"المروءة وحدها تحفظ الأعراض"..

ما لا يتحدث عنه أحد في مراكز إيواء غزة

في ممرات المدارس ومراكز الإيواء، تحت أدراحها، أسفل كل سقف، وفي مساحات لا تتجاوز 3 أمتار، تسكن عائلات بأكملها؛ أطفال وكبار سن، صبايا ورجال.

التعريف الدقيق لمراكز الإيواء في غزة مختلف تماماً عن الصورة المتوقعة لمفهوم كهذا في أي مكان في العالم. ببساطة، بدأت الحرب. وفيما كانت المساجد، ولاحقاً الكنائس، أهدافاً للغارات العنيفة، لم يجد مئات الآلاف من الأهالي ملجأً سوى المدارس بشقيها الحكومي وتلك التابعة لوكالة “غوث” وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” التي تفتقد أدنى مستوى من التجهيزات.

 

خرج سكان بلدتي بيت حانون وبيت لاهيا في بداية الأمر بالملابس التي كانوا يرتدونها فقط. المحظوظون منهم من استطاعوا الحصول على صفوف دراسية أفرغوها من الأثاث، وباتوا ليلتهم الأولى على البلاط البارد. في وقت لاحق، وبعد أيام من استيعاب هول الصدمة، غادر الرجال طوال أيام في مغامرات خطيرة إلى الأحياء الخالية تحت القصف العنيف، وأخرجوا قليلاً من الأغطية والملابس وما تركوه خلفهم من مدخرات ومتعلقات ثمينة، والقصد هنا، ثمينة بالمعنى المعنوي والاجتماعي.

 

أبو صبحي حمد نازحٌ من بيت حانون، وهي مدينة حدودية تقع في أقصى شمال قطاع غزة، يقول: “بدأ القصف بالتزامن مع اتصالات من ضباط الاستخبارات الإسرائيلية أمرونا فيها بالإخلاء على وجه السرعة. استمر خروج الأهالي وسط الظلام حتى ساعات الفجر. لم نفكر في البداية لا بمال ولا طعام ولا شيء. كنا نتفقد بعضنا بعضاً. ضاع كثير من الأطفال، واكتشف البعض أنّ بعض المسنين تُركوا في المنازل. كانت تلك الليلة إعادة حية لتجربة النكبة”.

 

يعمل الرجل الذي تشير ملامحه إلى أنه يتجاوز الخمسين من العمر مُعلّماً حكومياً. لم يكن من الصعب أن تستشفّ من طريقة حديثه اللبقة أنه يُدرّس مادة التاريخ. في حديثه حاول مراراً أن يوضح طبيعة حياته قبل السابع من أكتوبر، وكأنه يضمر في تذكّره أبنائه الذين درس أحدهم الطب في روسيا، وعمل الثاني مدرباً للتنمية البشرية، فيما حاز أصغرهما الدرجات الأولى في المرحلة الثانوية، اعتذاراً عن حالته الرثة.

 

يتابع حديثه فيما يطلب من زوجته بمنتهى الأدب أن تعد لنا كوباً من الشاي: “لقد داست الحرب آدميتنا. ينام في هذا الصفّ 80 شخصاً بلا أدنى خصوصية. كل حجرة دراسية أصبحت مأوى لعائلات ممتدة لا تربط بينهم أي صلة قرابة. جمعتنا الظروف الصعبة. المروءة وحدها هي من تحفظ الأعراض”. قال ذلك، وغصّ في موجة صمت رهيبة، ثم أشاح بوجهه عنّا وبكى.

 

من شرفة الفصل الذي شربنا فيه أكرم كوب من الشاي في مدرسة القدس الابتدائية شرقي مخيم جباليا، تتبدى النكبة بأقسى صورها. عشرات الخيام التي أقامها الأهالي من الأغطية والأقمشة ازدحم بها فناء المدرسة والحديقة. حولها تخوض النسوة معارك شاقة. العشرات يشعلن النار لطهو ما لديهم من طعام، وأخريات يغسلن الثياب، فيما يصطف الأطفال في طابور طويل أمام “بربيش” مياه حُفرت الأرض عميقاً للوصول إليه، ويحملون الجرادل والطناجر في انتظار الحصول على القليل من الماء.

 

في مقدمة الطابور، يقف محمد حمد، الشاب الثلاثيني الذي تطوّع لتنظيم هذه العملية اليومية. يصفه النازحون بأنه “صارم وحقاني وابن حلال”. بمشقة كبيرة استطعنا الوصول إليه. شارة الصحافة التي يحترمها الأهالي تُنبئ بأننا لا نتطفل لتجاوز دورهم. “بدون تصوير بحكي”، قال حمد كأنه يريد أن يخفي “عورة” النزوح. “شو خجلان يا طيب؟”، سألناه فأجاب: “لا والله مش خجل، بس أهلي في أوروبا ما أشعرتهم بيوم كيف عايش، كل مرة بحكيلهم إني مقيم في بيت صديقي، وحياتنا من أفضل ما يكون، ما بدي أوجع قلبهم إذا شافوني بهيك وضع”.

 

حمد كان حكيماً في مستشفى بيت حانون الحكومي، بل قُل كبير الحكماء. انتقل منه إلى المستشفى الإندونيسي. حوصر فيه، ثم بعد خروج المستشفى، ومعه مستشفيات شمال غزة كافة، عن الخدمة، قرر منذ 40 يوماً أن ينتقل لخدمة “ربعه وأهله” في مركز الإيواء.

 

يقول: “يصلنا الماء مرتين في الأسبوع. الجميع بحاجة له. هذه المياه الملوثة هي المتوفرة فقط للشرب والطهو والتنظيف. لا يمكن ترك الأمر من دون تنظيم. الناس متوترون ويعيشون يومياً صراعاً للبقاء”، لكن من أين لك كل هذه الهيبة والوقار؟ يجيب الشاب: “بصراحة، طوال أيام الأسبوع التي لا تصل فيها المياه، أرتدي الكوت الطبي، وأقضي يومي في تطهير جروح المصابين بما أحصل عليه من مواد طبية، وأعالج الأطفال المرضى أيضاً”.

 

في ممرات المدرسة، تحت الدرج، أسفل كل سقف، وفي مساحات لا تتجاوز 3 أمتار، تسكن عائلات بأكملها؛ أطفال وكبار سن، صبايا ورجال. أم العبد حاجة تجاوزت السبعين من عمرها، خرجت مؤخراً من بلدة بيت لاهيا. التقيناها أسفل بيت الدرج الذي تحول إلى مأوى لنساء العائلة الممتدة. تقول للميادين نت: “احنا آخر ناس طلعنا من بيتنا في منطقة الشيماء ببيت لاهيا، بالعربي، كان نفسي أموت تحت الحجار ولا أطلع، وصلوا اليهود لعنا، قصفوا الطابق العلوي، وطلعونا، وصلنا هان، ما لقينا سقف ننام تحته، الناس فوق بعض يا بنية، اعملنا خيمة في الساحة، ولما مطرت الليلة، غرقنا وغرق فراشنا، نقلنا تحت بيت الدرج هان، الله يرضى عليهم خمس شباب كانوا يناموا هان من أول الحرب، طلعوا وحطونا مكانهم، الآن احنا البنات بنام، والرجال والشباب في الشوارع”.

 

على رصيف البؤس الكبير، وسط دخان المواقد وطابور المياه وحراك النسوة الذي لا ينتهي، كانت لمى ترسم بقلم الحبر الجاف على أيادي الأطفال. لدى ابنة الـ16 ربيعاً موهبة مذهلة. يختار الأطفال الذين تجمعوا حولها ما يريدون رسمه. أحمد الذي ترك يده في كفها، وأطلق فمه لتوزيع الابتسامات لشدة فرحه، رسمت على ظهر كفه قبة الصخرة، ومن حولنا، حضر العشرات من الأطفال يستعرضون أمنياتهم التي تحولت إلى رسومات؛ غصن زيتون، وحمامة سلام، وبندقية.

 

أ.ش

المصدر: الميادين