توحد شرفاء وأحرار العالم

قصة عالمية.. حكاية ريان والبئر

خاص الوفاق: كبرت يا ريان، تقول أمك وهي تخاطب والدك، فترد أختك: "ريان أصبح رجلًا، يقول كلامًا لا يقوله الكبار".

2024-02-11

 

أ.حاتم عبدالهادي محمد السيد*

 

( قصة ريان والبئر، قصة حقيقية واقعية، هزت وكالات الأنباء والصحف العالمية عام ٢٠٢٢م، عن الطفل المغربي “ريان” الذي سقط في بئر بدولة المغرب العربي، ولم تستطع فرق الإنقاذ العالمية أن تخرجه حيا، رغم وجوده على قيد الحياة داخل البئر لخمسة أيام، وهي القصة التي استلهمت قلم المبدع والناقد المصري الكبير/ حاتم عبدالهادي السيد، ليوثقها فنيا في شكل قصة انسانية مهيبة).

 

 

 أين أنت ياريان؟ أمك تناديك ياولدي

هل ذهبت تلعب كعادتك مع الأطفال كرة القدم التي تحبها ؟ أم تراك ذهبت لتلعب “الحجلة” مع بنات الجيران؟!. لابد أنك تأخرت كعادتك، لكنني مطمئنة جدًا هذه المرة، فقد عاهدتني أن لا تتأخر عن أمك، ووالدك الذي يحبك أكثر من أي شيء.

 

ريان كبر وعمره -الآن- خمسة أعوام، سيدخل المدرسة ويلبس “المريلة” ويذهب إلى فصله مع الأطفال، وهناك سيكتب بالطبشور حكاية طفل عاش في المزرعة مع أسرته، يطارد كل صباح الفراشات، ويجلس في المساء في كُتاب القرية ليردد آيات القرآن خلف الشيخ في إقليم شفشاون بالمغرب.

 

 

يود “ريان” أن يصبح ضابطًا في الجيش ليحرر الصحراء المغربية من الجزائريين، وأطماع ” الأسبان “، وعصابات “البوليساريو” التي اغتصبت الأرض وثروات الصحراء.

يردد ريان لأمه بأنه سيكون أعظم طفل يبر والديه، ويسعى ليكون في البلاط الملكي لجلالة الملك “محمد السادس” ملك المغرب المهيب، وحينئذ لن يرتاح ريان إلا بعد أن يخبر الملك بهموم أهل القرى في الريف المغربي الذي يحتاج إلى مزيد من الرعاية، حيث الفلاحين يتقوتون الحياة بعرقهم، ويريدون المزيد لرفع مستوى معيشتهم.

كان والده يضحك من كلامه الذي يسبق عمره الصغير، لكن ريان الذي تربى بين الأشجار الخضراء قد أدرك ماهية كلمة “الحرية”، وهو يمرح بين المروج ويقطف الأزهار، ولا يتوانى يحضر إلى أخته إحداها، فتبتسم لطيبة قلبه، وحنان القلب الصغير..

 

– أين أنت يا ريان؟ غبت ياولدي كثيرًا، وأبوك بات أسود الوجه، وقلبه مع قلب أمك يقفز من الخوف والهلع …

– ريان سقط في البئر، والبئر ضيقة، والناس تجمعوا على صوت الصراخ، وأمك تنادي: يا ليتني أنا التي سقطت، ياليتني مت قبل أن أشاهد منظرك، لكنني أسمع همساتك، أنت حي ياريان؟.

أنت الحقيقة الوحيدة – الآن – عُد لأمك المسكينة، عد ياريان.. أبوك يصرخ وينادي، لكن لا جدوى فالبئر قديمة، وضيقة ولا يمكن أن ينزل بها أحد، فكيف سقطت ياريان؟ وهل فتحنا البئر لننظفها لتروي الحقول، أم فتحناها لتكون أنت الماء الذي يقتلنا جميعًا، ويعرينا لعجزنا عن انقاذك يابني.

لم تسقط يا ريان في البئر، بل سقطوا جميعا، سقط العالم كله في درس الحساب، وأنت وحدك جلست هناك، تنظر من القاع إلينا من أسفل إلى أعلى وتحوقل، وكأنك تواسي عجز العروبة في مصابها الجلل.

تنظر إلينا وتبتسم بسخرية، فتتقشعر أبداننا من الهول والفجيعة، ويتجمع العالم حولك ياولدي.

 

 

توحد شرفاء وأحرار العالم

 

توحد شرفاء وأحرار العالم من أجلك، وتوحدت قلوب العرب، والمسلمين، واستيقظ العالم بعد تحجره لسنوات، من فعل الحروب والمحن، والثورات المزعومة والتشرذم. وباتت وكالات الأنباء ترصد أخبارك، وأنت في قاع الجب.
فهل ألقيناك مثلما ألقى أخوة يوسف أخاهم في القاع، أم سقطت لتقول للعالم: كفي حروباً وتشرذماً، وعودوا إلى الله من جديد ..

 

 

الحكاية

 

تقول الحكاية: في قرية إغران، التي تبعد نحو مئة كيلومتر عن إقليم شفشاون، شمالي المملكة المغربية، بدأت قصة ريان، التي تجاوزت حدود البلاد، لتصبح حديث العالم بأسره. كان أبواك يحرثان الأرض، ويعدان البذور، وأنت حولهما تغرس الحب في عيونهما، وتمرح لتطارد الفراشات، وتجري حول الطيور التي تمر بين الأشجار الممتدة، تجمع البراءة من براعم الأزهار، وتقطف من فوق الشجرة ثمرة البرتقال التي تلمع مع ضوء الشمس الذهبية، تستلقي بعد أن أتعبك الجري، وتنام تحت شجرة التوت وحيدًا ، لتحلم بالحياة.

 

كبرت يا ريان، تقول أمك وهي تخاطب والدك، فترد أختك:

– ريان أصبح رجلًا، يقول كلامًا لا يقوله الكبار، ثم تحتضنك في حجرها الدافيء، تُقبّلك، وترفعك عاليًا في الهواء؛ بينما يتابعها الوالدان في سرور. سقطت ورقة التوت مبكرًا، وأنت تمرح في الحقل تسقي عود العنب الوحيد الذي كبر وأينع وأصبح شجرة تتدلي منها العناقيد الفضية اللذيذة، فتقطف حباتٍ قليلة، ثم لا تأكل حتى تعطي كل من حولك .. أنت تكبرنا بأفعالك ومواقفك الصغيرة، ولم نكن نعلم أنك ستكون حكاية العالم بعد دقائق.

 

– أين أنت ” ياريان ” يا أخي، تركت أختك الصغيرة وحدها، ورحت تمرح حول البئر الوسيعة التي فتحنا بوابتها لنعيدها للحياة، ولم نعرف أن ” النَّدَاهة ” نادتك هناك في القاع، وكأننا فتحنا لك بابًا إلى صدمتنا المفجعة من جديد، صرخت الأم، وتعالي صياح الوالد:
– سقط ريان في البئر، فأغيثوني يا رحماء القوم، يا أهل قريتنا الطيبين.

تجمع أهل ” إغران”، كُلٌّ يحمل فأسًا ومعولًا، وتعالت الصرخات، البئر غائرة وقديمة، ثلاثون مترًا أو تزيد بمترين، وأنت في القاع وحدك، تنظر إلينا بصمت لتتوالى فجيعتنا الأبدية، وكأنك الشاهد الوحيد على مواتنا؛ بعجزنا الممتد:

( الفستق الحلبي،
في فمه..
وفي خديه فاكهة،
وفي الشفة ابتسامة،
مات على البئر الحزين،
هناك في “إغران”،
في “شفشاون”
في صحراء موتانا
كان كمثل النرجس المصهور،
فوق رفات قتلانا،
ويد الظلام تمزق الآهات
تكشف عن خبايانا…
أهي القيامة من ثنايا الأبجدية عندنا؟!
أم أننا بالمعول المسجور
قد رحنا لنحفر ذاتنا،
ونداري فيها موتانا؟!.).

 

حضرت الشرطة والإسعاف وطائرات الهليكوبتر، ورئاسة الحي، وأهل إقليم شفشاون من الشمال، وتجمع أهل المملكة من كل صوب وحدب، وتكهربت الحكومة، ورؤساء العالم، واتصل جلالة الملك ليطمئن عليك من جديد، إنه حلمك يتحقق بأن تكون في البلاط الملكي لتحرر الصحراء المغاربية مما علق بها من أطماع وطغيان من جانب الطامعين، نعم تحقق الحلم فأصبحت في بلاط قلوب العالم نقشًا سادرًا لنتعظ جميعًا، وننبذ العنف والأحقاد والدنيا، ونتجه إلى الله من جديد، خمس سنوات، عمر النور الذي كان يحوطك ويجعلك ترسم للعالم وجهة أخرى، فيالهفي على قلب أم الصغير.

 

جاءت عربة الإسعاف بأنبوب الأوكسجين، وتم إنزالها في البئر لكنك لم تلتفت، ولم تشم سوى رائحة الحزن والدموع .. تتأوه يا قلب أمك الثكلى، ولا تصرخ مثلنا.. فيالصبرك ياريان الصغير … لقد أصبحت كبيرًا ياولدي، تقول أمك التي أعدت حقيبة المدرسة وملابس حصة الألعاب، لكنك كنت تنظر بصمت لتواسي أمك التي لم تكن تعرف بأنك ذاهب إلى هناك.

تطوع الشباب للنزول؛ لكن البئر رفضت إلا أن تحتضنك وحدك، فلا تسع البئر سواك، فيالهفة العالم من حولك، والدموع تتساقط كالدماء.. تبعثر الكلام، وتحدثت وحدك، ولم تقل : أنقذوني، مثلما تركنا القدس هناك وحيدة في القاع تصرخ: وا عروبتاه … عجزنا أن ننقذ الطفل فكيف سننقذ العربة بعد أن مات الحصان؟! ..

قال خبير من المهندسين لا بد أن نحفر نفقًا موازيًا لنلحق بريان الذي يئن، ويتضوع جوعًا وعجزًا، وحرمانًا من شَربة ماء .. خمسة أيام ياولدي ولم تذق الزاد، وكأن المولى يسقيك ويطعمك لتكون “بشير آخر الزمان”، الذي جاء بوعيد الرب وغضبه، فلربما نفعت العظة لمن ألقى قلبه السمع وهو شهيد ؟! . ماجت الطبيعة، واشتد الصقيع، وأنت كيوسف في الجب، وكيونس في قلب الحوت، وكمحمد الدرة، وهو يتلقى رصاصات عجزنا المهين.. تقول ياريان بأنك تذكرت أصدقاءك : ” إيلان”، الطفل السوري الذي وجدوه مرميًا على الشاطيء ، ميتًا ، بينما كانت عائلته تغادر الأوطان، غرباء يريدون شاطيء اللجوء والأمان إلى أوروبا، عبر تركيا واليونان !!

كان إيلان غريقًا، وحوله تناثرت جثث المهاجرين السوريين الذين غرقوا عندما انقلب بهم الزورق الذي كان يقلهم من “بودروم” إلى جزيرة “كوس” اليونانية، بينما تمدد شقيقه “غالب”، وكان عمره خمس سنوات، مثل عمرك ياريان، وتمددت أمه “ريحانة” غريقة في البحر، مثلما أتمدد حولك ياريان، فليتني مت ياريان، وافتديتك ياولدي بعمري لتعيش لتلعب مع الأطفال كرة القدم التي تحبها دومًا .

“يقول والدك المسكين: ليتني استطعت أن أحميك ياولدي مثلما حاول “محمد الدرة” أن يحتمي بوالده، خلف برميل إسمنتي، بعد وقوعهما وسط محاولات تبادل إطلاق النار بين الجنود “الإسرائيليين” وقوات الأمن الفلسطينية.

 

 

مات ريان والدرة وإيلان

مات ريان والدرة وإيلان، ولحقهما “بشير عمر” الفلسطيني الرضيع المريض، الذي منعته سلطات الإحتلال من مغادرة قطاع غزة لتلقي العلاج اللازم في الخارج.. جاء الحفار لا ليحفر الأرض من حولك، بل ليحفر في قلب والدك والعالم نفق الحزن الرهيب.

 

لقد جففت أمك دموعها، ولبست شالها الأبيض، وتهيأت أنا أبوك واخوتك لنحتضنك، بعد أن دك الحفار الأرض لينتشلك إلى قلب أمك كي تقر عينها ولا تحزن، لكنك كنت تحفر اسمك الخالد عبر سفر الكون والحياة، وتقول للعالم: اتركوا الحزن والحرب، وعلقوا الحب حبلًا يُزيَّنَ أعناقكم، قبل أن تجعلوه مشنقة تطوِّق حياتكم من جديد، دعوا الحب والسلام يغمران العالم، لتطير الحمائم في سلام.

خرج ريان من الجب، ومن البئر، ومن الموت إلى الحياة.. لم يمت ريان، بل ماتت ضمائر العالم من جديد، يضحك ريان، بينما جسده الجريح المُدمى، ودمه النازف، وجسده البريء يطبق على أعناقنا بقوة، فتنهمر قلوبنا بنهر دماء ممتد، ودموع تسقط مع الثلوج والأمطار المنهمرة، بكت السماء معنا، وبكى العالم، وثارت الطبيعة بالزلازل والبراكين والأعاصير، وريان وحده بانت على ملامحه ابتسامة أخيرة، ينظر إلى البئر، ولنا، وهو يبتسم من جديد.

 

 

* الكاتب والناقد المصري

عضو اتحاد كتاب مصر، ورئيس رابطة الأدباء العرب

 

أ.ش

المصدر: الوفاق/ خاص