على بعد ما يقارب 6 أشهر على عقدها ما زالت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة مالئة الدنيا وشاغلة الناس في تركيا، بما فيه ذلك استطلاعات الرأي الكثيرة التي كانت أحالت على تراجع ملحوظ في شعبية كل من الرئيس التركي وحزب العدالة والتنمية قبل أشهر، لتعود وتظهر تحسنهما مؤخرا.
ثمة توافق عام بخصوص أهمية الانتخابات المقبلة في تركيا، كما يتفق كثيرون على أنها قد تكون الأصعب على حزب العدالة والتنمية منذ تأسيسه عام 2001 وتسلمه السلطة في تركيا في نوفمبر/تشرين الثاني 2002.
فهي انتخابات تأتي بعد أكثر من 20 سنة متواصلة من الحكم المنفرد في البلاد، والأولى بعد تطبيق النظام الرئاسي في 2018، وفي ظل منظومة تحالفات جمعت عددا من الأحزاب المعارضة الكبيرة ضد العدالة والتنمية، من بينها أحزاب خرجت من رحم الحزب الحاكم نفسه وخلقت تحديا غير مسبوق بالنسبة له.
*استحقاق في ظل أوضاع اقتصادية متراجعة
كما أنه استحقاق يأتي في ظل أوضاع اقتصادية متراجعة لأسباب داخلية متعلقة ببنية الاقتصاد نفسه وخارجية متأثرة بجائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية وغيرها من التطورات العالمية والإقليمية، فضلا عن تحول قضية اللاجئين والأجانب في البلاد إلى ملف مناكفات انتخابية عمل لشهور طويلة لغير مصلحة العدالة والتنمية.
لهذه الأسباب وغيرها فقد أظهرت استطلاعات الرأي تراجع شعبية أردوغان وحزبه العدالة والتنمية عن نتائج الانتخابات السابقة، واستطلاعات الرأي في تركيا وإن لم تكن دقيقة في توقعاتها التفصيلية إلا أنها تصلح للاستئناس بها في سياقاتها العامة، ولا سيما تلك التي تتوافق عليها معظم شركات استطلاعات الرأي.
وكان من هذه السياقات العامة هذا التراجع في شعبية الرئيس وحزبه مع توقعات بالحاجة لجولة إعادة في الانتخابات الرئاسية بسبب عدم قدرة أردوغان على الحصول على أكثر من نصف الأصوات على عكس ما حصل في الانتخابات السابقة.
*ما الذي تغير؟
في تفسير هذا المتغير تبرز عدة معطيات، أولها وأهمها ما يتعلق بالملف الاقتصادي، خصوصا لجهة تأثيره على حياة المواطنين اليومية، فقبيل كل استحقاق انتخابي تعمد الحكومة القائمة إلى حزم من الدعم تسمى في تركيا “اقتصاد الانتخابات”.
وعليه، فقد أقدمت الحكومة التركية على عدة خطوات في هذا الصدد، ملخصها تخفيف الجباية الحكومية من المواطنين وزيادة الصرف الحكومي في المقابل، ولا سيما تجاه الشرائح الضعيفة، فقدمت عدة حزم من الدعم لمحدودي الدخل والفلاحين والشباب والمقبلين على الزواج، بما في ذلك مشروع إسكان كبير مدعوم حكوميا، ودعم بعض المنتجات الزراعية، وتسهيل القروض على الجميع، ولكن الخطوة الأهم كانت رفع الحد الأدنى للأجور مرتين وبنسبة قياسية العام الفائت بهدف تخفيف تأثير ارتفاع الأسعار على المواطنين/ الناخبين، ومن المتوقع أن ترفعه مرة أخرى بنسبة مقبولة مع بداية العام الجديد.
*رهان الحكومة الرئيسي
في المقابل، فقد أصدرت الحكومة عدة قرارات باتجاه جدولة الديون للغارمين غير القادرين على الإيفاء بها، وعملت مع بعض البلديات على سداد أو تأجيل جباية بعض الفواتير من غير القادرين، فضلا عن مسح بعض الديون أو الدفعات المستحقة على بعض المواطنين، وفي المحصلة قدمت الحكومة رسالة للمواطن أنها لم ولن تتركه فريسة للأوضاع الاقتصادية المتراجعة، وأنها تبذل جهدها للتخفيف عنه ودعمه بهذا الصدد.
يضاف إلى كل ذلك أن رهان الحكومة الرئيسي هو في مدى قدرتها على كبح جماح التضخم قبل الانتخابات، لذلك فقد ركزت رسائل وتصريحات الرئيس أردوغان ووزير المالية والخزانة نور الدين نباتي على أن الشهور الأولى من العام المقبل ستشهد انخفاضا ملحوظا في نسبة التضخم كمؤشر رئيسي على نجاح النموذج الاقتصادي الذي انتهجه أردوغان رغم الانتقادات الحادة التي تعرض لها.
أما السبب الثاني فهو بعض إنجازات السياسة الخارجية التي أحسن العدالة والتنمية والرئيس أردوغان تسويقها داخليا، وفي مقدمتها الأدوار التي لعبتها تركيا على هامش الحرب الروسية الأوكرانية، من الوساطة السياسية إلى اتفاق تصدير الحبوب إلى اتفاق تبادل الأسرى إلى استضافة لقاء بين جهازي الاستخبارات الأميركي والروسي إلى اقتراح تركيا كمركز لتصدير الغاز الروسي لأوروبا، وغير ذلك.
*ملف اللاجئين والأجانب
وثالثا، هناك خلافات المعارضة المستمرة مؤخرا، خصوصا في ما يرتبط باختيار مرشح توافقي لطاولة الأحزاب الستة المعارضة، حيث ما زال رئيس حزب الشعب الجمهوري (أكبر أحزاب المعارضة) كمال كليتشدار أوغلو مصرا على ترشيح نفسه، وما زال الحزب الجيد (ثاني أحزاب المعارضة) معارضا لذلك، ولا يراه المرشح الأنسب لمنافسة أردوغان، فضلا عن هزيمته. يضاف إلى ما سبق تراجع حدة تناول ملف اللاجئين والأجانب -خاصة السوريين- في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي مؤخرا، وقد كان ملفا ضاغطا على الحكومة التي لجأت إلى عدة قرارات ضمن سياسة “تخفيف تركز الأجانب” في أحياء المدن الكبرى.