وهذا ما بدا جليًا خلال عملية “7 أكتوبر” وما تلاها. كان للإعلام العسكري الفلسطيني دور مميز تمكّنت فيه المقاومة الفلسطينية من دحض السردية الإسرائيلية وممارسة حرب نفسية على الجنود الصهاينة، فالمشاهد الحيّة الآتية من قلب الاشتباكات الحاصلة عند مسافة صفر بيّنت المصير الأسود للغزاة الصهاينة.
المدير العام لمركز الزيتونة للدراسات والاستشارات الدكتور محسن صالح يتحدّث ــ بصفته مراقبًا ومتخصّصًا في الدراسات الفلسطينية ــ عن الدور المميّز الذي لعبه الإعلام العسكري، فيؤكّد أننا أمام حالة تاريخية مميّزة يتفوّق فيها إعلام بإمكانيات بسيطة وضئيلة على إعلام عالمي ضخم وكبير مدعوم من قوى كبرى وبمئات الملايين من الدولارات. وفق صالح، تمكّن الإعلام العسكري الفلسطيني وبالإمكانات البسيطة من ضرب الرواية الأخرى لتفعل الرسالة الإعلامية فعلها، وهذا ما بدا جليًا بعد أيام قليلة من بدء المعركة حيث كان الضغط هائلًا على المقاومة، ثم انقلبت الرواية وبات التبنّي العالمي للرواية الفلسطينية هو الأساس حيث أيّدت 90 الى 95 بالمئة من التظاهرات حول العالم المقاومة، فيما حُشرت الرواية الإسرائيلية في الزاوية حتى اضطرت الدول الكبرى المتآمرة مع المشروع “الإسرائيلي” للتراجع عن سرديتها على وقع الضغط الجماهيري من شعبها.
وفي سياق مقاربته للعمل الإعلامي الحربي، يشدّد صالح على أن الإعلام العسكري في المقاومة تميّز بجملة معايير رئيسية جعلته محط احترام وتقدير البيئة الفلسطينية والعربية والإسلامية لا بل العالمية، حتى أنه حاز على مصداقية عالية من الجانب “الإسرائيلي”. وهنا، يُحدد صالح تلك المعايير بالآتي:
– المصداقية، وفق صالح شكّل هذا المعيار نقطة أساسية في عمل الإعلام المقاوم الذي كان إعلامًا منسجمًا مع نفسه وكان يطرح طروحات تنسجم كثيرًا مع الواقعية. كل الأرقام والدلالات كان يربطها بشواهد تُعطي قدرًا كبيرًا من الثقة في كل ما يقدّم من أدلة ومعلومات ما أرسى حالة كبيرة من الثقة الجماهيرية. بناء الثقة كان عنصرًا ضروريًا مع الجمهور العام لأنّ المصداقية والثقة أكبر عنصرين للنجاح في الرسالة الإعلامية بين المرسل والمستقبل.
-الاستخدام المتقدّم والمميز جدًا للصور والمقاطع الحيّة أكثر من أي وقت مضى. هذا الأمر بحسب صالح بيّن أنّ كل ما يُعلن عنه ليس مجرد تصريح عادي بل تصريح بمصاديق أدائية على الأرض. وقد لعبت الكاميرات التي تزوّد بها المقاومون دورًا كبيرًا في هذا الإطار. وفق صالح، شكّل هذا الأمر فعلًا متقدمًا سواء كان في عملية “7 أكتوبر” أو في كل ما صدر عن المقاومة بعد ذلك والتي كانت تُوثق فيها العمليات بالصور، حيث يحمل المقاومون كاميرات. وقد لوحظ حضور المقاومين في الميدان بشكل عادي جدًا بلا تصنُّع ما مهّد لبناء الثلاثية المهمة (ثقة، مصداقية، واقعية)، وهذا يبيّن الخبرة المتزايدة لكتائب عز الدين القسام في العمل الإعلامي العسكري.
-الرسائل المختصرة غير المملة والبعيدة عن الخطابات سواء في البيانات أو المقاطع الحية. من وجهة نظر صالح، كانت لغة البيانات واضحة تصل الى الهدف والمقصود مباشرة دون إطالة، وبالتالي عندما يستمع الرأي العام لهذا الأسلوب في الخطابة يتحمّس للاستماع مجددًا نسبة للوقت المحدود والمفعم برسائل محددة لها توقيع مؤثر.
– الجمع ما بين اللغة السياسية العسكرية واللغة التعبوية الإيمانية التحريضية. هذا الجمع يستجيب لطبيعة الجمهور العام. وفق قناعات صالح، جمع الإعلام الحربي ما بين التعقيدات العسكرية المعتادة التي تُعطي تعبيرات واضحة عن الأداء الميداني، وما بين الرسالة التي تحملها حماس والجهاد والمقاومة الفلسطينية بشكل عام وهي رسالة إسلامية حضارية بيّنت طبيعة الصراع بلغة سياسية واعية وبطريقة بسيطة تصل للناس، وتشرعن العمل المقاوم ما ولّد إجماعًا عليه من قبل الأمة.
– الوضوح والصراحة وهذا ما اشتملت عليه لغة البيانات المليئة بالثقة بعيدًا عن التلكؤ والتردد و”التأتأة”.
وفي الختام، يشدّد صالح على أنّ الرسالة الإعلامية العسكرية أدّت دورًا كبيرًا وتكاملت مع العمل العسكري الميداني. برأيه، عندما كان الإعلام يقدم أدلته كان في الوقت نفسه يفضح الإعلام الإسرائيلي ويكشف هشاشته وينسف السردية الإسرائيلية بشكل منطقي دون الدخول في نقاشات وجدل. الإعلام العسكري ومن خلال لغته الواضحة والبسيطة أوجد حالة ثقة ومصداقية فضحت وكشفت السردية الإسرائيلية و”عرّتها” بحيث باتت مادة لـ”التندر” والسخرية أكثر منها مادة للتحدث بها.
أ.ش