أمية جحا تكتب:

يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنبر الولادة القيصرية

من المواقف الطريفة في أجواء الحرب، أن تجد نازحين في إحدى المدارس، أو المستشفيات الأخرى، يقومون بزيارة أقارب لهم في أماكن نزوح أخرى قريبة.

وثقت رسامة الكاريكاتير الفلسطينية أمية جحا في يومياتها ذات الـ10 أجزاء التي نشرنا أربعة أقسام منها سابقاً، الأوضاع الإنسانية القاسية التي تدور أحداثها خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لا سيما محيط مستشفى الشفاء، الذي وصفته منظمة الصحة العالمية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في تقريرها الدوري بأنه “منطقة موت”.

 

 

الحلقة الخامسة

 

بين يديك عزيزي القارئ الحلقة الخامسة من اليوميات، تروي فيها سيدة فلسطينية من حي النصر، برج زغبر بمدينة غزة، ما شاهدته من أحداث، وقد نزحت إلى مستشفى الشفاء بغزة (حتى آخر تواصل معها قبل اقتحام المستشفى للمرة الثانية يوم 18 مارس/آذار 2024)، وافترشت بلاط المستشفى البارد في انتظار النجاة.

 

 

الاثنين 30 أكتوبر/تشرين الأول 2023

 

مذكرات رسامة نازحة قسريا إلى عنبر الولادة القيصرية أمية جحا كاتبة ورسامة كاريكاتير عاد القصف العميق والقريب على شكل أحزمةٍ ناريةٍ في الثامنة صباحا. اعتاد النازحون هذه الأصوات، مع طول أيام الحرب. ولكنها باتت أكثر شراسةً من ذي قبل، فالهجوم لم يقتصر على الجو فحسب، لا بل أصبح اليوم من البر والبحر أيضا.

 

ما يخيف النازحين هنا، هو جرأة الاحتلال على تعمد القصف العنيف قرب المستشفيات، من أجل ترهيبهم، والإذعان لتهديداتهم المتكررة، بضرورة إخلاء المستشفيات من النازحين، لا بل والمرضى والأطباء أيضا.

 

انضمت سارة اليوم مع أخيها الصغير إلى أقارب لها من النازحين. كان من المفترض في نهاية هذا العام الدراسي، أن تختتم دراسة طب الأسنان، ومن ثم تمارس مهنتها.

 

تضع سارة عصابةً حول رقبتها، ترفع بها يدها اليمنى، يبدو أنها تعرضت لحادث ما، بينما تضع دبلةً ذهبيةً في إصبع يدها اليسرى، مما يشي بكونها مخطوبة. جلست تقرأ القرآن بخشوع، وبصمتٍ عميقٍ، كانت لا تشارك أحدا أحاديثهم.

 

وقلّما تجد ابتسامةً ترتسم على شفتيها. تبيّن لي فيما بعد، أنّها تعرضت وعائلتها لقصف صاروخي، فاستشهدت أمها مع أخواتها الأربع، ولم يتبق إلا هي، التي أصيبت إصابة طفيفة بيدها اليمنى، وتبقى أخوها محمد ووالدهما سالمين. سارة ليست مخطوبة، فالدبلة التي في إصبعها، هي دبلة أمها الشهيدة.

 

سريرٌ متحركٌ مرّ سريعا بين النازحين، الذين أسرعوا بالانزواء بعيدا عن سيره، كان يحمل امرأة أجهضت للتو، بعد تعرض بيتها للقصف، وتعرضها للإصابة. كانت أمها تبكي بكاءً مرا، قالت إنّ ابنتها في شهرها الثامن، وهذا أول حملٍ لها بعد انتظار دام 7 سنوات. أما أم البراء، فهي سيدةٌ في أول العقد الرابع من عمرها، موظفةٌ في وزارة الأوقاف.

 

كانت من أوائل النازحين إلى المستشفى، بعد تهديد بيتها وبيوت بعض جيرانها بالقصف. آثرت أم البراء أن تجعل في مكوثها رسالة دعوةٍ إلى الله أيضا، فتقوم بإعطاء المحاضرات الدينية القصيرة، يتجمع حولها النازحون، ويستمعون لها باهتمام.

 

أم البراء تحمل حسا فكاهيا أيضا، قالت لي: “اليوم يبلغ زمن مكوثي هنا 21 يوما، لو كان تحتي بيضٌ، لكان حولي الآن صيصاني”.. (واستشهد زوج أم البراء لاحقا بعد شهرين من هذا اليوم).

 

من المواقف الطريفة في أجواء الحرب، أن تجد نازحين في إحدى المدارس، أو المستشفيات الأخرى، يقومون بزيارة أقارب لهم في أماكن نزوح أخرى قريبة. جاءت اليوم مجموعة من مدرسة صلاح الدين الإعدادية، لأقارب لهم في مستشفى الشفاء. إنهم يغامرون بسلامة أنفسهم، كي يخرجوا من السجن القسري الذي لا يطاق.

 

سئمتُ المكوث جالسةً على الأرض، بل توجعت من ذلك أشد الوجع، لم أجلس على كرسي منذ أسبوع. آثرت النزول إلى الساحة الخارجية للمستشفى. حتى درجات المصعد، كانت تعج بالنازحين، والأغطية والملابس معلقة على الدربزين. مما يجعل الرائحة لا تُطاق. لا بل حتى المصاعد الكهربية، التي تعطلت عن الحركة، بسبب قطع الاحتلال للكهرباء، تحولت بدورها إلى ملاجئ صغيرة.

 

النازحون في الساحة الخارجية يزدادون، وهامش القدرة على المشي والتنقل، بات أمرا في غاية الصعوبة. الطريف أن عدة حلاقين وجدوا رزقهم في هذا المكان. بضعف الأجر الذي كانوا يتقاضونه قبل الحرب. يقصون شعر الكبار والصغار من الذكور. يلجأ النازحون لذلك، خشية انتشار القمل والصئبان، في ظل ندرة الماء، وصعوبة توفر الحمامات.

 

قطةٌ رماديةٌ بفروٍ غزير، كانت بيد صبي، لفتت انتباهي. تذكرت بألم شديد قطتي المدللة “توتة”، التي بقيت في بيتي الذي تهدم. طلبت منه أن أحملها، فوافق. ربتُّ على شعرها الغزير، بكل الشوق والحنان الذي كنت أعطيه لقطتي، ثم أعدتها إليه، وقلت له: لا تفرِّط بها أبدا.

 

باعة الملابس في داخل المستشفى، يبيعون الملابس الشتوية. هم نازحون أيضا مع بضاعتهم. الجو لا يزال حارا نهارا، وحتى أول المساء، ولكنه يزداد برودةً ما بعد منتصف الليل، وحتى تباشير الصباح. نيران ودخان القصف والتدمير على مدار الساعة، وازدحام النازحين وتكدسهم، زاد الجو حرارة وتلوثاً.

 

أوصتني إحدى السيدات، بشراء منديل لها إن وجدت مع الباعة. النساء في العنبر، يبقين طوال اليوم، ليلا ونهارا، وغطاء الرأس لا يفارق رؤوسهن، مما يزيد شعورهن بالحر والحنق، وقصر البال في تحمل الآخرين، بل وفي تحمل صغارهن.

 

عدتُ للعنبر وأنا أبتسم بمرارةٍ ساخرةٍ من عودتي إلى نفس المكان الذي بتُّ أمقته. اعتقدت النساء أنّي أحمل أخبارا سارّة. ألقيتُ الكيس الذي بيدي إلى السيدة، وقلت ساخرةً:” أنا لا أحمل إلا المنديل”.

 

 

الحلقة السادسة

 

في الحلقة السادسة من اليوميات، تروي سيدة فلسطينية من حي النصر، برج زغبر بمدينة غزة، ما شاهدته من أحداث، وقد نزحت إلى مستشفى الشفاء بغزة حتى آخر تواصل معها قبل اقتحام المستشفى للمرة الثانية يوم 18 مارس/آذار 2024)، وافترشت بلاط المستشفى البارد في انتظار النجاة.

 

 

 

الثلاثاء 31 أكتوبر/تشرين الأول 2023

 

في حوالي الرابعة قبيل أذان الفجر، سمعت جارتي، التي تنام في المربع الذي بقربي، توبخ بصوت يكاد يكون مكتوما، ابنتها التي بالت على الفراش. هي ذاتها بالت أيضا قبل يومين وهي نائمة، ولكن في وضح النهار. يتكرر هذا المشهد عند كثير من الأطفال هنا. أفعال فطرية طبيعية للأطفال في ظروف طبيعية. فما بالكم في ظروف القصف الهمجي، التي جعلت الكبار قبل الصغار، يعانون اضطرابات نفسية عديدة.

 

مأساة الأمهات هنا، في صعوبة توفير الملابس البديلة، وفي الإحراج الناجم عن غسل الفراش المبلل، وكيفية نشره ليجف، وفي صعوبة الاستئثار بالحمام، في ظل حاجة الجميع له، ناهيك عن إمكانية وجود الماء أصلا. فغالبا لا يتوفر الماء إلا بعد عصر كل يوم، ويكون ملحا أجاجا لا يتجاوب معه أي نوع من المنظفات.

 

يغسل النازحون هنا ملابسهم بأيديهم، وباستعمال الصابون، الذي يشترونه من الباعة المتجولين. ينشرونه بداية في الحمامات لسويعات، حتى يتخلص من الماء الزائد فيه، ثم ينشرونه على شبابيك صالة الانتظار الكبيرة، التي تسمح بدخول الهواء المتجدد، وكذلك الشمس خاصة وقت الظهيرة.

 

ما بين الظهيرة والعصر يكون الوضع قاسيا على النازحين الذين يفترشون الصالة الكبيرة المواجهة للشباك الكبير، إذ تبسط الشمس أشعتها اللاهبة لـ3 ساعات تقريبا، ولا يجد النازحون ملاذا من سياط أشعتها اللاهبة، سوى بمواراة أنفسهم خلف الوسائد التي يضعونها بشكل عمودي على ظهورهم، وقلما تجدهم يزاحمون نازحين آخرين في الممرات البعيدة عن الشمس، لأن التكدس الكبير لا يسمح بذلك أصلا.

 

تأخرت العائلات اليوم في تناولها للطعام، والأطفال الجياع صاروا يبكون حتى الماء. آباؤهم ينتظرون منذ الفجر في طوابير الخبز تارة. وفي طوابير الحصول على الماء المفلتر تارة أخرى.

 

عاد الآباء بعد الظهر بالخبز، ولكن من دون الماء، تفاقمت أزمة الماء كثيرا لعدة أسباب، منها ندرة محطات التحلية بسبب انقطاع الكهرباء، مما لا يتيح تشغيل مولدات الفلترة فيها. أو تعرض المحطات للقصف المباشر. ومنها بسبب تدمير الاحتلال لعشرات المساجد التي كانت تتيح للناس الحصول المجاني على الماء المفلتر من الصنابير الخارجية.

 

صار النازحون يغامرون باجتياز مسافات بعيدة عن المستشفى للحصول على الماء. وآخرون يضطرون لشراء عبوات الماء بضعف ثمنها الأصلي وأكثر. يوجد بعض باعة الخضروات القلائل على مشارف بوابة المستشفى، أما الفواكه التي كانت توجد بوفرة قبل الحرب، فتلك رفاهية غير موجودة الآن على الإطلاق.

 

اليوم فقط تمكنت من تناول نصف حبة برتقال، وتمكن زوج أختي من شراء كيلوين من البرتقال. إنه موسم الحمضيات في غزة، ولكن من ذا الذي يجرؤ على قطف ثمار بستانه. وكم من البساتين وآلاف الدونمات الزراعية تم الآن تدميرها.

 

يعتمد النازحون بشكل أساسي على معلبات اللحمة والتونة والمرتديلا، وكذلك جبنة الفيتا، مع بعض حبات الطماطم والخيار إن توفرت. رأيت عائلات تطبخ العدس في طنجرة كبيرة، مما يُطلق العنان لرائحة العدس، كي تتسرب من بين الممرات، هذه الرائحة شبه دائمة في ظهيرة كل يوم.

 

أما في المساء فأغلب الأطفال وكثير من الكبار يتناولون الأندومي، الذي يطبخونه في مطبخ القسم الصغير، ثم يوزعونه فيما يتوفر من أكواب أو صحون بلاستيكية. كما أتاح الازدحام الكبير للنازحين، وعدم وجود فواصل بينهم، في تكوين علاقات تعارف وصداقة.

 

الأمهات مع الأمهات، وكل من الصبايا والأطفال مع أقرانهم، بات للجميع قصصهم الخاصة، وحلقات السهر، التي باتت تشكل في الوقت ذاته إزعاجا للنائمين، خاصة إذا تجمع الأطفال الذين يحلو لهم اللهو والحديث حتى ساعة متأخرة من الليل. كنت في بداية النزوح كثيرة الضجر من ضجيج الأصوات، ولكن ما ذنب الأطفال أن نجعلهم يعيشون الخوف وكتم أصواتهم، حتى بعدما استأصل الاحتلال بيوتهم أو قتل أفرادا من عائلاتهم.

 

هاجر طفلة في الـ11 من عمرها، كانت تعاني فوبيا صوت الصواريخ في بيتها، تقول أمها إنها كانت لا تفارقها، حتى لو اضطرت أمها إلى دخول الحمام لقضاء حاجتها. لم تعد هاجر اليوم تخشى أصوات الصواريخ وهي وسط النازحين، ولا تضع يديها على أذنيها لتلافي سماع أصواتها.

 

في المساء، عادت الأمهات يكنسن الأرض لبسط فرش صغارها. الكل يعرف حدود مساحته الخاصة، ولا يتجاوزها، إلا إن أرادوا الذهاب إلى الحمامات، فيمشون على أطراف أصابعهم، يبحثون بصعوبة عن أي مساحة فارغة من المد البشري، خشية الوقوع على أحد النائمين. الكل يريد النوم بهدوء. الكل يريد نهاية للحرب والنوم في بيوتهم، حتى وإن كانت ركاما.

 

 

الحلقة السابعة

 

في الحلقة السابعة من اليوميات، تروي سيدة فلسطينية من حي النصر، برج زغبر بمدينة غزة، ما شاهدته من أحداث، وقد نزحت إلى مستشفى الشفاء بغزة (حتى آخر تواصل معها قبل اقتحام المستشفى للمرة الثانية يوم الـ18 مارس/آذار 2024)، وافترشت بلاط المستشفى البارد في انتظار النجاة.

 

 

 

الجمعة الثالث من نوفمبر/تشرين الأول

 

كان مساء الجمعة، من أسوأ المساءات التي مرت بالعنبر، إذ وفد عشرات النازحين، من إحدى مدارس مخيم الشاطئ، وكانت قد تعرضت للقصف، ففر نازحوها إلى جهات أخرى، بحثا عن الأمان. فضلا عن تهديد الاحتلال لأهالي المخيم بضرورة إخلائه.

 

ورغم تكدس النازحين في العنبر، فإننا طولبنا باستيعاب النازحين الجدد، مما أثار المشاكل مع الإدارة، والاشتباك اللفظي بين النازحين أنفسهم. لأنه ببساطة لا يوجد بالكاد متسع لأطراف أصابع أقدامنا، لنجتاز أكوام النازحين، من أجل الوصول إلى الحمامات. مما اضطر الجدد في النهاية، إما للبحث عن أماكن أخرى، أو التقوقع في الممرات الضيقة.

 

إدارة المشفى، وفي قرابة الخامسة مساء، وعبر مكبرات الصوت، أعلنت أنه في الساعة الثامنة مساء، ستتوقف الكهرباء تماما في كل العنابر. مما أثار حالة من الهرج والمرج، صار الجميع يبحث عن شواحن الجوالات، وآخرون توجهوا للحمامات لقضاء حاجتهم، وحاجة أطفالهم، وآخرون قاموا بإطعام أطفالهم ما توفر من بقايا الخبز.

 

أما ثائرة، فقد قررت دخول معركة أخرى، ولكن ليس مع نازحين آخرين، بل معركة مع الوقت. إذ قامت بسرعة البرق بعجن كمية قليلة من الطحين لعائلتها، التي لم تتمكن من شراء الخبز طيلة اليوم، ونجحت في خبزها من خلال طنجرة خبز كهربية، خاصة بإحدى العائلات الأخرى، قبل انقطاع الكهرباء. وهكذا فعل العديد من النازحين.

 

ما أقسى أن تشاهد أطفالا آخرين، ينظرون بشهوة لرغيف خبز ساخن، أو كوب من الأندومي في يد أطفال آخرين. أهل غزة كرماء بطبيعتهم، ولكن طبيعة الظرف أصبحت صعبة ومعقدة للغاية، في ظل حرب الإبادة والتجويع التي يشنها الاحتلال على سكان القطاع، فالعائلة الواحدة تستطيع بصعوبة بالغة، توفير الخبز القليل، الذي لا يكفيها أصلا. والعنبر المكدس بعشرات الأطفال، لا يسمح البتة أن تكون كريماً مع أحدهم دون الآخرين.

 

ثمن الخضروات والسلع الأساسية، والمعلبات والأندومي، يرتفع كل يوم، فالحرب والحصار المطبق على القطاع، يحول دون استيراد أي بضائع، فضلاً عن إغلاق الأسواق و”المولات” التي كانت تنتشر بكثرة. كان الباعة المتجولون يصعدون إلى طوابق المشفى يبيعون للنازحين بعض السلع الضرورية، وأغلب الباعة كانوا من الأطفال. مؤسفٌ أن يكون مكانهم ساحات المشافي والشوارع لا المدارس وساحات العلم.

 

أنا اليوم لم أتناول إلا كسرة من الخبز، الذي تم شراؤه قبل يومين، كانت سهلة التفتيت. فالجو حار، مما يجعله عرضة للتعفن. هذا النوع من الخبز كنت أطعمه لدجاجاتي.

 

دهنت كسرة الخبز بقليل من مربى الفراولة، لا لشيء، إلا رغبة في تفادي الحاجة للحمام. الصغار هنا تمردوا على مربى الفراولة وجبنة الفيتا. لقد تناولوا ظهيرة اليوم أرزاً، مطبوخا بمرقة ماجي. كانت وجبة شهية جدا بنظرهم، لم يسألوا عن قطعة لحم، لأنهم يعلمون باستحالة توفرها أصلا.

 

الأسواق والمولات مغلقة تماما. وعشرات المخابز تم قصفها، أو تم تهديدها، ومنها ما نفد به السولار اللازم للأفران الأوتوماتيكية، مما اضطرها للإغلاق. يأتي الرجال لعائلاتهم في العنبر، بعد الثامنة صباحاً.

 

9يأتونهم بالطعام والحاجيات وبعض المشروبات. أحيانا ينامون على فراش أولادهم في العنبر لسويعات، لأنهم يتفادون النوم ليلا في ساحات المشفى، خشية قصف مباغت من طائرات الاحتلال، ولكنهم يجب أن يغادروا العنابر قبيل الثامنة مساء، ثم يعودوا للمبيت في ساحة المشفى الخارجية في العراء.

 

أصوات القصف في ساحة المشفى أقوى وأعمق من صوتها داخل العنابر، هكذا يقول الرجال. لذلك يفتقدون طعم النوم.

 

عندما يأتي الأب أسرته، يتحلق الصغار بسعادة حوله، لأنّهم يعلمون أنه جاء حاملا معه الطعام والشراب وإن قل.

 

كان الطفل الصغير أحمد يرمق هؤلاء الأطفال بحسرةٍ وبؤس. فأبوه الشاب اليافع قد استشهد قبل شهر ونصف، أحمد له أخ وأخت، وسرعان ما ينتفض حاضناً أمه، إذا وجدها تبكي مستذكرة زوجها.

 

قطة صغيرة دخلت العنبر قبيل أذان المغرب، جعلت الأطفال يتجمهرون حولها، كانت تبدو عليها شدة الجوع وربما العطش، كانت تسرع نحو سلات القمامة تشتم روائح ما تبقى من طعام النازحين، كانت تلتقط بلسانها حتى بقايا الأرز.

 

أشرت إلى أختي أن تسكب في صحن صغير من رضّاعة الحليب الخاصة بطفلها، تذمرت بالبداية، فالحليب بات شحيحا أيضا، ثم قبلت رجاء أن يفرج الله الكرب، وتنتهي هذه الحرب.

 

لم تترك القطة الصغيرة نقطة حليب في الصحن، ثم قذف أحمد ابن الشهيد بقطعة من رغيف الخبز الصغير الخاص به إليها، فأخذت تأكلها بنهَم شديد، فيما كان الصغار يتحلقون حولها ويحملقون بحركاتها وسكناتها.

 

أطفئت الأنوار تماما في المشفى، قبل الثامنة بربع ساعة. ساد صمتٌ لحظيٌ مفاجئ تلاه تصفيق وتصفير الصغار. ما أقسى لحظات فرح الأطفال في ظرفٍ يستدعي البكاء..

 

أسندت رأسي تجاه الشباك الفسيح، المطل على السماء، وفي الأفق أمامي عشرات الفوانيس المضيئة، التي تنذر بليلة ساخنة جديدة، وفي الخلفية عشرات الأصوات المتداخلة من بكاء أطفال، وأحاديث متبادلة، ومن مشادات كلامية. أغمضتُ عيني رغماً عني، راجية الخروج من هذا الكابوس الطويل..

 

 

الحلقة الثامنة

 

في الحلقة الثامنة من اليوميات، تروي سيدة فلسطينية من حي النصر، برج زغبر بمدينة غزة، ما شاهدته من أحداث، وقد نزحت إلى مستشفى الشفاء بغزة (حتى آخر تواصل معها قبل اقتحام المستشفى للمرة الثانية يوم 18 مارس/آذار 2024)، وافترشت بلاط المستشفى البارد في انتظار النجاة.

 

 

 

الأحد الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني 2023

 

صبيحة يوم الأحد، قررت تناول التمر والماء فقط، حتى انتهاء الحرب، لـ3 أسباب: أولها شح الخبز، وثانيها لتقليل الحاجة لحمامات المشفى، وثالثها لأغتنم الفرصة في تقليل وزني.

 

أغلب النازحين لم يتناولوا أي طعام اليوم، بسبب عدم وجود الخبز، وقيام الاحتلال بقصف أغلب المخابز القريبة من المشفى، وحتى البعيدة عنه، ومنها ما تم تهديد أصحابها، فآثروا الإغلاق بدلا من خسارة مخابزهم وحياتهم.

 

قام كثير من النازحين بشراء البسكويت الرديء المتوفر، بديلا عن الخبز لسد رمق أطفالهم الجوعى. إحدى الأمهات ضربت بعنف طفلها، لأنه تمرد على هذا الطعام. نام الولد بعدما بكى طويلا. أيقظته أمه، بعدما دبرت له رغيفا صغيرا من نازحين آخرين محشوا بشوكولاتة النوتيلا، كان سعيدا جدا وهو يأكله بنهم. إنه قلب الأم العامر بالحنان، حتى وإن قسا لحظات.

 

ماهر ورؤى وطه، أطفال جارتي التي تنام يميني، ينتظرون أباهم منذ الصباح، ليحضر لهم طعاما. امتد الانتظار حتى العصر. عاد أبوهم يحمل كرتونة صغيرة من التمر فقط. هذا ما استطاع توفيره، ليكون بديلا عن الخبز. أكلوا بصمت، ولم يظهروا تذمرهم، إلا بعد أن غادر أبوهم.

 

لقد اعتدت أن أتجه برأسي نحو هؤلاء الأطفال عند النوم، وانقطاع الكهرباء. كانوا لا يخشون صوت القصف. كنت أستمع لحديثهم الشائق عن بيتهم، وغرفة نومهم، وألعابهم، ومزروعات حديقتهم، ومدرستهم ومعلميهم وأصدقائهم وهواياتهم. ماهر في الصف الثالث الأساسي، متفوق في دراسته، وتبدو عليه علامات الذكاء الحاد، كنت أحب حديثه الأكبر من عمره.

 

ماهر يتمنى أن يصبح طبيبا عندما يكبر، حتى يعالج كل الجرحى، الذين يستهدفهم الاحتلال. قلت له إنني سآتي لعيادته إن مرضت. أجابني: “ستكونين عجوزا حينها، ولن آخذ منك أجرا”. كنت بدوري أحدثهم عن بيتي وعملي وابنتي، وأريهم بعض الصور في جهاز الٱيباد الخاص بي.

 

كانوا سعداء جدا، وهم يرون عشرات الصور الشخصية المحفوظة فيه. تقوم أم ماهر بجعل أولادها متجاورين في نومهم. لم تكن تملك سوى غطاءين: واحد تضعه على البلاط ليناموا فوقه، والآخر تغطي به أولادها، وتبقى هي دون غطاء طوال الليل البارد.

 

إنه قلب الأم العامر بالتضحية والإيثار. قبيل المغرب، تأتي أم حسن يوميا للمبيت في المشفى، بينما تقضى ساعات النهار كله تقريبا في بيتها القريب من المشفى، تتفقد بيتها، وتنجز أعمالها اليومية، وتجهز طعامها الذي تأتي به لأحفادها النازحين في المشفى. أم حسن لها حيز معروف وسط النازحين في العنبر.

 

كانت دائمة الابتسامة، وصمتها وهدوؤها يغلب على حديثها مع من حولها. النازحون القريبون في سكناهم من المشفى، يفعلون مثل أم حسن. هم يعتقدون أن المشفى هو الأكثر أمانا في الليل، لأنه لا يمكن أن يتعرض للقصف، الذي يصيب البيوت بشكل دائم.

 

في هذا المساء، جاءت أم حسن برفقة سيدة أخرى في منتصف الثلاثينيات من عمرها تقريبا، وعلى غير عادتها، كانت أم حسن حزينة جدا، وهي تسند على كتفها السيدة التي معها، والتي كانت واجمة الوجه، و كلتا يديها ترتجفان، بينما تحتفظ عيناها بدموع مشلولة، تقف على أعتاب مقلتيها، لا حراك فيها.

 

كانت نظرات الفضول تتجه إليهما، الكل يريد أن يعرف سر الوافدة الحزينة. بدأ قصف عنيف بعد هذا المشهد، لمنطقة أنصار ومخيم الشاطئ، بدءا من الساعة 06:30 مساء، إلى ما بعد منتصف الليل.

 

تنوع القصف ما بين أحزمة نارية، وقصف عشوائي يضرب في كل مكان، مما أثار حالة من الذعر الشديد بين النازحين، فكان اللجوء للدعاء هو الوسيلة الوحيدة، لبث الطمأنينة في القلوب التي انفطرت ألما بين تهجيرها من بيوتها، وملاحقة الصواريخ لها، حتى في أماكن نزوحها.

 

العجيب أن الكل كان يرتجف مع صوت كل قصف، إلا تلك السيدة التي جاءت رفقة أم حسن، لم تتأثر مطلقا، بل كانت تنظر فيمن حولها بكل ذهول. وكأنها اعتادت هذه الأصوات قبل الجميع.

 

والأعجب من ذلك أن كل النازحين ناموا بعد انتهاء جولة القصف العنيفة، إلا هي. لقد بقيت ملتصقة بأم حسن، شاخصة البصر حتى أذان الفجر. إذ قامت رفقة أم حسن، وصلّت معها، ثم جلست من جديد، تتمتم بشفتيها في صمت.

 

تبين لي فيما بعد أنها أخت أم حسن الصغرى، قصف الاحتلال بيتها، بعد عصر أمس السبت في حي النصر، وخرجت بفضل الله سالمة من تحت الردم، بينما استشهد أبناؤها الثلاثة، بنتان وولد، أكبرهم بنت في السنة الجامعية الأولى.

 

الأبناء الثلاثة ما زالوا تحت الأنقاض. الأب لا يعلم ماذا حدث لأسرته، إذ كان يعمل داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، ولم تتسن له العودة، بسبب إغلاق الاحتلال المعابر، عقب إعلانه الحرب على القطاع.

 

عرفت حينها لماذا لم يغمض جفن لهذه الأم المكلومة طيلة الليل. إنه قلب الأم الذي لا ينام، إن مس فلذة الكبد أذى. فكيف وقد تفتت فلذات الكبد، ودُفنت تحت ركام بيتها بغير وداع. أم حسن ذاتها فقدت الاتصال منذ 10 أيام مع أصغر أبنائها، وهو متزوج منذ عام، وله طفل. ابنها مواطن عادي لا ينتمي لأي فصيل مقاوم. خرج من البيت ولم يعد.

 

تقول لي وهي تبتسم ابتسامة الرضا: “إن كان قد قُتل، أرجو أن يتقبله الله شهيدا، ويكون لنا شفيعا، وإن كان غائبا، أسأل الله أن يرده إلينا سالما غانما”، وتتابع ” في كلتا الحالتين أنا راضية بقضاء الله وقدره”.

 

إنه قلب الأم العامر بالإيمان، استشهد كثيرون في الشوارع، من دون أن تُعرف أسماؤهم، ولا يستطيع ذووهم الوصول إليهم. كثير من شواهد القبور المؤقتة، كان يُكتب عليها عبارة “مجهول الهوية”.

 

اكتوت قلوب الأمهات النازحات في هذه الحرب، فمنهن من فقدت بيتها، ومنهن من فقدت بعضا من أولادها، ومنهن من فقدت زوجها، ومنهن من تفرق أولادها بين شمال وجنوب القطاع. أمُ صديقتي نزحت بما تبقى من أولادها وأحفادها إلى إحدى مدارس اللاجئين، في حين دُفن من استُشهد من أولادها وأحفادها في الساحة الخلفية الخارجية للمدرسة.

 

تقول صديقتي إن أمها لا تغادر شباك الصف الذي نزحت فيه، وهي تطل على المقبرة التي تحوي رُفاتهم، وتبكيهم ليل نهار، بينما تردد بصوت حزين أغاني التراث التي تنعى فراق الأحباب.

 

أ.ش

المصدر: الوفاق/ وكالات