بقدر ما كان الحدث في غزة صاخباً، وتطوراته دراماتيكية، بقدر ما كان سريعاً، وخاطفاً لدرجة لم تقوَ كثير من الهيئات على مواكبته السريعة. بهذه الروحية، واجهت “الجنى” الحدث. كان لا بدّ للمركز أن يبادر لعمل من اختصاصه، يرفد الحدث في غزة وفلسطين بعمل فني – ثقافي، فكان معرضه الاستيعادي “من بيروت هنا القدس”، في مبنى جريدة “السفير” في بيروت.
لم يكن من السهل تحضير عمل سريع يليق بمستوى الحدث، فلجأ المركز لاستعادة حركة سبق له أن أتمّها منذ عام، وبضعة أشهر، بإقامة ورش عمل ودورات تدريبية لعدد من الشباب الصاعد، تجاوز 50 من مختلف مناطق لبنان والمخيمات الفلسطينية، من أعمار تراوحت بين 14 و 20 عاماً، جرى خلالها رفع قدراتهم الفنية، واطّلعوا من خلالها على أعمال فنانين فلسطينيين كبار، محترفين، منهم من رحل، ومنهم من يستمر.
كانت الفكرة أن يستلهم الشاب أو الشابة من الجيل الصاعد، أفكار ورؤى الفنانين، ويحاول بعد اكتسابه الخبرات الفنية اللازمة في الرسم، وضع تصوّر للوحة من روحيّة لوحة فنان معيّن.
اختار كل شاب أو شابة فنّاناً فلسطينياً، ولوحةً من أعماله، وسعى بطريقته، وأسلوبه المتجدّد لوضع عمل خاص به، يحاكي قصة من قصص فلسطين، من تراثها، وثرائها، وتقاليدها، ومن موضوعاتها المختلفة، منها موضوعات المرأة، والأرض، والثياب، والتراث، وصولاً لجمع مجموعة واسعة من الأعمال، كافية لإقامة معرض يكون ارتداداً للحدث الغزاوي، وإحياءً لما دمّرته آلة الحرب الصهيونية، في عمل مقاوم، حمى فلسطين بأبعادها الثقافية والتراثية والفنية.
الفنانون الذين شكّلوا خلفيّة الأعمال، هم إسماعيل شموط (1930 – 2006)، وجمانة الحسيني (1932 – 2018)، وعبد الرحمن المزيّن (1943)، وصلاح الأطرش (1945 – 2020)، وسليمان منصور (1947)، وبعضٌ سواهم، وهؤلاء بمجملهم عاصروا نكبة فلسطين 1948، وعايشوا آلامها التي لم تغب عنهم يوماً، وتتكرّر اليوم، وتتركّز في أذهان، وأفئدة الأجيال الجديدة.
الفنانون الناشئون لم يعيشوا الحياة الفلسطينية في الأراضي المحتلة، لكنّهم بنوا ذاكراتهم على ما سمعوه من الآباء والأجداد، وما عايشوه عبر وسائل التواصل، وما ترامى إلى مسامعهم من تطورات، فكوّنوا مخيّلة فلسطينية كانت أقسى مما عايشه أسلافهم، واليوم يعاينون مدى الوحشية غير المسبوقة في حرب الإبادة على غزة.
من هؤلاء الفنانين والفنانات آمنة عبد الله، وأمجد يحيي عبد الحفيظ، وسارة المرعبي، وخديجة خليل، وعائشة خليل الصيّاح، وهديل بلال حمّاد، وورود خالد جمعة، ودعاء الحسن، ومرام شعبي، وأنوار عطور، ونور الهدى علي الحاج، وأفنان عبد الله، ومصطفى الأيوبي، وسهام شبايطة، وتالا مرعي، ونور حمد، وإسلام الشهابي، وآخرون.
وأقيم المعرض بالتعاون مع “ملتقى جريدة السفير”، ومؤسسة “التعاون”، بدعم من “الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي”.
وفي تعريف من المنظّمين للمعرض أنه “يأتي في إطار مشروع يحمل الاسم عينه يهدف إلى استعادة أعمال فنية وتقديمها إلى الجمهور، لإطلاع الأجيال الجديدة على مدينة القدس، عبر الفن التشكيلي، لما تشكّله المدينة العريقة والفنون المرتبطة بها تعبيرياً من قيمة معنوية ومادية، في وجدان الشعوب كافة”.
ومن بين الأعمال المعروضة ما تركّز على هندسة مدينة القدس المعمارية، إن بالنسبة للأماكن المقدّسة، أو المنازل والأبنية، والشوارع والأسواق، وقد برزت محاولات توثيق دقيقة لتفاصيل العمارة تعبيراً عن شغف الحب لفلسطين، وبلوحات تعبّر عن أشخاص فلسطينيين نموذجيين ومراكز عملهم، والرموز التي يرتدونها، ومحاكاة المواقع الطبيعية في فلسطين التي تمّ توثيقها في أعمال الفنانين الفلسطينيين القدامى والسابقين والحاليين، من أجيال مختلفة، وباتت متجسّدة في الذاكرة المتعلقة بفلسطين وقضيتها.
أ.ش