ما الأساطير؟ جمعُ حكايات نبتت في أرض خيال خصب، أبطالها أهل قوى خارقة، أحداثها تتجاوز حدود الزمان، فيها اجتماع القيم والحكمة والقوّة، وخواتيمها بوابات عبور إلى ما بعد الموت، يحكيها الناس، يمدحون ربّما خيالَ مؤلّفها، وقلوبهم تقول، لكنّ الواقع غير ذلك.
ما “عهد العشرة”؟ حقيقة تحاكي الأساطير، ولدت من رحم قلوب حارّة، خصبة، سخيّة، أبطالها أهل طهر وحبّ، أحداثها تطوي الزمان وتعيد تشكيل مساراته وتجعله مسرى للنور إلى روح الإنسان، وفطرة المقاومة. حكاية القيم والحبّ والأخلاق والأنس ونصرة الحقّ والدفاع عن المستضعفين في الأرض، وخواتيمها استشهاد وعزّة، ويحكيها الناس، وإن لم يروا وجوه صانعيها إلا بعد عبورهم وإزاحة اللثام عن أسمائهم الخفية ووجوههم السريّة. يحكيها الناس وقلوبهم عرفت الحكاية بالأثر قبل مسامعهم.
هم عشرة فتية آمنوا بربّهم، وما خافوا في الحقّ لومة لائم. في عينيْ كلّ منهم توقدت شعلة العزّة، في روح كلّ منهم فطرة أبت الخضوع لمنطق “لا تقاوم العين المخرز”، وفي عقل كلّ منهم فيض وعي يدرك أن طريق المقاومة وإن طال وكثرت فيه الصعاب موصل.
في مسجد الأوزاعي تواعدوا، وتعاهدوا، وتواصوا بالقتال وبجعل العمر قربانًا على مذابح الكرامة والحرية في سبيل الله. كانوا عشرة: سمير مطوط، أحمد شمص، محمد نعمة يوسف، حسن شكر، محمد حسونة، عاصي زين الدين، محمود يوسف، أسعد برو، جعفر المولى، فؤاد شكر.
تسعة منهم قضوا نحبهم مخضّبين بدمهم على أرض القتال، انتصروا به على سيف العدا وعبروا إلى السما شهداء، وعاشرهم انتظر.. انتظر حتّى أذن له ربّه أن آن أن تستريح. عبر فؤاد ملتحقًا بمن سبقه، مطمئنًا إلى العهد بعد أن نما وصار عهدًا يتواصى به جيشٌ من رجال الله. واكتملت صور العشرة على كلّ صفحة كتبت عن عهدهم ولم تملك إلا ذكر التسعة الأولين، والعاشر في الخفاء وجهه واسمه، يواصل الدرب حافظًا للعهد وشاهدًا على حضور الله في صناعة كلّ نصر، وفي حياكة كلّ راية وكل عصبة، وفي الوصول إلى آخر الوفاء بالعهد: إزالة “إسرائيل” من الوجود.
يوم أمس، سار بحر من الناس في تشييع فؤاد العهد، السيد محسن. بحر دموع يحاكي بحرًا شهد ذات غربة الثمانينيات على فتية عشرة، نظروا من على شاطئه إلى السماء وقالوا سنصل. الحزن الثوريّ لفّ الوجوه المشيّعة، فالذي في النعش سيّد عرفوه وما عرفوه، عاش بينهم قائدًا يضع وينفّذ خطط الحبّ حربًا على أهل الضلال والباطل. مشوا خلف النعش يضجون بالنداء وبالهتاف أن نَم قرير العين يا فؤادنا الذي عاش شهيدًا واستحقّ رتبة العبور مستشهدًا معزّزًا مكرّمًا. هل كان يمكن أن يتصوّر عاقل أصلًا أن العاشر الحيّ المنتظر لن يمضي شهيدًا؟!
ما الأساطير في بلادنا؟ حقائق من صنع المقاومة، حكايات جرت أحداثها أمام عيون الناس الشاخصة أبدًا في وجوه رجال الله. شخصياتها صنّاعها، وأثرها المتراكم جيلًا بعد جيل: اجتماع القيم والحكمة والقوّة، والخاتمة: دم كربلائي ينتصر على السيف، ويزيل، يقينًا يزيل، “إسرائيل من الوجود”.
ما “عهد العشرة”؟ عهد تواصل حتّى صار العشرة ألوفًا مؤلفة، أعدّت العدّة، وقاتلت. يحكي الناس حكاياتها ومآثرها بالدمع العزيز الحار والمعتزّ. عهد أعار أهله جماجمهم لله، وبذلوا في دروب الحق دمهم والرّوح، وصاروا الأسطورة التي تغني الناس عن حكايا الخيال، صاروا الأسطورة التي صنعها الله بأيدي رجاله.