطينية”، وكان ضمن السينمائيين المشاركين فيها كلٌ من مصطفى أبو علي، وسمير نمر، وقاسم حَوَل، ورسمي أبو علي.

 

كما ظهرت مجموعات سينمائية أُخرى منها مجموعة في إطار اللجنة الفنية التابعة للإعلام المركزي التابع للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، أخرج أول أفلامها رفيق حجّار سنة 1973. ومجموعة أُخرى ضمن اللجنة الفنية التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أخرج أول أفلامها قاسم حَوَل سنة 1972. كما عمل فيها المخرج جبريل عوض. وفي دائرة الإعلام والثقافة في منظمة التحرير، أخرج أول أفلامها قيس الزبيدي سنة 1972، واستمر في العمل لمصلحتها عبر إخراج عدة أفلام، من بينها “وطن الأسلاك الشائكة” (1980)، و”فلسطين، سجل شعب” (1984). وأنتجت “مؤسسة صامد للإنتاج السينمائي” أول أفلامها سنة 1976 بعنوان “المفتاح” من إخراج غالب شعث.

 

بلغ إجمالي الأفلام التي أُنتجت في ذلك العقد قرابة 50 فيلماً وثائقياً، وفيلماً روائياً واحداً هو فيلم “عائد إلى حيفا ” سنة 1982 للمخرج قاسم حَوَل عن رواية الأديب غسان كنفاني، فضلاً عن أعداد من “جريدة فلسطين السينمائية”.

 

انتهت هذه الفترة سنة 1982، بعد طرد “منظمة التحرير” من لبنان بعد الاجتياح الإسرائيلي، إذ أوقفت وحدة الإنتاج السينمائي التابعة للمنظمة نشاطها، مثلما فعلت وحدة الإنتاج التابعة للجبهة الديمقراطية، وجمعت أفلام تلك الحقبة جميعاً، وسُميت بسينما الثورة الفلسطينية، أو سينما المنظمات الفلسطينية، وقد أسست لسينما فلسطينية جديدة.

 

السينما الجديدة

 

طوّرت السينما الفلسطينية أدواتها وموضوعاتها، وخرجت من المفاهيم المستهلكة. إذ باتت الأفلام الفلسطينية تحظى بحضور عالمي، لا سيما فيلم “عرس الجليل” لميشيل خليفي سنة 1987 الذي حاز جائزة النقاد الدولية في مهرجان “كان” عام 1987، والجائزة الذهبية في “مهرجان سان سيباستيان”، والتانيت الذهبي في “مهرجان قرطاج” سنة 1988.

 

وإلى جانبه نذكر إيليا سليمان الذي بدأ مشواره سنة 1990، وهو صاحب ثلاثية “سجل اختفاء”، “يد إلهية”، “الزمن الباقي، سيرة الحاضر الغائب”، وقد أسس في هذه الثلاثية لنقلة نوعية في السينما العربية، وفقاً للنقاد، من حيث طريقة السرد والأسلوب واللغة السينمائية التي سمحت بقراءة تفاصيل القضية الفلسطينية، والاطلاع على مسيرتها، بلغة لا تجنح إلى “الخطابية الثورية” التي اعتمدتها السينما الفلسطينية في سنوات السبعينيات.

 

كما يحضر هاني أبو أسعد بفيلمه “الجنة الآن” سنة 2005 وعدة أفلام أخرى، ورشيد مشهراوي بفيلمه “حتى إشعار آخر” سنة 1993.

 

إلى جانب هؤلاء المخرجين الأربعة، برز سينمائيون فلسطينيون آخرون مثل نزار حسن، إياد الداوود، صبحي الزبيدي، وفجر يعقوب، وهشام كايد وغيرهم كثيرون.

 

ويمكن إيجاز أهداف السينما الفلسطينية، كما يذكرها بشار إبراهيم في كتابه “فلسطين في السينما العربية”، في: شرح القضية الفلسطينية، معالجة الصراع العربي الصهيوني، إبراز معاناة اللاجئين الفلسطينيين، فضح لا شرعية الكيان الصهيوني، فضح عدوانية الحركة الصهيونية، تبيان روح التسامح الديني والارتباط بالأرض، حق العودة، والحفاظ على الخصوصية الفلسطينية وحماية ذاكرتها.

 

يوسف م. شرقاوي

كاتب فلسطيني مقيم في سوريا

 

أ.ش

المصدر: الوفاق/ وكالات