نهج الرؤى السلوكية باعتباره عدسة

ربما تكون الطريقة المثلى لفهم نهج الرؤى السلوكية هو اعتباره عدسةً نرى من خلالها السياسات والبرامج والخدمات، وتُمكِّننا من تقديم خياراتٍ جديدة، وتعزيز الخيارات القائمة، وإعادة تقييم النشاط الحالي.

2023-12-11

يُطبِّق نهج الرؤى السلوكية أدلةً حول السلوك البشري على مشكلاتٍ عملية. يمكن أن تُقدِّم الرؤى السلوكية وصفًا واقعيًّا للكيفية التي نأتي بها بأفعالنا ودوافعنا للإتيان بها، مما يسمَح لنا بتصميم أو إعادة تصميم السياسات والمنتَجات والخِدمات.

 

ربما تكون الطريقة المثلى لفهم نهج الرؤى السلوكية هو اعتباره عدسةً نرى من خلالها السياسات والبرامج والخدمات، وتُمكِّننا من تقديم خياراتٍ جديدة، وتعزيز الخيارات القائمة، وإعادة تقييم النشاط الحالي.

 

تميل الخيارات الجديدة التي توفِّرها الرؤى السلوكية إلى جذب أكبر قَدْر من الاهتمام. فكما يتضح من قضية الاستهلاك الغذائي، قد يكون للأدلة تداعياتٌ مفاجئة تتعارَض مع افتراضاتنا وتفتَح الآفاق لأفكارٍ جديدة. وكما سنُناقش لاحقًا، قد يتعامَل كثيرٌ من هذه الأفكار مع الطريقة التي تُنظَّم بها الاختيارات، فيما يُسمى ﺑ «هندسة الاختيارات»، على سبيل المثال، يُظهِر كثير من الأشخاص «تأثير الحل الوسط»، الذي يستخدمون بموجبه اختصارًا ذهنيًّا لفكرة «اختيار الخيار الأوسط». قد يكشف الوعي بتأثير الحلِّ الوسط عن نُهُجٍ جديدة. فقد أظهَرَت الدراسات أنه يمكن تقليلُ استهلاكِ المشروباتِ الغازية عن طريق إزالة أكبر حجمٍ للكوب المعروض وإضافة كوبٍ أصغر في آخر المقياس؛ لأن الناس غالبًا ما يختارون الخيار الأوسط، بغَض النظر عن حجمه. والتفكير بحرصٍ أكبر في الترتيب الذي تُقَدَّم به الخيارات يوفِّر فرصةً جديدةً أخرى. على سبيل المثال، انخفضَت مبيعات المشروبات الغازية المُحلَّاة بالسكر عندما نُقِلَت من المركز الأول إلى المركز الثالث في قائمة الخيارات في الأكشاك الإلكترونية التي تعمل باللمس في ٦٢٢ فرعًا من سلسلة مطاعم ماكدونالدز.18

 

غير أن نهج الرؤى السلوكية لا يقدِّم فقط أدواتٍ جديدة. فيمكن أن يؤدِّيَ استخدامُه باعتباره عدسةً أيضًا، على سبيل المثال، إلى الكشف عن كيف يُمكن أن تؤدِّيَ الإجراءات الحالية إلى خلق سلوكياتٍ غير مقصودة وغير مرغوب فيها؛ ويمكن أن تسلِّط الضوء على التحيُّزات التي تؤثِّر على صُنَّاع السياسات أنفسهم؛ ويمكن أن تُظهِر الافتراضاتِ المعيبةَ حول السلوك في قاعدةٍ مقترحة وتوضح كيفية تغييرها؛ أو قد تُظهِر أن الحل الأفضل قد لا يكون محاولة تغيير السلوك على الإطلاق، بل إعادة تصميم الخِدمات لترتكز حول ما يحدُث بالفعل.

 

ويجدُر التشديد على أهمية هذه النقطة؛ لأنها تتعارَض مع بعض التصوُّرات الخاطئة حول النطاق الحقيقي والقيمة الحقيقية للرؤى السلوكية. أحد هذه التصوُّرات أن نهج الرؤى السلوكية هو مجرَّد بديلٍ للأدوات التقليدية مثل المعلومات أو الضرائب أو التشريعات، وليس لدَيه ما يقوله بشأن هذه الخيارات. وكما أوضحنا للتو، يمكن أن يُقدِّم نهج الرؤى السلوكية توصياتٍ حول الكيفية التي يجب أن تطبَّق بها هذه النُّهُج التي يمكن أن تُحدِث فارقًا بين النجاح والفشل. ثمَّة تصوُّرٌ خاطئٌ آخر، وهو أن النهج يتعامل فقط مع التعديلات أو التغييرات المتزايدة، أو أنه يركِّز فقط على قرارات الأفراد. وكما هو مُوضح آنفًا، يمكن استخدام هذا النهج لإعادة النظر في الأنظمة أو السياسات وإعادة تصميمها كليًّا، كما هو الحال في الضرائب المفروضة على المشروبات المُحلَّاة بالسكر. والتصوُّر الخاطئ الأخير هو اعتبار نهج الرؤى السلوكية «أداةً» إضافيةً اختيارية يمكن لصنَّاع السياسات استخدامها (أو لا) إذا رغبوا في ذلك. ولكن نظرًا لأن معظم السياسات الحكومية تهتم بالتأثير على السلوك (بدايةً من قوانين جرائم القتل وصولًا إلى التثقيف الجنسي)، فسوف يكون لدى نهج الرؤى السلوكية ما يقدِّمه فيما يخُص معظم السياسات.

 

 

نهجُ الرؤى السلوكية نهجٌ عملي وتجريبي

 

لقد أجملنا الأدلة التي تقوم عليها الرؤى السلوكية، وناقشنا كيف يمكن أن تفتح هذه الأدلة آفاقًا جديدة. ولكن لن تتحقق هذه الإمكانية إلا إذا أكمل الجانبان الآخران لنهج الرؤى السلوكية هذه الأدلة؛ إذ إنه عملي وتجريبي أيضًا.

 

إن المقصود بوصف النهج بأنه عملي أن ثمَّة تركيزًا على إيجاد حلولٍ محدَّدة للمشكلات التي يعتبرها الأفراد أو المنظمات أو الحكومات مهمَّة. تبدأ هذه العملية بتحديد السلوكيات ذات الصلة التي يجب أن تبدأ أو تتوقف أو تستمر أو تتغيَّر، وهذا قبل تكوين فهم للحواجز والعوامل التمكينية لتطبيق هذه السلوكيات. وبمجرد تشخيص طبيعة المشكلة، يُصبح لدينا عملية لتصميم مقترحاتٍ ملموسة للتأثير على السلوكيات ذات الصلة.

 

وعلى الرغم من أن هذا النشاط سيسترشد بفهمٍ دقيق للأدبيات الأكاديمية، وسيُحاوِل تطبيق النتائج الحالية بأمانة، إلا أن اهتمامه الأساسي اهتمامٌ عملي. كيف يُمكننا تطوير خطةٍ واقعية تُراعي مطالب الأشخاص المكلَّفين بتقديم الخِدمات، أو خطةٍ لن تفرض مطالبَ يستحيل على الأفراد الذين يستخدمونها تنفيذها؟ كيف يُمكننا بناءُ شيءٍ يتسم بالمرونة أمام الضغوط التي سيواجهها؟

 

بالمثل، يركِّز نهج الرؤى السلوكية على تفاصيل الكيفية التي سيتحقَّق بها أي اقتراحٍ جديد على أرض الواقع بالضبط. بما أن الأفراد يستجيبون إلى حدٍّ كبير إلى الكيفية التي تُقدَّم بها الخيارات، فإن حدوث سلوكٍ ما قد يعتمد على الاختيار المحدَّد للكلمات المُستخدمة في رسالةٍ ما، أو العدد المحدَّد للخطوات المطلوبة لإكمال فعلٍ ما. وبعض الأمثلة الأشهر للرؤى السلوكية ينتمي إلى هذا النوع، وأدَّت شعبيتها ببعض المُراقبين إلى الادِّعاء بأن نهج الرؤى السلوكية ينتهي به الأمر إلى تعديل الممارسات الحالية لا أكثر. ولكن، كما لُوحِظ بالفعل، فإن مساهمة نهج الرؤى السلوكية تمتدُّ إلى أبعدَ من ذلك بكثير.

 

السمة الأخيرة لنهج الرؤى السلوكية هي أنه تجريبي. يُوجَد تركيزٌ قوي على جمع الأدلة لتحديد تأثير أي تدخُّلٍ قائم على نظريات عِلم السلوك. وجزء من هذا الدافع إلى التقييم يتبع مباشرةً الحُجج التي طُرِحَت للتوِّ حول كيفية تأثُّر الناس بسمات العرض والسياق؛ أي كيف تتحقَّق الأشياء على أرض الواقع. وعلى الرغم من أننا يُمكننا استخدام العلوم السلوكية لصياغة توقعاتٍ عامة حول كيفية تفاعل الناس، فإن السلوك البشري معقَّد؛ فقد تؤثِّر عواملُ عديدة على قرارٍ معين. حتى لو كنَّا نعتمد على أدلةٍ قوية ظاهريًّا، فسِمات التدخُّل (وهي العرض والتوقيت) ستحتاج إلى التكييف والتعديل لتُناسِب السياق الجديد. ولا يُمكننا التأكُّد من أن مزيجًا ما من الكلمات أو الصور لن يأتي بنتائجَ عكسيةٍ بطرقٍ لم نتوقَّعها. وغالبًا ما تُولِّد حقيقةُ ظهورِ نتائجَ غيرِ متوقَّعة تسلسلًا من الشك والتواضُع حول مقدار ما لا نزال نجهله عن السلوك البشري.

 

مثل هذا الشك والتواضُع يعنيان أن نهج الرؤى السلوكية يُعطي الأولوية للتجارب العشوائية المضبوطة (RCTs) التي تقيس النتائج السلوكية في ظروفٍ واقعية. وقد ناقشنا بالفعل سببَ التركيز على التأثير في السلوك، بدلًا من التأثير في المواقف أو المُعتقدات. وسنشرح التجارب العشوائية المنضبطة بمزيدٍ من التفصيل لاحقًا، ولكنَّ مبدأَها الأساسي هو أن استخدام فرصةٍ عشوائية (مثل رمي نَرْد) لتقسيم الأشخاص إلى مجموعاتٍ يعني أن هذه المجموعات لها خصائصُ متشابهة في المتوسط؛ كالتشابُه في العمر، والثروة، والمكان، والمواقف … إلخ. ويعني هذا التشابُه أننا سنتوقَّع أن تتصرَّف المجموعتان بالطريقة نفسها إذا تُركَت وشأنها. لذا، إذا أجرينا تدخلًا في مجموعةٍ واحدة فقط من المجموعتَين، فيمكننا القول إن أيَّ تغييراتٍ في سلوك تلك المجموعة ترجع إلى التدخل، وليس إلى أي سببٍ آخر. ويُعَد إجراء التجارب العشوائية المنضبطة الطريقةَ القياسيةَ لمعرفة ما إذا كانت الأدوية فعَّالة؛ إذ تُعطَى مجموعةٌ واحدة الدواء التجريبي، بينما تُعطَى المجموعة الأخرى حبة سكر (دواء وهمي أو بلاسبو).

 

بالإضافة إلى ذلك، يجدُر بنا هنا توضيح السبب وراء أهمية التركيز على ظروف العالَم الحقيقي. يُجرى كثيرٌ من التجارِب العشوائية المضبوطة التي تقيس السلوك في المختبَرات. تُعتبَر المختبَرات مفيدةً للغاية؛ لأنها تخلق الظروف التي تسمح بتنفيذ التدخُّلات بطريقةٍ ممنهجة وتسمح بقياس النتائج بدقة. ولكن قد تعني هذه الظروف أيضًا أن سلوك الأشخاص فيها يختلف عن سلوكهم في العالم الحقيقي.19 على سبيل المثال، التجارب التي تسعى إلى فهم الامتثال الضريبي غالبًا ما تخلُق مواقفَ مصطَنعةً شبيهة باللعبة، تُلعَب في مقابل مخاطر أقلَّ بكثيرٍ تحت المراقبة الدقيقة، باستخدام مجموعات من الطلاب الذين ليس لديهم خبرة في دفع الضرائب.20 ونظرًا لأن تركيز الرؤى السلوكية ينصَبُّ على مشاكل العالَم الواقعي، كانت هناك رغبةٌ قوية في التحقُّق مما إذا كانت النتائج التي تُنشَأ في المختبرات صحيحةً في هذه الظروف. ونتيجةً لذلك، فنهجُ الرؤى السلوكية لا يستهلك الأبحاث ويُطبِّقها فحسب، بل يُحاول إنشاء إطارٍ معرفي جديد لما «يصلح» في الممارسة العملية.

 

 

أ.ش