الخسائر، التي مُني بها “الجيش” الإسرائيلي، متعددة الطبقات والمستويات، سواء كانت تكتيكية أو استراتيجية، داخلياً وخارجياً، فلم يعد هذا “الجيش” في الانتشاء ذاته، الذي كان يتحدث به، ولم يعد قادراً على تغيير أي واقع في المنطقة، في ظل عجزه عن تحقيق انتصار في أي معركة، وبات يفتقر إلى مقومات الصمود والتماسك الذاتيين، واللذين يؤهلانه للتعامل مع المعارك المستقبلية.
فقدَ “جيش” الاحتلال في الحرب الحالية كثيراً من مكامن قوته التي كان يتفاخر وفقاً لها بأنه “الجيش” الذي لا يُهزم، وأنه الأقوى في المنطقة والقادر على هزيمة جميع جيوش الدول المحيطة به في ساعات معدودة، وانعكس ذلك على المستوى الاستراتيجي، فلم يعد “الجيش” قادراً على تحقيق نصر استراتيجي، وحتى قدرته على تحقيق الردع مشكوك فيها بدرجة كبيرة لدى دول الطوق المحيطة به.
ولم يعد “جيش” الاحتلال قادراً على حماية واحة الامن والاقتصاد، كيان الاحتلال، ففي فشله العسكري المتكرر، وخصوصاً في أكتوبر المجيد وما بعده، فقدَ الثقة بنفسه وقدرته العسكرية على الرغم من أنها الأكثر تطوراً وفتكاً. فمفهوم القوة الكبيرة والمتطورة لم يعد فعالاً في مواجهة الحروب غير المتناظرة، بل إن هذه القوة لم تعد قادرة على ردع المقاومة المتنامية في المنطقة. والمتابع يدرك ان “الجيش” الإسرائيلي فقدَ الثقة بنفسه بصورة كبيرة، فمعركة طوفان الأقصى وما بعدها أثبتت له ولكثير من دول العالم أنه لولا الدعم المكثف، أميركياً وغربياً، عسكرياً وسياسياً ولوجستياً، لكان العجز المطلق عنواناً لتحركات الجيش، بالإضافة إلى بروز سيناريو التفكك السريع والخطير.
كثيرون من قادة “الجيش” فقدوا ثقتهم بأنفسهم وتغيرت نظرتهم إلى مستقبلهم العسكري بعد حرب غزة. وعلى رغم شراسة القتال في غزة، فإنهم، في أغلبيتهم، يعتقدون أنه مع نهاية الحرب سيكونون أمام إقالات ومحاكمات على فشلهم داخلياً، ولن يستطيعوا أن يدخلوا الحلبة السياسية بعد نهاية الخدمة، كما فعل قادة “الجيش” السابقون. وعلى المستوى الخارجي، سيكونون ملاحَقين في كل دول العالم بسبب ارتكابهم جرائم إبادة جماعية.
إن الخسائر التي مُني بها “الجيش” الصهيوني في غزة كبيرة، وصلت إلى فقد عشرات آلاف الجنود ما بين قتيل وجريح ومريض نفسياً، في مختلف المستويات، وخصوصاً الضباط، ناهيك عن فقدان معدات كثيرة منها قرابة 1500 آلية عسكرية، بينها أعداد كبيرة من دبابات ميركافا الأكثر تطوراً وتحصيناً في العالم. ولهذا، يمكن القول إن “الجيش” الإسرائيلي فقد جودته العسكرية في وحل غزة.
من ناحية ثانية، فقد “الجيش” الإسرائيلي ثقة الجمهور الإسرائيلي به وبقدرته على توفير الحماية له، فبعد أن كان يتفاخر بأنه ردع جميع أعدائه، وأنه يمتلك منظومات حماية متطورة، من القبة الحديدية ومقلاع داوود، تكشَّفَ أن هذه المنظومات ليست ذات جدوى أو قدرة على الحماية. وبعد السابع من أكتوبر بات كثيرون من مستوطني الكيان يتخوفون من أن سيناريو الحرب المقبلة سيكون مشابهاً، سواء كان في الجبهة الشمالية أو الجنوبية، ناهيك بأن طول أمد الحرب، وعدم قدرة “الجيش” على حسمها وتحقيق أهدافها، بعد أكثر من خمسة أشهر، خفضا الثقة بالجيش من 75% إلى 61% خلال فترة أسبوعين، ومع طول أمد الحرب تتواصل هذه النسبة في الانخفاض.
انعكاسات فقدان ثقة الجمهور الإسرائيلي بالجيش سيكون لها تبعات خطيرة مستقبلاً، فكثيرون من “السكان” سيفكرون في مكان بديل لهم، فالاقتصاد والأمن لن يتحققا في ظل “جيش” غير قادر على توفير الحماية أو استعادة أسراه، ناهيك بإشكاليات التجنيد للجيش، والتي ستعود إلى الظهور بعد خفوت نار الحرب.
وفي الاتجاه الخارجي، خسر “الجيش” كثيراً في ظل حرب الصورة والأخلاق، وبات يوصَم في جميع دول العالم بأنه “جيش “مجرم وغير أخلاقي وأقرب إلى النازية، يرتكب إبادة جماعية بحق المدنيين في قطاع غزة، ويحاكَم في محكمة العدل الدولية على هذه الجريمة. وفي أقل وصف توصف به كيان الاحتلال، بأنها “شعب تعرض للإبادة يمارس الإبادة على شعب آخر”. لهذا، فإن نظر شعوب العالم إليه سلبية، ولن يستطيع جهاز الدعاية الاسرائيلي “الهاسبارا” تغييرها أو الحد منها لأعوام طويلة.
هناك تحدٍّ كبير يواجه “الجيش” مستقبلاً يتمثل بأنه، عبر فعله العسكري وهمجيته وجرائمه غير المسبوقة في الحرب على غزة، صنع جيلاً كاملاً يعاديه ويتجهز لتجاوز هذه القوة وتكسيرها بلا رحمة أو شفقة. وكأنه، عبر هذه الجرائم، أجج النار وأظهر الجمر من تحت الرماد، وكشف للجميع أنه لا يمكن التعايش معه. وهنا فقد “الجيش” قدرته على تحييد أطراف من الفلسطينيين والعرب عن المعركة المستقبلية.
لذا، فأن وضعُ “جيش” الاحتلال بعد الحرب على غزة سيكون في غاية الصعوبة، وسيكون محلاً لاتهامات كبيرة وخطيرة. فعلى عكس الدعم الذي يحصل عليه داخل الكيان وتجنُّد الحكومة والمعارضة معه، ستنزل سياط الاتهام عليه بين الحكومة والمعارضة، وسيحاول الدفاع عن نفسه باتهام المستوى السياسي الذي لن يتركه قبل أن يرد ويزيد ضده الاتهامات.
د.ح