في عالم يتزايد ضجيجه، يكتشف علماء الأعصاب أي أنواع الصمت بالتحديد له أكبر الأثر في صحتك النفسية، بدءاً بأحواض الطفو وانتهاءً بالتأمل الموجّه، وما هو مقدار الصمت الذي تحتاج إليه.
غالباً ما يغمرني الضجيج؛ فكوني امرأة تعمل من المنزل، أجد نفسي عالقة في بيت ممتلئ فيه كلبان ومراهقان وزوج يعمل من الغرفة المجاورة. يمتلئ البيت بنشاز من مكالمات زوم، وتنبيهات الهواتف، وألعاب الفيديو، والموسيقى، والنباح، وهذا كله قبل أن يشغل جاري منفاخ أوراق الشجر لتنظيف فنائه.
أهو أمر غريب أن أتوق لبعض الهدوء؟ تدعمني في هذا منظمة الصحة العالمية؛ إذ تقول إن عالمنا كثير الضوضاء وأن هذا يضر بصحتنا. وبالطبع، فإننا كنا نعلم لقرون أهمية الهدوء؛ ففي العديد من الديانات، ينظر للسكوت على أنه عملية علاج مهمة. ولكن محيطي الممتلئ بالضوضاء دفعني إلى التفكير بما هي فوائد السعي إلى الهدوء في عصرنا الحالي.
يذهب الناس هذه الأيام للبحث عن الهدوء في شتى الأماكن. حيث ينضمون إلى الأديرة للحصول على خلوة صامتة، أو يذهبون للتلال للشعور بالسلام في نهاية الأسبوع. بل إن هناك ميلاً متزايداً لقضاء الوقت في خزانات حرمان الحواس Sensory deprivation أو خزانات التعويم Flotation tanks -إن أمكنك أن دفع قيمتها. وبالتأكيد، فإن المستكشف النرويجي إيرلنغ كاغي في كتابه (في عصر الضوضاء) يسمي الهدوء بـ”الترف الجديد”.
إن فهم فائدة السلام والهدوء الحقيقية على صحتنا النفسية والجسدية هو طموح مجموعة من علماء الأعصاب والمختصين في مجال الصحة، والذين بدأوا بفهم هذه الفوائد. وبعد أن تفحصت أبحاثهم، اكتشفت أن القليل من الهدوء قد يكون ضرورياً لتعديل الآثار الضارة لعالمنا الممتلئ بالضوضاء. ولكن ما مقدار الهدوء الذي أحتاج إليه، وأين يجب أن أحصل عليه؟
أولاً، ليس منزلي هو الوحيد الذي يعاني الضجيج؛ فالعديد منا يعيشون في بيئات مليئة بالضوضاء (انظر: هدوء في المدينة). كما أننا تأقلمنا رويداً رويداً مع الضوضاء، وذلك لسبب جيد. من الناحية التطورية، تعطينا الأصوات معلومات حيوية، وتساعدنا على استكشاف العالم من حولنا، وتجنب المخاطر. ولضمان أن الضوضاء العالية أو غير المتوقعة تحصل على الانتباه الذي تستحقه، فإن الكيمياء بداخلنا تتغير استجابة لها؛ فيزداد ضغط الدم، وتنقبض عضلاتنا، ويفرز جسمنا الهرمونات ذات الصلة بالضغط النفسي، والتي تساعدنا على التجهز لما هو آت. وهذا أمر جيد على الأمد القصير، إذ إنه يساعدنا على استجابة الكر أو الفر. ولكن، عندما نتعرض لمستويات زائدة من الضوضاء على خلال فترة طويلة، فإن الاستجابات الفيسيولوجية المتواصلة يمكن أن تسبب مشكلات صحية، بدءاً بالتوتر والاكتئاب وانتهاءً بأمراض القلب.
التلوث الضوضائي
في عام 2018، دعت منظمة الصحة العالمية الضوضاء أنه “خطر مستهان به” “على الصحة العامة، إضافة إلى أن هناك تقريراً نشرته الوكالةُ الأوروبية للبيئة في العام 2020، وقد خلُصَ إلى أن الضوضاء هي مشكلة مستمرة وواسعة الانتشار في أوروبا، وأن 1 من كل 5 أشخاص يتعرضون بشكل مستمر لمستويات تعتبر مؤذية بالصحة.
الخبر السار هو أن الباحثين يعملون بجد للوصول إلى حل. فإلى جانب جعل بيئاتنا أكثر هدوءاً، فإنهم يسعون إلى فهم أي تجارب الهدوء هي الأكثر فائدة، وكيف يمكننا أن نحصل على نتائج بأفضل الطرق (انظر: كيف تكون صامتاً).
الأذن البشرية شديدة الحساسية للضوضاء، بحسب ما يقول جاستن فاينستاين، وهو مختص بعمل النفس العصبي الإكلينيكي ومدير مركز عيادة وأبحاث الطفو في معهد لورييت لأبحاث الدماغ في تلسا، أوكلاهوما. ويقول: “في هذه الخزانات، يمكن للبعض أن يسمعوا حتى صوت عيونهم وهي تطرف”.
ولكن هذه القدرة على التركيز على التنفس أو نبض القلب هي ما يسهل على الأفراد الوصول إلى حالة من الاسترخاء أو التأمل، كما يقول فاينستاين. والتأمل له مجموعة كاملة من الفوائد الصحية المعروفة، والتي تشتمل على تقليل الضغط، وتعزيز الإحساس بالصحة، وتوفير الراحة من الآلام المزمنة وصداع الشقيقة.
العلاج بالطفو
لدراسة فوائد خزان الطفو كوسيلة علاجية، استعان فاينستاين وزملاؤه بـ 50 شخصاً مشخصين بالعديد من الأمراض ذات الصلة بالتوتر والضغط النفسي، وأجابوا عن أسئلة استبانات قبل وبعد جلسة الطفو. أبلغ المشاركون عن انخفاض في مستويات الضغط النفسي، والشد العضلي، والآلام، وأعراض الاكتئاب بعد جلسة طفو واحدة مدتها ساعة. كما أظهرت مقاييس ما بعد الطفو أن هناك زيادة معتدة بالاسترخاء مع الإحساس بالصحة بشكل عام.
يقول فاينستاين: “دائماً ما يعاني الأشخاص القلقون أو المكتئبون بشكل مزمن من اجترار الأفكار، أي المبالغة في التفكير فيما يحدث حولهم، ولكنهم عندما يستطيعون التركيز على تنفسهم ونبض قلبهم في بيئة طفو، يتوارى الكثير من أفكار التوتر. وهذه الآثار الإيجابية يمكن أن تستمر إلى ما يصل إلى 48 ساعة”.
صحيح أن الأبحاث تشير إلى أن “إصماتنا” لأغلب أنواع الأحاسيس الخارجية عن طريق العلاج بالطفو يمكنه أن يقلل التوتر والاكتئاب والألم لفترة قصيرة، إلا أن معرفتنا فيما يتعلق بآثاره على الدماغ لا تزال معرفة بسيطة. ولاستكشاف ذلك، استعان فاينستاين وزملاؤه 48 شخصاً للمشاركة في إحدى نوعين من الجلسات؛ ثلاث جلسات طفو تستمر كل منها 90 دقيقة، أو ثلاث فترات من الاسترخاء على كرسي قابل للبسط كل منها لمدة 90 دقيقة، موزعة على فترة ثلاثة أسابيع. فُحِصت أدمغة جميع المشاركين باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي قبل وبعد التجربة. وكانت النتيجة أن جلسات الطفو قللت بشكل خاص النشاط في شبكة الوضع الافتراضي Default mode network (اختصاراً: الشبكة DMN)، وهي مجموعة من المناطق الدماغية التي تكون نشطة عندما يكون الدماغ في وضع الراحة أو عندما لا يكون منشغلاً بأداء مهمة معينة.
قد يبدو مخالفاً للمنطق أن المناطق التي تنشط في العادة عندما يكون الدماغ في وضع الراحة يقل نشاطها في خزان الطفو، ولكن فاينستاين عنده تفسير لذلك. ترتبط الشبكة DMN بشكل وثيق بالأصوات الداخلية في عقولنا، بحسب قوله، وهذه المناطق الدماغية التي تنشط عندما يكون الدماغ في وضع الراحة لها علاقة باجترار الأفكار والضغط والتوتر.
أ.ش