يتطرّق كتاب “المثقف الاشتباك” إلى قضية ثقافية وفكرية كانت تُعدّ تقليدية إلى أمدٍ قريب؛ لكن ظهور مفهوم المثقّف المشتبك، وتجسّده في المثقّف والمقاوم الفلسطيني الشهيد باسل الأعرج قبل سنوات، أدّى إلى إحياء هذه القضية في الأوساط الفكرية والثقافية من جديد.
ومن هنا تتأتّى أهمية الكتاب، الذي هو عبارة عن حوار مُطوّل أجراه الأستاذ مراد غريبي في أوائل العام الماضي مع الباحثة في الفكر السياسي والديني، إيمان شمس الدين، وتمّ نشره على حلقات في صحيفة المثقّف. وقد أجابت فيه شمس الدين عن تساؤلات تُشكّل همّاً معرفيّاً لأغلب المهتمّين في الشأن الثقافي، والحاملين لهمّ التغيير والإصلاح (الاشتباك)؛ وبالخصوص في ظلّ الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة، وما كشفته من ازدواجية معايير غربية فجّة، وخيانة كثير ممّن حُسِبوا على جسد الثقافة بحقّ فلسطين؛ بل بحقّ كلّ من اشتبك من المثقّفين مع غزة ومأساتها الإنسانية والحقوقية.
في مقدّمة الكتاب توضح المؤلّفة أن مفهوم الاشتباك وعلاقته بالمثقّف قد لا يكون في دلالاته جديداً، ولكنه مفهوم له بيئته الخاصة التي انطلق منها، وإن أشار إلى دلالات مشتركة متعلقة بوظيفة المثقّف.
وحول نشأة مفهوم المثقّف وتعريفاته المتعددة بين الشرق والغرب، تنقل المؤلّفة قولاً للفيلسوف الأميركي المعاصر، نعوم تشومسكي، وهو المُناهض لسياسة الإدارة الأميركية الخارجية، بأن “المثقّف هو من حَمَلَ الحقيقة في وجه القوّة”، لتربطه بمواقف الكثير من المثقّفين الغربيين والعرب، على خلفيّة الحرب الإسرائيلية الوحشية على غزة في 8 تشرين الأول/ أكتوبر عام 2023، والتي أظهرت حَجْماً من التخاذل، وحَجْماً من الثقافة المُعلّبة وفق إرادة السلطات السياسية وروايتها الرسمية؛ وكلّ من حاول الخروج عن هذه الرواية تمّ تكميمه أو تحجيمه وإلغاؤه تماماً.
وتعتبر بأن فلسطين عوّدتنا أن تكشف الأقنعة؛ ليس أقنعة الأعداء، لأنهم مكشوفون أمام الجميع، ولكن أقنعة كثير من المثقّفين الذين دجّلوا على الناس بدجل المعرفة، لكنهم سقطوا بصخب كبير في اختبار الحرب على غزة. فالمعرفة مهما كانت ساطعة الجمال، ومُغرية في بُعدها العقلي، لكنها تصبح دجلاً وشعوذة حينما يحملها مثقّف مُنبطح للمحتل، أو مُلتوٍ تحت رداء سلطة مُطبّعة، أو مُتعاونة، أو جبانة، خوفاً على منصبه أو موقعه، أو حتى منبره المعرفي، أو خوفاً على نمط حياته المُترف، من أن يصبح مظهراً من مظاهر شَظَف الحياة.
أما مُثقّفو الفتنة والفرقة، فأولئك الذين امتطوا شعارات دينية ومذهبية، والتي ترى فلسطين بنظّاراتهم الضيّقة الغبيّة الإقصائية، وكأنّ الله خلقهم وكسر القالب؛ وهم لا يختلفون كثيراً عن الفكرة الصهيونية اليهودية المرتكزة على فكرة “شعب الله المختار”؛ وهؤلاء أشدّ خطراً على فلسطين من غيرهم، ويتبعهم السذّج البسطاء، وما أكثرهم.
بالمقابل، يجب على المثقّف (المشتبك) أن يُحقّق أوّلاً عدالته النفسيّة التي تخلق لديه حالة الإنصاف حتى للعدوّ بذاته. فحتى تُحقّق العدالة عليك كمثقّف أن تُنصف عدوّك من نفسك، فتُحقّق الإنصاف النفسي أوّلاً لتستطيع تحقيق العدالة في الخارج؛ فالإنصاف عيْن العدل.
أخيراً، تؤكّد المؤلّفة نقطة مهمة، وهي أن المثقّف في كلّ حالاته، وأينما يكون، في أي جغرافيا، لا بدّ له أن يشتبك مع واقعه المعاصر، ومع تاريخه وهويّته، وأن يكون اشتباكه مؤثّراً في تغيير واقعه للأفضل والأكثر عدلاً. فالمثقّف عين المجتمع الساهرة، وهو من أُسُس الفعل المقاوم بكلّ أشكاله، وهو رأس الاشتباك في ميدان المجتمع، عسكرياً، وثقافياً، وفكرياً، واجتماعياً؛ فهو خادم لهذا المجتمع وليس سيّداً عليه؛ وهو جسْر الوصل بين هموم الناس ومؤسسات السلطة؛ لكنه جسْر وصْل لا جسْر وصولي لمصالحه، بل وصْل لمصالح الناس ووضعها على سكّة العدالة والمعرفة الحقّ.
أ.ش