أيُّ لغة يمكنها رواية قصص 21 ألف شهيد

غزة… القلب المفتوح

في غزة، يُعيد المجاز انتشاره، على مضض، احتراماً لعمر الحقيقة لا لجمالها.

2024-01-06

عبد الرحيم الشيخ

 

بعد مرور ثمانين يوماً على بدء حرب الإبادة على غزة، لم تعد «الحقيقة أول ضحايا الحرب»، مثلما تفيد البلاغة الرديئة، وإنما الحق في الحياة والحق في المقاومة من أجلها. فالحقيقة، وإن أقرَّت بها جميع لغات الأرض، لا تتسع لهذا الفقد كله، لأنها لا تملك ما يمكِّن السرد من وصف المعاناة من دون عيشها.

 

وأيُّ لغة يمكنها رواية قصص 21 ألف شهيد، و7 آلاف مفقود، و56 ألف جريح، و11 ألف أسير، و1,9 مليون نازح… ومئات آلاف البيوت، والمدارس، والجامعات، والمستشفيات، والمساجد، والكنائس، وسيارات الإسعاف، والمركبات، وآبار المياه، ومحطات الكهرباء، والملاجئ، والمطاحن، والمخابز، والمكتبات، والمراسم، والمحالّ، والدكاكين، والبسطات، والورش، والمقابر، والجثامين المتحلّلة التي لن تحظى بترف الجنازة، والأشلاء المبعثرة التي لن تحظى بفرحة جمع الشمل تحت تراب واحد؟ فالعدو الذي لا يأبه بأرقام الأغيار، لا يتقن إلّا لغة واحدة، هي لغة النار.

في حضرة الإبادة والفقد، لا تملك الحقيقة لساناً لتهجئة الفرق بين الشهود والشهداء والشواهد، ولا تملك الحداثة البيضاء من علوم الهندسة وتخطيط الفراغ والاستقصاء الجنائي ما يمكِّن من التمييز بين أمكنة الحياة وأمكنة الموت، بين الملجأ والمقبرة… تحت الرماد.

 

فالإبادة الجماعية، وهي تدفننا في الراهن، تستهدف الماضي والحاضر والمستقبل، الشيوخ والنساء والأطفال. أمّا النجاة الفردية، فلا يمكن التعبير عنها إلّا بلغة المصادفة، بعيداً من مسرح الحرب في غزة، ومن معارك الكلام الفارغ التي يخوضها مَن هم خارجها لملء الفراغ بين الطابور الأول والطابور الخامس.

 

فالكل منهمك «في وصف حالتنا» التي يتواطأ فيها النصر والهزيمة على حكمة التناوب، وتتلاشى الحدود بين الواقع والواقعية، وتتراصف المواقف بين «الحزن القاتل والحزن المقاتل» في مواجهة مَن سيُلقون بنا في تيه سيناء بإرادة غير إلهية. لم يطلب أحد من مثقفي الوطن، الذين «طعموا خبزه في الزمان الحسن وأداروا له الظهر يوم المحن»، ولا من غيرهم، أن يثبت إنسانية الإنسان، أو أن يكون مسيحاً يبشِّر بانتظار الجلاد للقصاص والضحية للخلاص بعد أن تنتهي الحرب، وإن كان في وسع كل منهم أن يكون مؤرِّخاً في كتاب الأمل، فـ «المسيح لا يأتي فقط بصفته المخلِّص، بل بصفته هازم المسيح الدجَّال. والمؤرِّخ الذي سيملك موهبة إذكاء جذوة الأمل في الماضي هو فقط ذلك الذي يكون راسخ الاقتناع بأنه حتى الموتى لن يكونوا في مأمن من العدو إذا انتصر».

ونحن في الحرب، لا نكتب الحرب، بل تكتبنا الحرب وهي تفرض على وجودنا الجماعي أميَّة قسرية. وليس لنا إلّا التعرُّف إلى أبجديتها بتفحُّص أجسادنا ونحن نتعلّم القراءة قبل الكتابة لنتكلَّم عن هول الحرب.

 

يحرق العدو الأرشيف والمكتبة والمبنى العتيق ضمن إبادة الماضي، ويدشِّن أرشيف الأجساد المحروقة في الأرض المحروقة لتكريس مشهدية الردع الذي يمنع حضور الحاضر، ويوقف استقبال المستقبل… بالجدار الحديدي الذي أكله الصدأ. في فلسطين، نتعلّم القراءة لنتعرّف إلى شاهديّة الجسد المكتوب بالحرب، ولنبدأ الكلام من جديد بعيداً من بُكم الحقيقة، وبلاغة الحق. نغنّي لانتصار القلم على السيف، وإن حرمت قذائف الموت القادمة من السماء رفعت العرعير من فرصة المواجهة الأخيرة، وقذف أقلامه الملونة في وجوه الجنود الشاحبة، ووجه العالم.

في غزة، يُعيد المجاز انتشاره، على مضض، احتراماً لعمر الحقيقة لا لجمالها. لكن غزة مصابة بقابلية المجاز، وهي تستدرجنا إلى التأمل في: خيانة الفرح، ورماد النظرية، ويد الله، واسم الإنسان، وقيامة شمشون، وانتحار الحقيقة، وإحراج النخبة، وتهمة النفق، والمقبرة الحية… غزة ليست جرح فلسطين، بل هي قلبها المفتوح.

 

وقد قرّرت غزة تجاوز مخاوفها، ومخاوفنا، ومخاوف أعدائنا، بأن تُجري أكثر عملية قلب مفتوح خطورة في التاريخ بعدما أغلق العدو والمتحالفون معه والمتواطئون… منافذ الحياة على جسدها المحاصر. اختارت غزة مبضعها، ولجأت إلى خيار النار لفتح شرايين قلبها، وإن كان دون ذلك الموت. في عالم المثال، يُطلع طبيب القلب مريضه على حالته، ويخيِّره بين حياة ممكنة ستقوده إلى الموت بقلب مغلق، وموت ممكن ربما يقوده إلى الحياة بقلب مفتوح.

 

وفي عالم الواقع، اختارت غزة أن تكون طبيبة نفسها، وأن تجري العملية لنفسها، وبنفسها، وأن تراقب فعل مبضع النار الذي في يدها، في غرفة عمليات بدائية وشاشة تخطيط مهشّمة كثيراً ما خذلتها الكهرباء. وفي كل لحظة، منذ بدء العملية، ينفجر شريان جماعي جديد، وتغطي الدماء زجاج الكاميرا، وزجاج الشاشة، وزجاج أعيننا التي ألِفت الموت.

وغزة «مدينة طيبة بين الشام ورمال مصر»، مثلما قال المؤرّخ. لكن مقاومتها، بعد خمسين عاماً ويوم واحد من «معركة العبور» العربية التي اجترحتها مصر والشام، أعلنت عبوراً فلسطيني الملامح إلى الحياة وفلسطين، وسمَّته «طوفان الأقصى». فمن القدس تندلع الحرب، وفي أكنافها تنتشر: في غزة وجنين وطولكرم ونابلس وأريحا وبيت لحم والخليل… وعموم فلسطين. وعلى حدودها، في لبنان، واليمن، وسوريا، والعراق، ينفِّذ المقاومون نارهم، ويُعين أحرار العالم غزة على الإمساك بمبضعها لتُتِمّ عملية العبور إلى الحياة.

 

اندلعت النار، واشتد الحصار، وشربت غزة ملح البحر الذي لم يبتلعها كما أراد أعداؤها. وقبضت مقاومة غزة على قلب العَلَم، علم فلسطين، واقتبست مثلثاً أحمر يشير إلى انتصار دماء غزة على سيوف إسبارطة الجديدة ونيران الأساطيل القادمة من أعالي البحار لمحو غزة والتعجيل في قيامتها وقيامة العالم.

وقد كرّسنا صفحات هذا العدد كاملة لتكون فصلاً في «كتاب الطوفان». ففي هذا العدد، نقرأ أسماء كثيرة في قلب غزة المفتوح، ونقرأ اسمها في قلوب كثيرين من محبّي فلسطين وغزة، والباحثين عن غزة وأهلها… بين الركام والأرقام. وعلى وفرة من التصميمات والأعمال الفنية التي تروي ملحمة «طوفان الأقصى»، آثرنا أن يحمل الغلاف اسم غزة العربي. وقد خصَّ الخطاط اليافاوي ساهر الكعبي، كاتب «مصحف المسجد الأقصى»، «مجلة الدراسات الفلسطينية» بلوحة فنية يزيّنها رسم غزة الذي تحتضنه مقاطع من قصيدة الشاعر حسين البرغوثي «سلام لغزة»، التي توَّجنا بنَصّها الكامل قسم الشعر.

شارك في العدد الذي أُنجز في زمن قياسي وباستكتاب خاص، 60 كاتباً وكاتبة من فلسطين، والعالم العربي، والعالم. وتصدّرت العدد «افتتاحية» قادمة من غزة، كتبها الأكاديمي الرؤيوي حيدر عيد، ضمن مسعى «مجلة الدراسات الفلسطينية» في العام المنصرم لأن تأتي افتتاحياتها من الميدان حيث المواجهة والمقاومة والصمود في قلب فلسطين. وهي الافتتاحية الرابعة على التوالي، بعد افتتاحيات القادة الأسرى مروان البرغوثي وأحمد سعدات وإبراهيم مرعي للأعداد الثلاثة السابقة.

يتضمن هذا العدد خمسة مداخل كتبها أكاديميون بارزون في مجالات العلاقات الدولية والقانون والسياسة والحرب والتاريخ، على المستويات العالمية، والعربية، والفلسطينية، والصهيونية، والإسلامية.

 

تلتها حوارية «فلسطين: من القدس إلى غزة» مع المقدسي، خالد عودة الله، الذي يصنع الطريق بالخطى، وهي رحلة ذات مسارات متشابكة في التاريخ السياسي والاجتماعي والعسكري للقدس وفلسطين، وما تستدعيه هذه المسارات من الإحالات إلى القدس وفلسطين و«إسرائيل» وغزة. وفي محاولة جماعية للقول على ما حدث ويحدث وسيحدث، توزَّع هذا العدد على أربعة محاور يتضمن كل منها مقالات وتقارير وشهادات ودراسات.

يغطّي «محور الأسرى والحرية» حال الأسرى الفلسطينيين، بين آلام الأسر وأحلام الحرية، في حرب الإبادة الجماعية على غزة ومختلف الجغرافيات الفلسطينية، وما يتعرّض له الأسرى من «إبادة غير مرئية» في ظل «حالة الطوارئ» الصهيونية وتواطؤ المؤسسات الدولية.

 

وتتصدّر هذا المحور مقالة افتتاحية للقيادية الفلسطينية والأستاذة والباحثة في «جامعة بيرزيت» خالدة جرار، التي اعتُقلت في اليوم الحادي والثمانين للحرب، أثناء طباعة هذا العدد.

 

كما يضمّ المحور مساهمات عن مرضى غزة وفلسطينيي 1948 الذين أضحوا أسرى السياسات العنصرية الصهيونية المتصاعدة ضدهم والهادفة إلى تكريس حالة من الكُمون في صفوفهم.

ويعرض «محور الإعلام والسردية» تغطية الإعلام الرسمي والعسكري والشعبي وأجنداته. وعلى الرغم من تركيز هذا المحور على «تغطية الحرب على غزة»، فإنه يقترح كذلك محدِّدات بناء سردية فلسطينية وعربية وعالمية مضادة للدعاية الصهيونية ومروِّجيها والمتساوقين معها. كما يتضمّن المحور شهادات عن حال الإعلام والثقافة في العواصم الغربية التي تتماهى حكوماتها مع مواقف الحكومة الصهيونية ودعايتها، بينما تهتف شعوبها باسم غزة وفلسطين «من البحر إلى النهر» في الشوارع والميادين.

ويتناول «محور الإعمار والعمارة» تحليلات لمباني الهيمنة الحربية الصهيونية خلال الحرب، ومقترحات معمارية في توظيف أدوات الواقع الغامر في توثيق جغرافيا الحرب على طريق إدانة دولة المستوطنين التي لن تنتصر أبداً على رغبتها في النصر، بجرائم الحرب والإبادة الجماعية. كما يسلّط هذا المحور الضوء على الأمل، في ظل الدمار الشامل، عبر عمليات الترميم والتصميم والتخطيط المعماري، وخصوصاً للمباني التاريخية التي دمّرت الحرب عدداً غير مسبوق منها. ويتضافر مع ذلك نقد سياسات الدعم والتمويل لغزة، وشهادات على أمكنة غزة التي قضمتها آلة الحرب.

أمّا «محور الاجتماع والثقافة»، فيتضمّن مقاربات تاريخية واجتماعية وثقافية وفنية، سواء على مستوى الثقافة العالمية أو الثقافة الشعبية، لحدث «طوفان الأقصى» وما تلاه من حرب إبادية على غزة. فمن ناحية، يشكّل التاريخ الاجتماعي للمقاومة في غزة مقدمة لقراءة الأجواء القيامية التي خيّمت ولا تزال على غزة، وامتدت إلى عموم فلسطين والإقليم والعالم.

 

ومن ناحية أُخرى، يشكّل فهم سياسات الصداقة والعداء في تاريخ الاستعمار الطويل لفلسطين والهيمنات المتعاقبة عليها، أداة تحليل للسياسات الثقافية والفنية، ولأنماط التضامن على امتداد العالم. ويكتمل قوس هذا المحور بدراسة تحليلية لثنائية البأس الاستعماري والأمل الفلسطيني.

 

ومع «أن الشعر لن ينقذ العالم، بل يحتاج إلى مَن ينقذه»، بتحريف جديد لمقولة قديمة، إلّا إننا أدرجنا في العدد باباً للشعر إصراراً على إرادة الحياة والجمال والحرية في وجه إرادة الموت والتوحّش والهيمنة، تضمَّن قصائد لعشرين شاعراً وشاعرة من غزة، حلّ عليهم ضيفاً كل من معين بسيسو بمقطع من مطوّلته «أبدأتَ تُحصي أضلعك؟»، وحسين البرغوثي بقصيدته «سلام لغزة» التي جعلناها عنواناً للعدد.

 

وبين الشعراء ثمة أربعة شهداء أودعت الحرب أجسادهم في تراب غزة، بينما زاحمت أرواحهم في سمائها طائرات الموت، وهم: هبة أبو ندى ورفعت العرعير ومريم حجازي وسليم النفَّار.

يشتمل العدد كذلك على ثلاثة أبواب ثابتة، تضم: تقرير فلسطين الحدثي، وقراءات عميقة في أربعة كتب عن غزة، ووثيقة خاصة هي «خطاب طوفان الأقصى» في يومه الأول.

لم يكن لهذا العدد أن يصدر بصورته الحالية، كوثيقة تاريخية وشهادة جماعية على حدث فلسطين الكبير، لولا إشراف رئيس التحرير الأستاذ إلياس خوري بقلبه المفتوح على غزة وفلسطين، والجهود الاستثنائية لسكرتيرَي التحرير: الأستاذة ناهد جعفر التي وصلت الليل بالنهار، حرفياً، في اشتغالها النبيل على كل حرف ضمّته دفّتا العدد، والأستاذ أنيس محسن في ضبط النصوص ومراجعتها.

 

لقد أُنجز هذا العدد في ظل حرب الإبادة والتواصل شبه المستحيل مع غزة، وفي ظل «حالة الطوارئ» في سائر جغرافيات فلسطين الجريحة، وفي ظل إصرار معاند على مواصلة الطريق محمولاً على مقولة شاعر فلسطين محمود درويش: «ونحن نواصل ما يشبه الموت نحيا، وهذا الذي يشبه الموت نصر».

هذا العدد مجهود جماعي حظيتُ بفرصة العمل على إنجازه وتحريره، وقد كُتب بقلوب المؤلِّفين لا بأيديهم كرمى لعيون غزة: عيون الشهداء، والجرحى، والنازحين؛ عيون المقاومين فوق الأرض وتحتها؛ عيون الطواقم الطبية، والإسعاف، والدفاع المدني؛ عيون الطواقم الإعلامية، مَن قضى نحبه منهم ومَن ينتظر، وهم يحرسون مجاز طروادة المشرقية من الخلخلة؛ عيون محبِّي غزة، ومَن تعلَّقت بها قلوبهم في الشوارع والميادين في أربعة رياح الأرض… لقد أُنجز هذا العدد انحيازاً إلى أنفاس الغزّيين الصامدين، برسم الحياة، في وجه الإبادة، وأنفاس الفلسطينيين في كل مكان. فطوبى لهم، وطوبى لتاريخ سيشهد على وجود غزة وبقاء أرضها، وبحرها، وسمائها، ونارها.

 

 

* مقدمة العدد الخاص (137) من مجلة الدراسات الفلسطينية «سلام لغزة»

 

أ.ش

المصدر: الوفاق/ وكالات