وخطب ابن الخشّاب بأفراد الجيش خطبة بليغة استنهض فيها عزائمهم، واسترهف هممهم بين الصفين، فأبكى الناس وعظم في أعينهم، وهو يقاتل في المقدمة، حتى تحقّق النصر وقُتل في المعركة ما يقارب خمسة عشر ألفاً من الصليبيين، حتى أطلق على ساحة المعركة ساحة الدم لكثرة ما سقط فيها من الصليبيين.
سجّل المؤرخون تلك الواقعة باعتبارها ثمرة لوحدة المسلمين، على اختلاف أعراقهم ومذاهبهم، ولعل ذلك ما جعل كل عدو لهذه الأمة عبر تاريخها الطويل، يأتيها من ثغرة تفتّتها وتمزّقها أشتاتاً، وهو ما نعيشه اليوم في خضمّ المواجهة المستعرة بين الغرب الصليبي الصهيوني والشرق الإسلامي، عبر افتعال صراعات دموية، كان أبرزها الصراع المذهبي، أو هكذا تمّ ترويجه وسط العوام، وكانت سوريا والعراق واليمن ولبنان أبرز ساحاته.
جاءت معركة طوفان الأقصى وما تبعها من حرب الإبادة الإسرائيلية ضد قطاع غزة، لتقرع جرس الأمة، وتستنهض طاقاتها الراكدة خلف استلاب إرادة الأنظمة والأحزاب والتيارات، فما وجدت غزة من يستجيب لصرخاتها عسكرياً، غير حزب الله في لبنان والمقاومة الإسلامية في العراق وأنصار الله في اليمن، وتنحدر ثلاثتها من بيئة شيعية المذهب، فيما تنحدر المقاومة في غزة على اختلاف قواها، من بيئة سنية، وهو ما فكّك كثيراً من تأثيرات الاختلاف المذهبي، فضلاً عن تسعيرها نحو الصراع.
هذا الإسناد اللبناني اليمني العراقي لغزة، وإن لم يتطوّر لحالة حرب مكتملة الأركان، إلا أنه شكّل ضغطاً متصاعداً على الأميركي وربيبته “إسرائيل”، بما جعله يتجاوز حالة الإسناد في شهر الطوفان الأول، نحو شراكة ميدانية، في الشهور اللاحقة، دخل فيها الأميركي والبريطاني للقتال المباشر ضد اليمن والعراق، فيما تتصاعد المواجهة مع لبنان نحو اغتيالات وتعميق مطرد لمدى الجبهات.
إنتماء إسلامي حركي ميّز مختلف الجبهات، بأولوية الصراع على فلسطين، فدفع مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام الأميركية والإسرائيلية، للتحذير من هذا التطوّر المفاجئ، وهو تطوّر تجاوز الانتماءات المذهبية، واعتبار “إسرائيل” عدو الأمة المركزي، ومن خلفها أولوية الاشتباك مع المشاريع الأميركية في المنطقة، وصدارة المصلحة الإسرائيلية في هذه المشاريع. هذا التنوّع المذهبي، مع التوحيد الفكري الإسلامي، شكّل سابقة تاريخية في الصراع مع القوى الغربية، نظراً لكون قوى المقاومة الرئيسة المشتبكة مع الإسرائيلي والأميركي، تتفق جميعها على الانتماء الحركي للإسلام باعتباره عقيدة وشريعة وقيماً ونظام حياة، وليس مجرد هوية إسلامية شعائرية إسمية، تتنازعها الخلفيات الفكرية والأيديولوجية العلمانية والقومية واليسارية، كما حصل في السبعينيات والثمانينيات.
إن قوى المقاومة في وحدة انتمائها الحركي الإسلامي، مع تنوّعها المذهبي، وتعدّد أطرها الحزبية والقُطْرية، مثّلت نموذجاً أولياً ليعمل المقاومون فيما اتفقوا عليه، ويعذروا بعضهم بعضاً فيما اختلفوا فيه، ولعل الخلاف هنا مع وحدة الأولويات وسلّم التحديات، رافعة حقيقية تتجاوز عبرها الأمة منابع هذا الخلاف، خاصة وهي تتفق أن شبابها يمضون شهداء على طريق القدس، خلف ميدان فلسطين المشتعل بالقتال في مواجهة أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا.
استوقف هذا الاتحاد صحيفة “NPR” الأميركية وقد خصّصت مساحة من تقاريرها لرصد تلك الوحدة الإسلامية وخطورتها على السياسة الأميركية لصالح محور المقاومة على حساب قوى التطبيع الموالية للغرب، وهو ما اعتبرته مجلة “فورين أفيرز” تجاوزاً لعتبة الصراعات الطائفية بين السنة والشيعة، وهي الصراعات التي حكمت جيوسياسية المنطقة خلال السنوات السابقة، بحسب هذه المجلة، وهو أمر خطير للغرب، لأنّ التكامل الحالي يتجه بشكل موحّد نحو معاداة واشنطن، في خلاصة تحليل كتبه توبي ماثيسن، المحاضر في جامعة بريستول ومؤلف كتاب “الخليفة والإمام: صناعة السنة والشيعة”، ونشرته هذه المجلة.
وترى المجلة الأميركية أن الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة، أدى إلى إيقاظ جبهة إسلامية تضم الجماهير العربية السُنّية، التي تعارض بأغلبية ساحقة التطبيع العربي، والجماعات الشيعية المسلحة التي تشكّل قلب قوى المقاومة الإيرانية، وهو ما يشكّل بالنسبة للولايات المتحدة وشركائها تحدياً استراتيجياً يتجاوز بكثير مواجهة القوى العراقية وأنصار الله بضربات مستهدفة. ولفتت المجلة أن هذه الوحدة الجديدة تثير أيضاً عقبات كبيرة أمام أية جهود تقودها الولايات المتحدة لفرض اتفاق سلام من أعلى إلى أسفل، يستبعد الإسلاميين الفلسطينيين، وأعادت إلى الأذهان أنه “منذ ما يقرب من قرن من الزمان، كان دعم الفلسطينيين شيئاً اتفق عليه المسلمون السنة والشيعة في جميع أنحاء العالم”، مشيرةً إلى إمامة الشيخ العراقي الشيعي، محمد حسين آل كاشف الغطاء، عام 1931 صلاة الجمعة في المسجد الأقصى في القدس، في مؤتمر عقد لتسليط الضوء على تضامن المسلمين ضد الصهيونية.
وسبق للعقيد الأميركي المتقاعد؛ دوغلاس ماكريغور، وهو مستشار سابق لوزير الدفاع ومحاضر في السياسة الخارجية والأمن، أن حذّر بأن “إسرائيل” باتت تفعل شيئاً لم يحقّقه أحد من قبل، “وهو توحيد السنة والشيعة ضدها”، وقد اعتبر أن هذا الاتحاد يمثل أكبر خطر بما يهدّد بزوالها، وهو ما تعيه، لكنها تغافلت عنه في معرض صدمة السابع من أكتوبر، وهو ما يجب أن يدفع أميركا لحماية “إسرائيل” من نفسها. وهنا يحاول البيت الأبيض حماية “إسرائيل” من نفسها، وفقاً لرؤية غالبية مستشاريه، وقد اتحد أعداؤها، ولكن بيبي نتنياهو؛ رئيس الحكومة، له أولوياته الشخصية والحزبية، وهو هنا يؤكد في تمادي طيشه، وتباينه السياسي مع البيت الأبيض، أنه يدفع تناقضات الشرق الأوسط نحو مفاصل اتحاد، تمسّ مستقبل “إسرائيل”، بما يرشّحه ليكون عاقر الناقة، وقد انبعث أشقاها أمام متلازمة الثمانين سنة الإسرائيلية من سقف عمرها الافتراضي، وقد أزفت ملامح أفولها التاريخية وفق السنن الكونية.
د.ح