أي لغة تسعفنا لشرح حقيقة هذا العالم القذر؛ عالم السياسة والمصالح الذي غيّر معاني العبارات والمصطلحات جاعلاً الجلاد ضحية والضحية جلاداً.
قال النفّري يوماً: “كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة”.
مقولة المتصوّف الكبير تذهب نحو أبعاد روحية وفلسفية، وتؤشر إلى عجز اللغة عن قول كل ما يعتمل في دواخل النفس البشرية أو ما تبلغه الروح من سمو وتجلٍّ لجهة علاقتها ببارئها؛ فكلّما اشتدّ نبض القلب وغدا أكثر قرباً من خالقه باتت العبارة عاجزة عن وصف الحال، وأصبحت سجناً لا يليق بأجنحة الرؤية ويضيق بها.
يقول الروائي إبراهيم الكوني في قراءته لمقولة النفري: “إنه الاحتفاء بالرؤية على حساب بؤس العبارة الذي عبّر عنه شيخ طريقةٍ آخر هو علي الروذباري عندما تغنّى: “عِلْمُنا هذا إشارة، فإن تحوّل عبارةً خَفِيَ”، فالرهان، في ملحمة التجلّي، دوماً على الإشارة، لأن التجلّي إذا كان شَرَك الحقيقة، فإن الاحتكام للعبارة هو اعترافٌ صريح باغتراب الحقيقة.
العبارة لا تهرع لنجدتنا كي تتكفّل بترجمة ما تجود به الرؤية، بسبب طبيعتها كسِتْر لما يمكن أن تُنتدَب إليه، وهو ما يعني صواب الوصيّة القائلة إنَّ اللغة لم تُخلق لتعبّر عن أفكارنا، ولكنها خُلقت لإخفاء أفكارنا.
وإذا كانت العبارة تنهل من ينابيع الحسّ، فإن الرؤية إنّما تستعير ذخيرتها من بحور الحدس، ما دمنا قد آمنّا بهويّة العبارة كحرف وُجد ليُميت، في مقابل ماهية الرؤية كروحٍ منذورة لأن تُحيي. لذا، فاتّساع الرؤية شهادة وفاة في حقّ العبارة، في حقّ الحرف”.
في اتجاه معاكس تماماً، وبعيداً من مقولة النفَّري وعمقها الصوفي/الفلسفي، وفي معزل عن مفارقة أنها في نهاية المطاف “عِبارة” تقول “رؤية”، ترى ماذا كان ليقول اليوم لو عاش في عصر الانحطاط هذا؛ انحطاط غير مسبوق على مستويات كثيرة دفعت مفكّراً مثل آلان دونو إلى إطلاق صفة التفاهة على النظام العالمي المتحكم في معظم مناحي الحياة المعاصرة والمُصدِّر لكثير من “القيم” السائدة؛ قيم الاستهلاك والجشع والسيطرة، بحيث “إن النظام السائد في العالم أدّى إلى سيطرة التافهين على مواقع مفصلية من المشهد العام، إذ يكفي أن نلقي نظرة على ما حولنا لنكتشف أن التافهين سيطروا على كل شيء، على السياسة والاجتماع والاقتصاد والإعلام والفن”!
ويلاحظ دونو “صعوداً غريباً لقواعد تتسم بالرداءة والانحطاط المعياريين؛ فقد تدهورت متطلبات الجودة العالية، وغُيّب الأداء الرفيع، وهُمّشت منظومات القيم، وبرزت الأذواق المنحطة، وأُبعد الأكفاء، وخلت الساحة من التحديات، فتسيَّدت إثر ذلك شريحة كاملة من التافهين والجاهلين ذوي البساطة الفكرية، وكل ذلك لخدمة أغراض السوق في النهاية”.
إنها “قيم” السوق إذاً، حيث لا وزن ولا اعتبار لأي قيمة إنسانية روحية أو فكرية. استطاعت “العولمة” تحويل الكوكب إلى “سوبر ماركت” هائلة تطغى عليها وفيها القيم المادية، بحيث باتت قيمة الكائن البشري وقفاً على قوته الشرائية. قُلْ لي كم تنفق، أقل لك مَن أنت(!). الشركات العملاقة العابرة للجنسيات والقارات لا ترى الناس كبشر، بل كزبائن، تتعامل معهم وتخاطبهم انطلاقاً من هذا المعيار. قيمتك كإنسان محصورة بقدرتك على الإنفاق والشراء، فيما خلت السياسة من كل بُعد إنساني، وباتت لعبة مصالح خالصة تُرسم فيها الحدود، و”تُشقّ” عبرها الطرق الاقتصادية، وتمتد بواسطتها خطوط الأنابيب على حساب الشعوب ومصائرها، وما هو مرسوم يًُكتب بدماء الناس هنا وهناك.
إنها “قيم” السوق نفسها التي تجعل حديث الغاز والأنابيب حاضراً لدى متابعة عملية الإبادة الوحشية التي يرتكبها الاحتلال الاسرائيلي في غزة، فيما “العالم المتحضّر” يؤمّن الغطاء السياسي والإعلامي، ويوفّر الدعم العسكري والمالي لهولوكوست القرن الحادي والعشرين، لأنه عالم فاقد لأي قيمة إنسانية، تحركه مصالحه ومطامعه الاستعمارية التي يتغير شكلها ووسائلها ولا يتغير جوهرها.
عودٌ على بدء، أي عبارة قادرة على قول ما يعتمل في صدرونا من قهر وغضب! وأي عبارة قادرة على وصف انحطاط العالم وتآمره على شعب لم ولن يتنازل عن حقه البديهي في الحرية والاستقلال! وأي لغة تسعفنا لشرح حقيقة هذا العالم القذر؛ عالم السياسة والمصالح الذي غيّر معاني العبارات والمصطلحات جاعلاً الجلاد ضحية والضحية جلاداً، وحوّل عبارة نبيلة مثل “حق الدفاع عن النّفس” إلى عبارة حقيرة مبتذلة تتيح لكيان محتل أن يرتكب مذابحه في وضح النهار، بل في وضح عالم منحط ولغة ضيقة، أضيق بكثير من أن تصف انحطاط العالم وهول المذبحة أو أن تتحوّل إلى فِعل يليق بلغة الذين يكتبون بدمائهم تاريخاً جديداً يُعيد إلى هذا العالم صوابه!
ثمةَ رجالٌ ينهضون من أَسِرَّةِ العذاب (*)
حفاةً يمتطونَ صهوةَ الريحِ
يضعونَ أرواحَهم في نصابها
كي لا يختل ميزانُ الأَرْضِ
ويُقفرَ وجهُ السماء..
(…)
نموت ليعودَ الدمُ إلى مجراه
نضخُّ الحياةَ في رميم الحياة
فتنبتُ أرواحُنا خلف حدود الضوء
كي تبقى الأرضُ ممكنةً
وفسحةً لضحكة طفلين معاً
**
(*) من قصيدة الكاتب “النُّطفة الناطقة”.
زاهي وهبي
أ.ش
شاعر لبناني وإعلامي