على وقع المجازر وجرائم الحرب التي ترتكبها قوات الاحتلال على أرض فلسطين، وتمادي القوى الصهيونية في دول العالم في ترويج السردية الإسرائيلية القائمة على الأكاذيب وتزوير الحقائق والوقائع، لا بد من الاستعانة بما كشفته صحيفة “هآرتس” عن الدور المركزي لوزارة الحرب الإسرائيلية في تقرير موثق صدر قبل سنتين تقريبًا وفيه اعتراف واضح بوحشية جيش الاحتلال مذ انشئ من رحم العصابات الصهيونية، وكيف أن قادة تلك العصابات تحولوا قادة للكيان في المجالات كلها، مع انشاء وحدة أمنية تخفي فظائع النكبة التي حلت بالشعب الفلسطيني عام 1948، وهو ما يعمد الكيان الصهيوني اليوم إلى تكراره مستندًا إلى تعميم سرديات كاذبة ينال ترويجها حيزًا واسعًا في السياسة والإعلام من جانب الأنظمة الدولية الحامية للكيان، وقد عبّر رئيس الولايات المتحدة جو بايدن عن ذلك بوقاحة بقوله: “لو لم تكن “إسرائيل” موجودة لأوجدناها”.
بناء على بحث أجراه مركز “عكيفوت لدراسات الصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ”؛ كشف تقرير “هآرتس” عن الدور الّذي أدّته وزارة الحرب الإسرائيليّة في الجهد المستمرّّ والممنهج للإبقاء على كلّ الوثائق المتعلّقة بالنكبة سرّيًّا، وهي مهمّة معهودة إلى “مالماب”؛ وحدة الأمن في الوزارة.
إن مهمّة “مالماب” الأساسية هي إخفاء حقيقة ما قامت به العصابات الصهيونيّة من تطهير عرقيّ في فلسطين، من أجل تمهيد الطريق لإيجاد الكيان الاستعماريّ. ولذلك، بالنسبة إلى “إسرائيل”، فإنّ فظائع النكبة يجب أن تبقى مدفونة حقائقها في أرشيفها المليئ بما اقترفته من جرائم يندى لها جبين الإنسانيّة، وتخجل النازية والفاشية من فظائعها، ويكشف تقرير أعدّته “هآرتس” بعنوان “دفن النكبة: كيف تعمل “إسرائيل” بشكل ممنهج على إخفاء أدلّة طرد العرب عام 1948؟” انشغال “إسرائيل” باحتمال وجود وثائق متاحة متبقّية للبحث؛ وهو ما يؤكّد أنّ المسؤولين الصهاينة، ولاحقًا الوزراء الإسرائيليّين، كانت لديهم معرفة تامّة بمجازر النكبة.
لقد أعلن قادة الاحتلال منذ بداية العدوان الوحشي على غزّة نيتّهم تهجير الفلسطينيين من القطاع باتّجاه سيناء وفق خطة محدّدة وتحدثوا عن الأماكن بالضبط، وعن وسائل وأدوات ودول تمول عملية تهجير من يبقى حيًا أو ينفذ من المجازر، لا بل جاهروا، رغم رفض الحكومة المصرية لاستقبال أي لاجئ، بأن “القاهرة وتل أبيب تقتربان من التوصل إلى اتفاق بشأن الترتيبات الحدودية مع قطاع غزّة بعد الحرب”، وأن “المحادثات بين الجانبين مستمرّة منذ أسابيع وسط خلافات حول مدى السيطرة الإسرائيلية على (محور فيلادلفيا)”.
وطالما حاولت “مالماب” العمل على مسح الذاكرة الجماعية سواء للمستوطنين القدامى منهم والجدد، عبر سردية ساعدهم في نشرها المسيطرون على وسائل الإعلام الدولية، قبل” ثورة الاتّصالات والتواصل” وبإمكانات مهولة، مقابل ضعف هائل قصدًا أو من دون وعي من الذين نصبوا أنفسهم من القادة العرب على أنهم أوصياء على قضية الشعب الفلسطيني، لا بل إن البعض ساهم بصورة فعالة في عملية الترويج غير الأخلاقي التي نسجها الصهاينة ومعهم الغرب ضدّ الشعب الفلسطيني وقضيته والقوى الحية فيه، ولا سيما المقاومة التي كانت ترد على الإرهاب بوصمها بالإرهاب، في سياق مخطّط قذر بعد أن رأى بأم العين وقائع تنسف أسس الدعاية الصهيونية. لكنّهم واصلوا دورهم كشهود زور، وهذا ما شهدناه على مدى الأشهر الأربعة من محاولات تجاهل المجازر وحرب الإبادة، لا بل والتشفي أحيانًا بما يحل بالشعب الفلسطيني رغم حركة الوعي التي تنتشر في العالم، والإشارة بأصابع الاتهام الواضحة إلى أن ما يجري حرب إبادة، وهو ما دفع محكمة العدل الدولية قبول الدعوى تحت هذا العنوان: حرب إبادة.
في التقرير الذي صدر بداية شهر كانون الأوّل 2021 أظهر من خلاله “مركز عكيفوت” و”هآرتس” مدى معرفة القادة الإسرائيليّين بفظائع النكبة. يبدأ التقرير الأخير بشكل صادم، لقد كانت مذابح العصابات الصهيونيّة فظيعة إلى حدّ أنّ الوزير في الحكومة الإسرائيليّة حاييم – موشيه شابيرا أعلن أنّ “كلّ أسس “إسرائيل” الأخلاقيّة تضعضعت” حسب تعبيره. وإذا ما وضعنا جانبًا التناقض في افتراض أنّ من الممكن أن نجد أيّ أسس أخلاقيّة في الاستعمار، فإنّ أوّل الوزراء الإسرائيليّين تنبّأوا بحالة الوعي الإسرائيليّ والتلقين الّذي سيدفع الإسرائيليّين إلى تصديق السرديّة الاستعماريّة وتبنّيها.
ليست مذبحة دير ياسين إلا واحدة من بين مذابح كثيرة بذات الوحشيّة في تلك الأيام، إلا أن ما حدث ويحدث في غزّة وفي الضفّة الغربية بأحدث وأقذر وسائل القتل في العالم تعمل قوات الاحتلال ورعاتها الدوليين على محاولات طمس وقائعه بعد أن فشلت في إبقائه بعيدًا عن أعين الشعوب.
إن الإجرام متأصل في تأسيس الكيان الصهيوني، وقد عبّر المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه باقتضاب “أنّ تاريخ النكبة، سواء من قِبَل فلسطينيّين أو غيرهم، لا يُشَرْعَن بوجود وثائق في الأرشيف الإسرائيليّ أو لا، لكنّ قيمة هذه الوثائق تكمن في كشف أنّ طبيعة المشروع الصهيونيّ عنيفة بشكل بنيويّ، وليس بشكل عرضيّ، وفي تكذيب الخطاب الإسرائيليّ الرسميّ حول نشأة الدولة”.
إن حكاية غزّة اليوم كحكاية فلسطين الطويلة مع الإجرام الصهيوني الذي لا يتدرج بالتهويل والترويع بل بالمباشر، وقد شهد لبنان بعض فصوله منذ العام 1948 وحتّى سنوات خلت، حين خرجت المقاومة كقوة رادعة لا يهاب رجالها المنون، وهم يدركون ما يفعلون، ولعلّ مجزرة مدينة الخيام التي تقترب ذكراها والتي حصلت في آذار 1978 تشبه حكاية غزّة.
حينها ارتكبت العصابات التابعة لـ”إسرائيل” مجزرة رهيبة بحق الشيوخ والعجزة حيث استشهد فيها أكثر من 61 شخصًا أصغرهم في سن الستين، وقد جرى تدمير الخيام بشكل كامل بعد نهب ما تبقى من منازل، حتّى قضبان الحديد في الأسطح، وقد وثقت الصحافة آنذاك كلّ شيء، ومن بينها بعض المراسلين الإسرائيليين. وفي السياق وكشهادات من أهل المجرم كتب مراسل “جيروزالم بوست” الذي رافق الصهاينة أثناء الهجوم على الخيام: “وقفت أراقب برعب وهلع سقوط مئات القذائف على التلة: كنت قد رأيت الخيام بواسطة منظار جيد، وأعجبت بسحر سقوف منازلها الحمراء. إن للبلدة جمالًا رائعًا أخّاذًا، يصلح لأن يكون منظرًا بريديًا. كان يمكن أن تكون هذه البلدة مقرًا للراحة في الظروف الطبيعية. سكتت المدافع مفسحة في المجال لتقدم المشاة بعد أن انتهت الطائرات من تدمير ما عجزت عن تدميره المدفعية. أذكر أني فكرت وقلت وأنا واقف هناك مذهولًا وإلى جانبي العديد من المذهولين مثلي نستمع إلى صرخات الرعب، قلت إن كمية المتفجرات التي استعملت في التدمير كانت كبيرة جدًا بالنسبة لهذه البلدة. ولا لزوم للتذكير بأن حادثة الخيام لم تكن الوحيدة، فقد جرت نفس الأحداث في نفس الوقت في أعداد كبيرة من القرى والمدن تلك الليلة”.
أما هيرش غودمان مراسل “جيروزاليم بوست” فكتب “دخلت الخيام مع أول دفعة من جيش الدفاع (الحرب)، وقد استغرقت رحلةُ عبورنا ثلاثة كيلومترات إلى البلدة سبعَ ساعات بسبب تراكم الدمار. كنت قد رأيت الأوتوبيس يوم السبت وما زالت الجثث مطروحة ورائحة اللحم البشري المحروق في أنفي. كنت أتحرق للانتقام، ولكني لم أكن مستعدا لرؤية ما رأيته في الخيام. لم يبق أثر لأي منزل. لقد دمرت البلدة بأسرها. والأفظع من ذلك أنه لم تقع أية إصابة في صفوف “الإرهابيين”. ولم نستطع القبض سوى على عدد ضئيل جدا لا يتجاوز عدد أصابع اليد” حسب تعبيره.
إن التكامل في المشهد بين غزّة اليوم والخيام 1978 ودير ياسين 1948 لا يمكن بعد اليوم أن يمر عليه الزمن بالأكاذيب، وككل مجرم عندما يرتكب جريمة جديدة ولم يحاسب على ما سبق، تفتح له كلّ السجلات القذرة سيما وأن أولياء الدم والدمار غادرهم الترويع إلى غير رجعة بعد أن شهدوا ويشهدون كلّ يوم فنونًا غير مسبوقة في الحرب وإدارتها، وفي الانتماء الحقيقي للوطن لا بالشعارات الكاذبة التي تتماهى والسردية الإسرائيلية.
بلا شك أن الدروس المستقاة حاليًا من الحرب الدائرة على جبهات عدة، ستكون على مدى سنوات مدار أبحاث معمقة بعدما شهد العالم النموذج الجديد في إدارة المقدرات العسكرية البسيطة بنجاح غير مسبوق وكشف سرديات الأكاذيب في آن، كما شهدنا إدارة تكتيكية تخدم الاستراتيجية السياسية والعسكرية خلال الحرب وقبلها، ومن ثمّ بعدها، والنتائج ستكون لها بصمات تتجاوز الإقليم إلى العالم وتكون خلاصتها “إن فنون الحرب تمر بثورة حقيقية”.
يونس عودة
أ.ش