الوفاق خاص/ د. عبیر شمص
تصادف في مثل هذه الأيام الذكرى السنوية الثامنة والعشرون لرسالة مفجّر الثورة الإسلامية الإمام الخميني (قدس) إلى رئيس المجلس الأعلى لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية “ميخائيل غورباتشوف” آخر زعيم للإتحاد السوفياتي، التي جاءت في أعقاب انتهاء الحرب الصدامية المفروضة على إيران الإسلامية، وحملت دعوة إليه ، للتخلي عن العقيدة الشيوعية، والتفكير في قضية وجود الله عز وجل، وعلى التعرف إلى النظام الإسلامي الذي يحمل الحلول للمشاكل البشرية كافة، ومبينا له خطورة الانجرار إلى النظم الرأسمالية التي تعاني هي الأخرى من مشاكل لا تقل خطورة عما يعاني منه النظام الاشتراكي نفسه. وتجدر الإشارة إلى ان غورباتشوف نفسه أعلن ندمه لعدم تنفيذ وصية الإمام الخميني(قدس) معلناً لأحد الصحفيين بعد حوالي 12 عاماً من رسالة الامام الراحل “إني أتأسف لعدم تفهمي لتلك الرسالة آنذاك كي لا يقع الاتحاد السوفيتي في هذا الوضع”.
في الذكرى السنوية لهذه المناسبة أجرت جريدة الوفاق قراءة تاريخية للرسالة عبر الحوار مع سفير إيران السابق في الاتحاد السوفياتي السابق والذي كان ضمن الوفد الذي أرسله الإمام الخميني(قدس)إلى موسكو للقاء غورباتشوف بتاريخ 3 كانون الثاني 1989م ، وكان هذا الحوار:
ماالذي دفع الإمام الخميني(قدس) لتوجيه رسالة إلى رئيس الإتحاد اسوفياتي السابق غورباتشوف؟ و ما هو محتوى الرسالة؟
ج: في العالم ثنائي القطب آنذاك، كان الاتحاد السوفياتي أحدى القوتين العظيمتين في العالم، لكنه عانى من تخلف وأزمة داخلية عميقة، وسعى زعيم البلاد غورباتشوف بصفته مصلحاً لإجراء إصلاحات وإنقاذ البلاد مما هي كانت فيه. وقد بيّن غورباتشوف أنه جاد في هذا المسار، لكن الأمور أصبحت غامضة ومُربكة بالنسبة له.
من جهته سعى الإمام الخميني الراحل (قدس) عبر رسالته بمضمونها السياسي والعقائدي تحذير الرئيس السوفياتي غورباتشوف من الإنحراف مشيراً إلى المسار الصحيح الذي عليه اتخاذه.
رسالة الإمام الخميني كان لها فحوى سياسي وايديولوجي ، ففي الجانب السياسي حذر غورباتشوف من مغبة الثقة بالغرب وأن لايعتمد على العلاقات مع الغرب ولا على مساعداته ، مؤكداً على أن هذا الغرب يظهر نفسه كصديق الإتحاد السوفياتي الوفي لكنه في ساحة الفعل والواقع لن يتعاون ويتعاضد مع الاتحاد السوفياتي .
في الجانب الايديولوجي، صرّح الإمام بادئ الأمر بأنه يراقب عن كثب وبدقة الإجراءات التي يتخذها غورباتشوف وتبين له أن هذا الأخير لا ايمان له بالشيوعية ، فطلب منه أن يضع نهاية رسمية وعلنية للشيوعية في الاتحاد السوفياتي.
وقد بّين الإمام الراحل بالتفصيل إن التوجه إلى المادية ومجابهة المعتقدات الوحيانية والإيمان بالله، هي معضلة كبرى للاتحاد السوفياتي، موكداّ على ضرورة تحرك ذلك البلد باتجاه المعتقد الروحي والايمان بالباري تعالى. ولذا اقترح مطالعة كتب ومؤلفات الفارابي وابن سينا والسهروردي وصدر المتآلهين ومحي الدين ابن عربي.
من هم الذين أوصلوا الرسالة إلى غورباتشوف؟ ولماذا تمّ إختيارهم من قبل الإمام الراحل(قدس)؟
ج:قام الإمام الراحل بنفسه باختيار شخصين ضمن الوفد، أي آية الله جوادي آملي والسيدة مرضية دباغ، أمّا أنا فقد شاركت بصفتي سفير إيران لدى الإتحاد السوفياتي السابق والسيد جواد لاريجاني بصفته مساعد شؤون أوروبا وأمريكا في وزارة الخارجية، لنكون وفداً من أربعة أعضاء.
تجدر الإشارة إلى ان الإمام ، ولكون فحوى رسالته مفصلة وذات أهمية عالية فلسفياً وعقائدياً ، اختار آية الله جوادي آملي ليقدم ويعرض هذه الرسالة. كما اختار الإمام الراحل السيدة دباغ عضواً في الوفد ليبين أن الإسلام يولي أهمية واحتراما استثنائيا للمرأة، وعلى الجمهورية الإسلامية بدورها أن تولي هذا الاحترام والدور الرفيع للنسوة.
ماالذي حدث في الإجتماع مع غورباتشوف؟ كيف كانت معاملته معكم كأعضاء الوفد؟
ج: قبل اللقاء مع غورباتشوف، ونظراً لتأكيد الإمام الراحل على ضرورة تخلي الرئيس الروسي عن الشيوعية والتوجه نحو الإسلام، تصور الوفد أن غورباتشوف ستُثار حفيظته وسيتعامل بحدة مع رسالة الإمام لكنني كنت مخالفاً لهذا التصور وتكهنت بأنه سيتعاطى باحترام، وكان الأمر كذلك. علماً أن غورباتشوف بيّن أنه تفاجأ للغاية من محتويات الرسالة ولم يكن يتوقعها. وكان يوجه أنظاره تارةً إلى يساره حيث جلس رئيس لجنة العلاقات الخارجية للحزب الشيوعي ، وتارةً إلى يمينه حيث كان وكيل وزارة الخارجية الروسية. وقام بإغلاق ملف موضوع على الطاولة أمامه، وقد دلت نظراته على أن ما من أحد من أعضاء حكومته توقع مثل هذه الرسالة. لكنه قال في نهاية الأمر إن الرسالة مفهومة تماماً وهي جديدة عليه ويتوجب مطالعتها وسيرسل في المستقبل في فرصة سانحة وزير خارجيته لمقابلة الإمام ويطلعه على الجواب.
كيف تعاطى الإتحاد السوفياتي مع الرسالة ؟
ج: لم ينشر الروس نص الرسالة ، بل اكتفوا بالتأكيد على مجملها وأعربوا عن الأمل في إحلال علاقات حسن الجوار بين البلدين. لكننا قمنا بنشر هذه الرسالة في إيران، والتي قام الروس بحذف أجزاء منها في الاتحاد السوفياتي، وبهذا لم يطلع عليها عامة الناس والمسلمين في ذلك البلد. لكن السفارة بذلت الجهود لنشرها وتناقلتها الأفواه ، وبعد ستة أشهر وإثر رحيل الإمام، قمنا بفتح كتاب لتقديم التعازي ، وكان المطر في ذلك اليوم ينزل بغزارة، جاءت شابة روسية مبللة تماماً بمياه الأمطار، إلى السفارة ورمت بنفسها على الأرض مقابل صورة الإمام الراحل وقالت والدموع تنهمر من عينيها إن الإمام الخميني الراحل رجل عظيم الشأن في عالمنا والذي تحلى بالشجاعة داعياً زعمائنا الشيوعيين للإيمان بالله، في حين لم يتجرأ قادتنا المسيحيون على مثل هذا.
س: تحقق ما قال الإمام الخميني لغورباتشوف وإنهارالإتحاد السوفياتي بعد مضي سنوات قليلة من توجيه الرسالة التحذيرية لغورباتشوف. برأيكم ما هو العامل الرئيسي لانهيار الاتحاد السوفياتي؟
ج: ارتكب غورباتشوف خطأ استراتجياً، وتوجه إلى ممارسة السياسة الخارجية والمباحثات وإزالة التوتر مع أمريكا والغرب. من جانبهم مارس الإصلاحيون الضغوظ المتواصلة وكانوا يذكّرون الرئيس دائما بأن الخطوات التي اتخذها غورباتشوف نحو الغرب وإزالة التوتر غير كافية ويتوجب اتخاذ خطوات أكبر . لك نعندما يواجه بلد استياءً وأزمة داخلية فالحل لن يكون في الخارج، وحينما تبرز الأزمة الداخلية فإن ضغوط الإصلاحيين على الحكومة لتتجه نحو الخارج عن سفاهة وخيانة بحق البلاد، أي بعبارة أخرى كان الإسصلاحيون يقولون : امنح الإمتيازات للخارج لكي تتغلب على المشاكل الداخلية. هذا في حين أن الأزمة الداخلية تُحل بإعطاء الامتيازات للشعب في الداخل والتوجه يجب أن يكون للداخل للحل، وليس التوجه وإعطاء الامتيازات للأجنبي! زمن وجهة النظر الوطنية، حتى عند بروز أزمات داخلية فإن التغلب على المشاكل في الخارج يجب أن يبدأ بحل المشاكل والأزمة الداخلية اعتماداً واتكالاً على الشعب ونيل ثقته.
فأمريكا سعت لسنوات عديدة أملاً بانهيار الاتحاد السوفياتي، فكيف يمكن توقع تقديمهم المساعدة لك وإنقاذك من الانهيار والتفكك. فكما ذكّر الإمام في رسالته إلى غورباتشوف، الغرب يمني بالأمل لكنه لا يقدم العون في ساحة العمل. وجاء الأمريكان إلى طاولة المباحثات واستغلوا الفرصة وحصلوا على امتيازات، لكنهم لم يقدموا ولا حتى أقل ما يمكن من المساعدة ولم يقدموا حتى أقل مقدار من القرض، بل رفضوا طلباً بذلك من غورباتشوف.
من جهةٍ أخرى اعتقد المحافظين والمتعصبين الإيديولوجيين قاموا بقمع الناس وإنقلاب حتى لايحدث أيّ شكل من أشكال التحول والتعديل البنيوي لمصلحة الشعب أوالتعاطف معهم من قبل غورباتشوف والذي يؤدي إلى سلسلة تحولات كقطع الدومينو، مؤدياً إلى إنهيار النظام.هذا في حين أن العكس هو الصحيح، إذ ان عدم احلال التحول الأساسي وفي الوقت المناسب لصالح الشعب جعل الجماهير كالسيل العرم للقضاء على النظام بسرعة. كان المحافظين والدوغماتيين المتعصبين تمردوا وأقدموا على قمع الناس، منعاً منهم لأي تحول من قبل غورباتشوف.
من ناحيةً أخرى، فإن الإصلاحيين الذين اعتبروا خطوات غورباتشوف والتحولات التي قام بها غير كافية، عملوا على جلب أبناء الشعب إلى الشوارع وأقدموا بداية على انهاء التمرد ثم اسقطوا غورباتشوف وأسقطوا الاتحاد السوفياتي ونصبوا يلتسين حاكماً في روسيا المستقلة.
يُذكر أن يلتسين أبدى كل أشكال الميل نحو أمريكا والغرب، إلى حد انتشرت إشاعة بأن واشنطن تتدخل في شؤون روسيا إلى حدّ عينت “كوزيروف” وزيراً لخارجية لها، لكن أمريكا والغرب لم يقدموا أي عون ومساعدة فوصل الفقر والفاقة إلى الأوج وخلال عقد من الزمن في روسيا، وعملت أمريكا على فصل جنوب البلاد وعلى انهيار روسيا الضعيفة تماماً . لكن بالنهاية استيقظ الشعب الروسي واستقال يلتسين من منصبه بعد تقديمه الاعتذار وإعرابه عن الندم لما جرى.
كما ذكرت آنفاً كانت هناك عوامل عديدة أدت لانهيار الاتحاد السوفياتي، لكن العامل الأساسي هم المحافظون المتعصبون الذين لم تسمح ايديولوجيتهم المتعصبة بإحداث تحولات واسعة وفي الوقت المناسب وإصلاحات بنيوية جدية، وأقدموا على قمع الشعب ما أدى إلى التوجه الناس بأعداد هائلة إلى الشوارع وبالتالي إلى التداعي التام للنظام. علمنا أن هذه التحولات والاصلاحات البنيوية أجرتها الصين الشيوعية، لتضحى وحزبها الشيوعي الآن إحدى القوتين العظميتين الدوليتين، في حين ذهب الإتحاد السوفياتي وحزبه الشيوعي أدراج الرياح.