“يا قاصفهم كلهم”.. كيف تواكب الأغنية الشعبية الحدث الفلسطيني؟

يواكب فنانون شعبيون معركة "طوفان الأقصى" على طريقتهم. هل تكمن قوة الأغاني الشعبية في بساطتها وعفويتها؟ وهل تعبر عن الصوت الجمعي للشعوب؟

إلى حدود منتصف نهار السبت 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، لم نكن نعلم بما يحدث. كنا منشغلين بالورشة التكوينية، لولا دخول زميل لنا، يرقص على إيقاع الدبكة مردداً: “أنا دمي فلسطيني” بكل حماسة واندفاع.

 

حينها، تكشّف لنا عِظم ما كان يحدث في فلسطين المحتلة، واستقبلت أول مرة الطوفان بالأهازيج والألحان. مرة أخرى ستنطبع ذكرى كبرى في وجداني بأغنية ستلازمها كلما استحضرتها ولو من دون قصد ووعي.

 

مع الأيام، استمر الحدث في تشكله – غير النهائي لحد اللحظة- ومع كل مرحلة جديدة، يدخل لحن آخر على الخط، وبفضل هبّة مواقع التواصل، أمكن لنا اليوم أن نعاين جماعية اختلاط اللحن باللحظة. فعلى امتداد الفضاء العربي، غنّت الحناجر أو استعادت ألحاناً قديمة، عسى أن تغالب بها دوي المدافع أو تمنح الواقعين تحت مرماها السلوان.

 

هنا لن نتحدث عن الأغاني الرسمية، أو تلك التي تبث على شاشات القنوات الرسمية، أو في وقفات الفصائل والمنظمات، بل وحتى المسجلة في استديوهات فخمة. بل عن لون آخر من الفن والتعاطف. تعاطف الغلابة وفنانيهم الشعبيين في الأفراح والتسجيلات المبتورة.

 

لم يعد العصر فضاء لظهور الأبطال الميثولوجيين من مجترحي المعجزات والخوارق. ولكن صنفاً آخر من البطولة استمر، تلك البطولة البشرية و”العادية”. ورغم أنسنة البطولة اليوم، إلا أنها لم تفقد سمة تشترك فيها مع البطولة القديمة، وهي دور الشعوب في صناعتها. بأكثر من طريقة وشكل، تصنع الشعوب أبطالها رسماً ونحتاً وشدواً، وعملية الصناعة هذه كما يطلق عليها الأنثروبولوجي جوزيف كامبل “رحلة البطل”، تمر بمرحلة مفصلية، خط تماس يغادر من خلاله البطل مرحلة المعلوم – له ولغيره – نحو المجهول حيث يعود مفارقاً لكل ما سبق.

 

في صناعتها لأبطالها اليوم، حافظت الشعوب على ضرورة مرور أبطالها بهذه المرحلة، حتى يتسنى فصله عن كل ما هو ذاتي: تجربته الفردية كمجرد شخص له طموحاته وعيوبه ومشاريعه ونقائصه في سبيل جعله رمزاً جامعاً أو قادراً على التجميع، وفي الآن نفسه قناعاً يمكن إسباله على كل التجارب القادمة. وهنا لا يهم حقاً من كان ذلك البطل كفرد، بقدر أهمية استمرار استحضاره كرمز لكل المجهولين.

 

في الثالث من شهر حزيران/يونيو الماضي، تداولت وسائل الإعلام خبراً يفيد بمقتل 3 جنود إسرائيليين برصاص جندي مصري. حينها أكّد الجيش المصري وقوع تبادل لإطلاق النار قتل فيه المجند المصري، من دون أن يكشف عن هويته.

 

أمام هذا التعتيم، تحول الجندي “المجهول” إلى بطل عرف على مواقع التواصل الاجتماعي باسم الجندي X. أعادت القصة للمصريين مشاعر متداخلة، عن أيام حرب الاستنزاف والرباط والعبور ونصر أكتوبر وأسماء آلاف المصريين ممن قضوا على أبواب الصحراء. ولكنها أعادت لهم أيضاً اسم من ذهب ضحية شجاعته وبطولته ووطنيته، سليمان خاطر، الجندي المصري الذي قتل 7 إسرائيليين عام 1985 ومات سجيناً في ظروف غامضة.

 

تماماً مثل خاطر، ارتبط الجندي X بلحن قديم سرعان ما عاد واجتاح مواقع التواصل بعد سنوات. “واه يا عبد الودود” كانت أغنية من أغاني أيام الرباط القديمة، ألفها أحمد فؤاد نجم في لحظة حرجة من الأيام الأولى للانكسار في حرب 1967، عندما تهاوت الأحلام والوعود. ألف نجم وغنى الشيخ إمام تلك الرسالة التي جاءت على لسان محارب قديم من صعيد مصر لابنه عبد الودود المرابط في صحراء سيناء. فقد “حسن محارب” ابنه الأول شهيداً، ومع ذلك فإن العجوز غفير برج الحمام، لا يطلب من وحيده غير الصبر والثبات والثأر لدم أخيه الذي “لسّى ما شرباش التراب”:

 

حِسّك عينك تزحزح.. يدّك عن الزناد

 

خليك يا عبده راصد.. لساعة الحساب

 

عبد الودود بالنسبة للمصريين، اسم لا يقصد به شخص محدد ويجمع في الآن نفسه تجارب كل من عبر تلك الصحراء يوماً، أيام الحروب الطويلة، وحتى أيام سلام “كامب ديفيد”. وحين أقدم الجندي إكس – واسمه الحقيقي محمد صلاح كما أعلنت مصادر إسرائيلية- على ما قام به، عادت الذكريات ومعها صوت الشيخ إمام -وغيره من فناني الصعيد الشعبيين الذين أعادوا أداء الأغنية- وكأنه يذّكر محمد صلاح بثأر أخيه خاطر الذي قضى قبل 4 عقود، أخ المصريين جميعاً.

 

 

“يا قاصفهم كلهم”

 

إن كانت “واه يا عبد الودود” أقرب لترنيمة مخصصة للمجهولين من الأبطال، فإن للمعلومين منهم شكل آخر من الاحتفاء، مثل أبي عبيدة على سبيل المثال، القيادي والناطق العسكري باسم “كتائب القسام”، الذي رسمت المقاومة صورته بعناية وغموض مقصود، نجح في تغييب كثير من ملامح البشري المتواري وراء اللثام، وتحويله لصوت غزة في كل حروبها.

 

لذلك لم يكن من المستغرب أن يحظى أبو عبيدة بعدد من الأغاني الشعبية المهداة له. إثر معركة “سيف القدس” مثلاً، غنى الفنان الشعبي الفلسطيني عدي زاغة ” أبو عبيدة يا هيبة كل الكون”. التسجيل الأول والأشهر للأغنية، كان أقرب للارتجال، في وحدة من زفات مدينة نابلس في الضفة الغربية، ووسط جمع من أهل العروسين.

 

هذه الأغنية الشعبية لم تكن الأخيرة، بل تكرر المشهد تقريباً مع “طوفان الأقصى”، ولكن في مصر هذه المرة. إذ نشرت فرقة 5 نجوم الشعبية، تسجيلاً بعد شهر تقريباً من انطلاق المعركة لحفل “فرح أولاد الحاج على أبو السعيد”، غنت فيه “رودي” قائلة: “أبو عبيدة يا عمهم .. يا قاصفهم كلهم”. ليجيبها زميلها في الغناء ويدعى “السيد حسن”: “نزلهم في الملاجئ .. نيمهم على بطنهم”، وفي هذه النقطة بالذات، تصيح رودي بـــ “سانوه”: “اقصفهم يا سانوه!” وتختلط أصوات المزامير بالأورغ والإيقاع، ومعها الحضور في الرقص.

 

في الأغنيتين، يخاطب المغنيان الشعبيان، أبا عبيدة، مباشرة. إذ يؤكد زاغة ذلك صراحة في مطلع الأغنية: “هذي رسالة لأبو عبيدة شخصياً”. في حين تختزل رودي تلك المرحلة وتشرع مباشرة في النداء. والنداء هنا – في الحالتين- يخدم فكرة أساسية، استحضار البطل وإلغاء كل حواجز مادية تحول بينه وبين الفنان والحاضرين. أما في حالة زاغة فتؤكد فكرة الاستحضار وحدة المقاومة ووحدة فلسطين من “نابلس لغزة”، كما جاء في استهلال الأغنية، بالرغم من كل تقييد وفصل مادي.

 

فهو راعي النخوة والزلم وهيبة كل الكون وقاصفهم كلهم، هكذا تصور أغاني الأفراح أبا عبيدة، وهي جميعاً صور من صميم ثقافة هذه المجتمعات في احتفائها بالبطولة العربية ومعانيها من رجولة وشهامة وفتوة وهيبة. وربما في أغنية فرقة 5 نجوم، تذهب المجموعة للأقصى في احتفالها بهذه الذكورة النمطية لما هو أبعد وأكثر صراحة في تلميحاته، عند الوقوف على أثر فعل أبي عبيدة في أعدائه حتى أنه “نيمهم على بطنهم”، وهي عبارة تتجاوز في الثقافة الشعبية مجرد الإشارة للخوف والاستكانة لما هو أبعد.

 

 

زفاف على أنغام المقاومة

 

ما يميز الأغاني الشعبية هنا، بساطة الصور الشعرية والغنائية، ربما حد الابتذال أحياناً. ولكن في هذه البساطة يكمن صدقها، في عفويتها وتعبيرها الصريح عن الصوت الجمعي المقاوم للشعوب في أوضح تجلياته. وذلك بعيداً من كل تكلف أو توظيف دعائي للبروباغندا الرسمية للسلطات أو حتى لحركات المقاومة.

 

عامل آخر يدخل في تكوين هذه البساطة، وهو الفضاء الأصلي المخصص لأداء هذه الأغاني، أي الزفات أو الأعراس. هنا يدخل دور الإيقاع والمشاعر المراد إثارتها من وراء هذه الأغاني: الحماسة والفرح والفخر. وهو ما لا يتناسب إلا مع نصوص غنائية بسيطة في كلماتها وصريحة في معانيها وفاعلة في إلهاب مشاعر الحاضرين، حيث لا يتعلق الأمر بعرض فني ينفصل فيه الجمهور عن الرقص، بل على النقيض من ذلك تنمحي في الزفات كل الحدود بهدف خلق فضاء واحد، يشترك فيه الجميع لا فقط في خلق البهجة، ولكن في إعلاء المقاومة والاحتفاء بها.

 

وحدها ليالي الزفات قادرة على صبغ التضحيات بألوان بهيجة، ولو إلى حين. وذلك التسجيل النادر الذي وصلنا لحفل زفاف في بلدة يعبد عام 1991 – في قلب الانتفاضة الفلسطينية الأولى- مثال على ذلك. في التسجيل تغني الفرقة الشعبية سوية مع الحاضرين: “تسع جنود مسلحين معهم صبية يا عيني”.

 

وتلك الصبية لم تكن إلا دلال المغربي ذات العشرين عاماً والتي استشهدت عقب تنفيذها مع رفاقها عملية الساحل الشهيرة عام 1978. لا تذكر الأغنية في هذا المقطع على الأقل صراحة أبطال العملية بالاسم، ولكنها تذكر ياسر عرفات الذي “زودهم بالرشاشات”، وتحديداً عندما تصل الأغنية لوصف العتاد من “كلاشينات وخمسمية” يبلغ الحماس أقصاه ويعلو التصفيق والرقص.

 

نفس الحماس الذي يتقد في أغنية أبي عبيدة لحظة اكتمال مقطع “نيمهم على بطنهم” ونوبة الرقص الذي تليه مباشرة، ربما لأسباب متعلقة بالإيقاع أو لتلك النشوة في الاحتفاء بالبطولة والقوة و “الإثخان” في العدو.

 

ولكن في مواضع أخرى يتخذ الاحتفاء شكلاً أكثر سوريالية وسخرية من الواقع. كما في إحدى حفلات الزفاف بالوسط التونسي، عندما اختارت الفنانة الشعبية “الشابة ابتسام” ليلة 29 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، تكريم شهداء العدوان الإسرائيلي على غزة من خلال عزف “وين الملايين” على إيقاعات الفن الشعبي التونسي، وما تيسر من رقص أربعة “عوّادات”. لم يشارك في الرقص مئات من الرجال الحاضرين، اكتفوا فقط في سماع نداء البحث عن الملايين العرب من دون إجابة، في حين تكفلت العوادات بمهمة الرقص، خاصة على المقطع المختار من الأغنية “ناديت الجيوش .. صوتي ما سمعوش”.

 

واختتمت الشابة ابتسام وصلتها السريعة من الغناء بقولها “الله يرحمهم” قبل أن ينتشر مقطع الفيديو بشكل رهيب. لامها البعض ووصفها بتمييع القضية بل وحتى الاستفزاز، مما اضطرها للخروج لوسائل الإعلام في أكثر من مرة لتبرير موقفها، وحتى الاعتذار باسمها وباسم راقصاتها، والتأكيد في الوقت نفسه على صدق نواياها، حيث قالت: “ربي يعلم، غنيت تضامناً مع غزة”.

 

وعلى الرغم من هذا يمكن أن ينظر لما سبق على أنه تعبير حقيقي على التضامن، كل بما يمتلكه وما يقدر عليه، ولو جاء ذلك على غير المتوقع، أو ربما حتى السخرية من صمت جماعي أشبه بالمهزلة. وفي كل الحالات، لا تنفصل الأفراح عن الأحزان، وعن البطولات، وكأنها تبطين وحفظ لجذوة لمقاومة مؤجلة.

 

في أوقات غير هذه، قد يكون من الغريب بل والمستهجن أن يطرب هؤلاء أنفسهم على أصوات أو عبارات مماثلة. ومع ذلك فإن كل هذه المشاعر و”الذائقة النقدية” للعموم، تغيب وتتخدر هنا ليعلو صوت المطرب الشعبي، وهو عادة صوت أجش غير جميل، علّه يطاول به أصوات المدافع ولو في جبهة أخرى.

 

إنه تواطئ ضمني وإقرار بغلبة اللحظة وانفعاليتها وسلطان العاطفة الجياشة في صدقها على الشعوب. وعلى امتداد هذا الفضاء الواسع، وبأشكال وأصناف وأنماط موسيقية مختلفة، تمزج الشعوب أفراحها بأحزانها ولو بنسب متفاوتة تتشارك القضية والتضحية.. ثم النصر ولو بعد حين.

 

أ.ش

المصدر: الميادين