الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأميركية

لا يستخدم فيرغسون تعبير الدولة العميقة، بشكل مباشر، وإنما يرى أن ذلك الكيان يمتد من أوائل القرن السادس عشر حتى الانتخابات الأميركية عام 2016.

2024-02-12

في مقدمة كتابه “الساحة والبرج: الشبكات والسلطة من الماسونيين الأحرار إلى فيسبوك”، يفتح المؤرخ والأكاديمي البريطاني الجنسية، نيل فيرغسون، مساراً واسعاً للحديث عن فكرة الدولة العميقة حول العالم كافة، ومنذ عصور قديمة، وهي الفكرة التي كثر تناولها لا سيما بعد هزيمة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية، والأحاديث التي جرت حول دور تلك الدولة غير الظاهرة للعيان في إقصائه بعيداً.

 

لا يستخدم فيرغسون تعبير الدولة العميقة، بشكل مباشر، وإنما يرى أن ذلك الكيان يمتد من أوائل القرن السادس عشر حتى الانتخابات الأميركية عام 2016.

 

يتنقل فيرغسون بين شبكة التنظيمات السرية في زمن الإمبراطورية الألمانية، وشبكات الإصلاح والتنوير والمحافل الماسونية والاستكشاف وصعود شبكات المال في أوروبا، حتى يصل إلى الشبكات المالية والاقتصادية الراهنة وشبكات تكنولوجيا المعلومات الجديدة، فيراوح بين شبكات الإرهاب والتخابر البشري والإلكتروني، وأخيراً شبكات الهجوم السيبراني في الصين والولايات المتحدة الأميركية، تلك التي باتت على أهبة الاستعداد للتدخل في صنع صورة العالم بطريقة مغايرة تماماً لما ألفناه.

 

لكن هل ما يتناوله فيرغسون عبر أكثر من ستمائة صفحة من القطع الكبير في كتابه هو مرادف الدولة العميقة، لا في الولايات المتحدة الأميركية فحسب، بل حول العالم؟

 

ربما يتحتم علينا بداية التوقف مع المفهوم الواسع لهذا التعبير.

 

تتعدد التعريفات والتفسيرات لتلك الدولة المجازية، وتبقى الحقيقة بأنها مصالح تحتية مختبئة بين ثنايا النظام المؤسساتي السياسي، يديرها منتفعون لهم شغل شاغل في بقاء أهدافهم بعيدة عن الأعين، وفي الوقت عينه لديهم من القدرة والمنعة، ما يمكنهم من تسخير الحكومة الظاهرة لخدمة وإدراك ما يتطلعون إليه، عبر التواطؤ والمحسوبية، وغالباً تعطي الدولة الأميركية العميقة، المثل الواضح لكل تلك الجماعات حول العالم.

 

هناك أكثر من قراءة لتلك الدولة، واحدة تعود إلى زمن تأسيس الولايات المتحدة، وزمن الآباء المؤسسين، وأخرى معاصرة ترتبط بمجمعات ولوبيات حديثة بزغت في النصف الثاني من القرن العشرين.

 

يتناول البروفيسور جيسون ليندسي، في كتابه “إخفاء الدولة” طبيعة هذه الدولة العميقة، وعنده: “أنه حتى من دون وجود جدول أعمال تآمري، فإن مصطلح الدولة العميقة مفيد لفهم جوانب مؤسسة الأمن القومي في البلدان المتقدمة، مع التركيز على الولايات المتحدة”.

 

على أن ليندسي يفتح الباب واسعاً أمام مصادر تلك الدولة، والتي يعتبر أن مجتمع الأمن القومي، والاستخبارات، وبقية العوالم السرية في الداخل الأميركي، هي مصدر القوة.

 

لعل ما يجري في الداخل الأميركي من تحركات غير ظاهرة للعيان، منها ما أشار إليه، إدوارد سنودن، عميل وكالة الأمن القومي الأميركي NSA تلك الوكالة المغرقة في السرية، يلقي الضوء على الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأميركية.

 

يرى سنودن “إنها حقاً وسيلة للإشارة إلى بيروقراطية الحكومة المهنية، هؤلاء المسؤولون الذين يجلسون في مناصب قوية، ولا يغادرون عندما يغادر الرؤساء والذين يشاهدون الرؤساء يأتون ويذهبون، وهم يؤثرون على الرؤساء”.

 

يكاد ذلك أن يكون كذلك بالفعل، والعهدة على التقرير الصادر في يوليو (تموز) من عام 2017 عن لجنة الأمن الداخلي والاستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي، وفيه: “أن إدارة الرئيس ترامب قد تعرضت لضربات أمنية وطنية بشكل يومي تقريباً، وبمعدل أعلى بكثير من سابقتها”.

 

لعل الذين لهم دالّة على قراءة كتب التاريخ وفهم أبعاده، يتذكرون الرئيس جون كينيدي، الذي رغب بشكل جدي في وقف التصعيد العسكري، وفتح أبواب السلام والتنمية والتعاون أمام العالم، ولهذا ربما كان لا بد له من أن يختفي عن مشهد الحكم.

 

قبيل رحيله عن البيت الأبيض وفي يناير (كانون الثاني) من عام 1961، ألقى الرئيس المنتهية ولايته، الجنرال دوايت أيزنهاور، خطاباً وداعياً متلفزاً من مكتبه الرسمي وبطريقة لا تُنسى. حذر في الخطاب من أن تتحول “الصناعة العسكرية المعقدة” في بلده إلى قوة عنيفة.

 

رأى أيزنهاور من بعيد أن “المؤسسة العسكرية الضخمة” باتت تعمل مع “صناعة أسلحة هائلة”، سعياً وراء “نفوذ لا مبرر له” في “كل مدينة وكل مبنى تشريعي وكل مكتب عائد إلى الحكومة، ما قد يؤدي إلى كارثة تنبع من بروز قوة في غير محلها”.

 

واليوم وبعد نحو ستة عقود من خطاب أيزنهاور تصل ميزانية البنتاغون إلى نحو 770 مليار دولار، وهذا هو الرقم الظاهر، وبالقطع هناك برامج سرية عسكرية أميركية، غالباً لا يعلم الرئيس عنها شيئاً، ما يجعل من هذا المجمع قوة عميقة حقيقية، تدفع في طريق عسكرة الحياة الأميركية، وإزاحة من يتقاطع معها من أنصار رؤساء السلام، الأمر الذي حدث مع الرئيس كارتر في نهاية سبعينيات القرن الماضي.

 

وفي الخلاصة، فإنه على الرغم من أن الكثيرين حول العالم يعتبرون تعبير الدولة العميقة في الداخل الأميركي بنوع خاص، أمراً من قبيل سردية المؤامرة الوهمية، فإن عدة استطلاعات للرأي في الأعوام الأخيرة، جاءت نتيجتها مؤكدة قناعة الأميركيين بحضور الدولة العميقة بقوة في الولايات المتحدة الأميركية.

 

نسيب شمس

المصدر: الخنادق