الآن أدرك خطأه وعلم أبو نادر أنه فرّط، لأجل أنانية ورفاهية ليست في وقتها، بقوت أولاده الخمسة، إذ لم يكن عليه أن يبيع ثلاثة شوالات من أعلاف الدواب، ليشتري كيلوغراماً واحداً من اللحم الطازج، ظل يشتهيه وأطفاله كلما مرّ من أمام ملحمة نوفل في سوق مخيم جباليا شمالي قطاع غزة.
في حسابات المنطق، لم يكن الرجل الخمسيني مخطئاً، لقد نفق قطيع الحلال كلّه، بعدما اضطرّ للنزوح من حي السكة شرقيّ مخيم جباليا لأكثر من شهر ونصف الشهر، حينما داهمت الدبابات الإسرائيلية الحي. سبعة رؤوس من الخراف، وأربعة أخرى من الغنم، نالت الشظايا من بعضها، وأتمّ الجوع والعطش على ما تبقّى، لماذا أحتفظ بالأعلاف إذاً؟ تساءل الرجل الذي لم يكن يتوقّع أن يصل أكثر من 500 ألف إنسان محاصرين في شمال القطاع إلى مرحلة يطحنون فيها علف الدواب، ليصنعوا منه الخبز، هكذا انتهت قصة أكبر خيبة تجارية في العام 2024، والآن يطوف الرجل ومعه الآلاف من أشباهه بحثاً عن كيلو واحد من الدقيق المصنوع من ذاك النوع الرديء من أعلاف الدواجن والدواب.
“يكفي الكيلو الواحد الذي وصل سعره إلى 5 دولارات لإعداد 12 رغيفاً يأنف الدجاج أكله، وتكفي تلك لتأمين قوت العائلة ليوم واحد”، قال الرجل واستدرك: “هذا إذا افترضنا أنهم سيتناولون وجبتين في اليوم، أي رغيفين مغمّسين بالزعتر أو الفلفل الأحمر المطحون”.
قبل الطوفان، لم يكن “ماجي” الطعام المصنّع، يعرف طريقه إلى أكثر منازل الغزيّين، وكانت المفاضلة التي تقوم لأجلها الحروب الودودة بين رب البيت والأولاد: “نطبخ على دجاج ولا لحم أحمر”، صحيح أن المستوى الاقتصادي لم يكن على ذاك القدر المتخيّل من الرفاهية والغنى، لكن الحصول على أوقية واحدة من الدجاج أو واللحم المجمّد، لم تكن معضلة تكسر الموازنة، يقول هاني مطر، وهو بائع شاي وقهوة متجوّل: “كنّا نشتري لما يكون الحال ضيّق، رقاب دجاج أو ظهورها، الكيلو بخمسة شواكل، أو أوقية لحم مجمّدة بالسعر نفسه، وتمشي الأمور، اليوم مش متوفر إشي، اليوم أضحى الماجي هو دسم الطعام الوحيد”.
لقد نجح العدو خلال هذه الحرب في شيء واحد، وهو إذابة الفارق الطبقي بين الجميع، إذ ليس بوسع الغني أن يعلو على الفقير المعدم، في نوعية الغذاء أو حتى كميته، يقول عبد الله جمال: “طول عمري تاجر إلكترونيات، في جيبتي الآن 3 آلاف دولار، والله من ساعتين بلفّ في السوق، ما لقيت كيلو واحد من الطحين، مش متوفّر ولا نوع من المعلّبات، حتى العدس والأرز مفقود”.
ليس بعيداً من سوق المخيم، في شارع الهوجا وسط مخيم جباليا، كان يجلس أبو محمود الهسي، حاج ستيني يمسك طبقاً مليئاً إلى نصفه بالقمح، منذ الصباح، استغلّ الرجل الذي كان يعمل محاضراً في الجامعة الإسلامية في غزة أشعة الشمس، لتنقية القمح مما اختلط به من أنواع أخرى من الحبوب: “هذا علف طيور، بنقّيه من الذرة والشعير وأنواع ثانية من الحبوب مش عارف شو هيا”. “رح تطحنوه يا عم”؟، “لا شو نطحنو، هذا غذاء اليوم، مع شوية مية وماجي، وعلى النار، بيصير أطيب شوربة”.
تعطيك أسواق شمال وادي غزة انطباعاً خادعاً عن حقيقتها، ففيما تعجّ يومياً بالآلاف من المارة، لا يعرض الباعة على بسطاتهم، سوى بضائع تكميلية لا تصلح بذاتها كوجبات، من مثل التوابل والمخللات والنسكافيه والمشروبات الغازية وحلوى الأطفال.
تقول أم صابر الكفارنة وهي حاجة ستينية تدير بسطة في مخيم جباليا: “كلّ إلى شايفه على البسطة، ما بينفع لشي، ما حدا بيجي يشتري توابل سمك، وهوا ما فيه سمك أصلاً، زيت القلي لشو ممكن ينفع وهو ما فيه بطاطا ولا شيء ينقلي، صلصة البندورة، لشو بتزبط وما فيه معكرونة، وهذا كل إشي متوفّر”.
تحضر الأسئلة الصعبة دائماً، عن الطريقة التي يستطيع الآلاف فيها المحافظة على البقاء، ماذا تأكلون؟ سألنا أم حامد فأجابت: “والله منّا عارفين كيف عايشين، بنمشي يوم بيوم، الأولاد بيناموا بالجوع، شو بنلاقي بناكل، نصف برتقالة، ليمون بالملح، الله بيسّير يا أخي، ما بتعرف كيف”.
وفي مكان آخر، بعيداً من مراكز المخيمات والحواضر العمرانية شبه الآمنة، هناك من قرّر، أنه إذا جاع الأولاد، وعجز الآباء عن إطعامهم، فلا شيء في هذه الحياة يستحق التشبّث به، الآلاف من الرجال قطعوا أكثر من 20 كيلو متراً مشياً على الأقدام، للوصول إلى دوّار الكويت، جنوبيّ حي الزيتون، حيث من المقرّر أن تدخل شاحنة المساعدات الوحيدة التي استطاع الضغط الدولي السماح بمرورها، وعلى رغم أن تلك المنطقة ميداناً دائماً للرمايات المدفعية والقنص، فإنه لا خيار للجائع سوى المغامرة، انقضت ساعات، وجاء الخبر، لقد قصفت الدبابات الإسرائيلية الشاحنة، وقضى هناك 20 شهيداً وأصيب 150 شخصاً، لقد عادوا جثامينَ هامدة أو مصابين غارقين بدمهم.. وجائعين أيضاً.
أ.ش