من شارع القصر إلى شارع فلسطين

“السفارة الفلسطينية” لأول مرة بهويتها بعد انتصار الثورة الإسلامية

الوفاق: في الساعات الأولى من انتصار الثورة الإسلامية، أغلقت الأمة الثائرة وقادة الثورة مكتب سفارة الكيان الصهيوني وحولته إلى السفارة الفلسطينية، مما يدل على تغير نهج إيران تجاه الصهيونية وسياساتها

2024-02-20

مع انتصار الثورة الإسلامية في شباط/ فبراير 1979م، حدثت تغييرات جوهرية في مكانة إيران في العالم، إذ أضحى ذلك الكيان المؤقت المُسمى “إسرائيل” والذي كان حتى الأمس القريب يعمل مع نظام الشاه لقمع الشعب الإيراني، العدو الأول للأمة الإيرانية، تدهورت علاقته مع  إيران، والأصح القول بأنها انقطعت واتخذت شكلاً جديداً قائماً على الرفض والعداء لهذا العدو الصهيوني المتربص بالأمة وبمقدراتها، فكانت أول سفارة أُغلقت بعد الثورة سفارة الكيان الصهيوني، وأول سفارة أُعيد افتتاحها كانت سفارة فلسطين.

 

فبعد ساعات قليلة فقط من انتصار الثورة الإسلامية، استولى الشعب الإيراني الثائر على السفارة الصهيونية الواقعة في شارع القصر(فلسطين حالياً)، وتم تركيب لافتة بإسم السفارة الفلسطينية على بوابتها. وهذا بحد ذاته كان رمزاً للترتيب الجديد للسياسة الخارجية الإيرانية بعد الثورة تجاه الكيان الصهيوني المحتل.

 

 

بداية علاقة النظام البهلوي البائد مع الوكالة اليهودية

 

 

تعود أيام العلاقة بين الكيان الصهيوني والنظام البهلوي البائد في ايران مع إنشاء الوكالة اليهودية. تلك المؤسسة الصهيونية التي شكل أبرز مهماتها تسريع هجرة اليهود إلى “إسرائيل”.  فمن أجل تحسين العلاقات مع الكيان، أصدرت حكومة بهلوي ترخيصًا لإنشاء مكتب لها في طهران. يقول مير عزري عن خدمة الشاه هذه: «بما أن شاه إيران كان يحب اليهود كثيرًا، لم يمتنع الجيش أو الدولة عن تقديم أي مساعدة للاجئين للوصول إلى أرض “إسرائيل”، فقد كانت إدارة الجوازات والشرطة والجمارك متساهلة في منح الشهادات والتأشيرات والتراخيص لليهود للسفر “.

 

 

تغلغل واسع للصهاينة في أركان الحكومة البهلوية

 

ويمكننا عبر التعرف على شخصية مئير عزري، معرفة عمق نفوذ وتغلغل الكيان الصهيوني في أركان الحكومة البهلوية، فقد كان السفير غير الرسمي للصهاينة في إيران. وفي عام 1953م، بعد الإطاحة بحكومة الدكتور “مصدق” الوطنية في انقلاب أمريكي بريطاني في عهد “محمد رضا شاه”، استؤنفت العلاقات بين إيران والكيان الصهيوني وجاء مئير عزري إلى إيران كأول سفير سياسي للكيان.

 

بقي مئير عزري في إيران لمدة 15 عامًا، وبعد انتهاء فترة عمله بالسفارة، عمل ممثلًا لبنك روتشيلد والعديد من شركات النفط والتجارة في إيران. وذلك في الفترة التي كانت فيها إيران بلداً مستورداً بكل معنى الكلمة، فاستوردت المواشي والدواجن والمنتجات الزراعية والأسلحة، من الكيان الصهيوني في عهد النظام البهلوي البائد.

 

كما كانت شبكة المافيا الإسرائيلية في إيران قوية للغاية لدرجة أن جميع كبار المسؤولين في البلاد يحتاجون إلى دعمها. ففي حفل زفاف ابنة قائد الجيش الإيراني الجنرال غلام رضا أزهري عام 1971، وعند دخول مئير عزري، استقبله الجنرال أزهري بحفاوةٍ بالغة وأجلسه في وسط المجلس وإلى جانب عائلته، مما فاجأ الجميع. ويصف عزري هذا المشهد على النحو التالي: “استغرب قادة الجيش الإيراني والمنتسبون العسكريون لكبرى دول العالم، وخاصةً الأمريكيين هذا التصرف”.

 

أدى نشاط عزري المكثف إلى حصوله على العديد من الأوسمة من الشاه وحكومة الشاه طوال مهمته في إيران، فقد منحه محمد رضا بهلوي أعلى وسام “تاج” (تاج الملك)، ولم يكتف الشاه بذلك ، بل ومن أجل تحسين صورة أنشطة الكيان الصهيوني في نظر المواطنين الإيرانيين، عمد إلى  تضخيم المساعدة الرمزية والدنيا التي يقدمها مئير عزري في بعض الكوارث الطبيعية. على سبيل المثال، قدم وزير الزراعة الإيراني لمئير عزري شارة الأسد والشمس بعد مساعدته لضحايا زلزال قزوين وشيراز.

 

 

دعم غير محدود من قبل الشاه

 

 

يقول  الإمام السيد علي الخامنئي (حفظه الله)، عن وجود الصهاينة في تلك الفترة في إيران : “كانت هذه قاعدة الكيان الصهيوني ومقر قادة نظامهم الذي جاء ليستفيد سياسياً ومالياً. وفي اليوم الذي قررت فيه بعض الدول العربية استخدام النفط ضد “إسرائيل”، طمأن شاه إيران الصهاينة وقال: “سأعطيكم النفط وكان وضع إيران هكذا في تلك الفترة، ولم يكن لدى أحد أي أمل”.

 

وفي جزءٍ آخر من مذكراته، يكشف سفير الكيان الصهيوني في إيران أن رئيس الوزراء هويدا في العهد البهلوي سأله ذات يوم فجأة: ” فيما يتعلق بالقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين إيران والكيان الصهيوني أو أي دولةٍ أخرى أو إبداء الرأي حول الأفراد أو الشخصيات، هل تتبع الطريقة نفسها التي اتبعتها مع السيد أسد الله علم (رئيس الوزراء في تلك الفترة)؟ هل تُعامل كلانا على قدم المساواة من حيث جودة وكمية عملك؟”

 

هويدا الذي يمكن اعتباره أقوى رئيس وزراء في العهد البهلوي والذي تمكن من البقاء في هذا المنصب لمدة 13 عامًا، يقول عند لقائه بعزري واهتمام الملك به: “تشرفت بحضوري ولقائي مع جلالة الملك قبل أسبوع وتذكر رحيلك بكل أسف، وسأل عن سبب خروجك من الجهات الحكومية؟ ومع الكثير من العمل الشاق الذي يقع على عاتق الملك، أتساءل كيف يفكر في مستقبلك ونجاحك، لأنني لا أتذكر سفيرًا أجنبيًا مثلك حصل على هذا العدد الكبير من الأوسمة وشارات الشرف من ملك إيران”.

 

وللشاه تصريح خاص عن مئير عزري، سفير “إسرائيل” في إيران، يوضح أنه كغيره من المسؤولين في حكومته كان يعتمد على السفير الإسرائيلي ويعتبر أن سلطته تعتمد عليه. وبعد موت الشاه، نقل “تيمسار أمير فضلي” كلام الشاه: “لو كان عزري لا يزال في إيران، ربما لم تكن هذه الأحداث لتحدث”.

 

 

الثورة  طردت أنصار الكيان الصهيوني من إيران

 

لقد أحدث قيام الثورة الإسلامية في إيران العديد من التغيرات الجوهرية الداخلية والإقليمية. أحد هذه التغيرات الاستراتيجية هو إخراج إيران من متاهات النفوذ والتدخل الغربي.

 

لقد استفادت أمريكا والغربيون إلى أقصى حد من اعتماد إيران في الفترة البهلوية على النفوذ الصهيوني في هيكلية صنع القرار في إيران. ومن النتائج المهمة لانتصار الثورة الإسلامية عام 1979 انسحاب دولة استراتيجية ومؤثرة تتمتع بقدرات عسكرية وسياسية واجتماعية كبيرة من كتلة مؤيدي الكيان الصهيوني. وهو الحدث الذي فهمته تماماً الشخصيات الشهيرة في ذلك الوقت، من الثوار والمقاومة الفلسطينية. ياسر عرفات بصفته قائد منظمة التحرير الفلسطينية، في الثامن عشر من شهر شباط /فبراير من العام 1978 م، أثناء حضوره طهران كأول ضيف أجنبي للثورة الإسلامية، خاطب الإمام الخميني(قدس) والشعب الإيراني وقال: “هل يُصدق أحد أننا الآن في إيران؟ وهل يُصدق أحد أن الثورة الفلسطينية موجودة الآن في إيران؟ نعم، يمكنهم أن يصدقوا أن حقبة جديدة قد بدأت”. وفي جزء آخر من كلمته قال ياسر عرفات: “إنهم [القادة الإسرائيليون] يقولون حدث زلزال، ونحن نقول حدث انفجار ضوئي، ونقول إن الوقت قد حان لكي تصبح أمتنا ومنطقتنا حرة ومستقلة. هناك مشاكل كثيرة أمامنا، ولكن في الوقت نفسه، نحن متفائلون بالمستقبل”.

 

 

تأثير الصهيونية في الدول الإسلامية خطر جدي ومهم

 

تظهر تجربة إيران في العهد البهلوي البائد أن ما هو أخطر على العالم الإسلامي والعربي من التجارة والعلاقات هو قرب ونفوذ الشخصيات السياسية الصهيونية والأمريكية وتغلغلها في صفوف السلطة وصنع القرار، وما سياسة ومهمة مئير عزري الأولى خلال السنوات التي قضاها في إيران في عهد  النظام البهلوي البائد إلا دليل على ذلك. إن الخطر الكامن الآن في ظل تطبيع علاقات بعض الدول الإسلامية مع الكيان الصهيوني أكبر مما كان عليه في الماضي.

 

وقد تحدث الإمام السيد الخامنئي(حفظه الله) في هذا الصدد:” كم من الناس في الدول العربية قلوبهم دامية من القضايا المرتبطة بالتطبيع مع الكيان الصهيوني ولكنهم لا يستطيعون الاعتراض على الأمر، مثلما كنا في عهد النظام البهلوي البائد عندما كنا ممنوعين من الكلام حول هذه القضية. كانت قلوبنا تنزف في تلك الأيام حين كان النظام البهلوي البائد معترفاً بالكيان الصهيوني، لكننا لم نتمكن من قول أي شيء. في تلك الفترة كنت في لقاء قرآني مع  مجموعة من طلبة الجامعات، وذكرت في هذه الجلسة تفسير الآيات المتعلقة ببني إسرائيل الواردة في أول سورة البقرة. وعند اعتقالي استجوبت عن سبب حديثي عن “إسرائيل” فقالوا: لماذا تحدثت عن “إسرائيل”؟ وكأنه لا يسمح لمن يفسر القرآن قول كلمة واحدة عن بني إسرائيل حتى لا يسيء إلى حليف ذلك النظام الشرير الغادر الذي كانت علاقاته مع “إسرائيل” آنذاك متينة! واليوم في العديد من البلدان الإسلامية، الوضع هو نفسه”.

 

ختاماً، في الساعات الأولى من انتصار الثورة الإسلامية، أغلقت الأمة الثائرة وقادة الثورة مكتب سفارة الكيان الصهيوني وحولته إلى السفارة الفلسطينية، مما يدل على تغير نهج إيران تجاه الصهيونية وسياساتها. الجمهورية الإسلامية الإيرانية تدريجيًا ومع استقرار الأوضاع الداخلية، وضعت كافة مواردها في طريق دعم ومساندة المقاومة الفلسطينية، حتى الآن، ومع مرور عدة عقود، ظهر تأثير الجمهورية الإسلامية  المباشر على القضية الفلسطينية وأصبح أكثر وضوحاً مما كان عليه في الماضي.

 

وهكذا لقد أطاحت الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني (قدس) بمخططات “إسرائيل” وأميركا كلها في المنطقة وغيّرت وجه المنطقة وخلطت الأوراق في منطقة غرب آسيا، وكانت الحاضن الأوّل للمقاومة الفلسطينية على الرّغم من الحرب المفروضة عليها، وكانت المساهم الأوّل في تأسيس المقاومة الإسلامية في لبنان بوجه الكيان الإسرائيلي.

المصدر: الوفاق