في خطابه الأخير، قال الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، إن اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في طهران، “مس شرف إيران”، وليس سيادتها فقط، مشدداً على أنه يتباين عن قصف القنصلية الإيرانية في دمشق، في نيسان/أبريل الماضي. وأوضح أن اغتيال هنية في طهران يؤكد “غباء العدو الذي تصور أن إيران سوف تسكت عما جرى”، مؤكداً أن المسؤولين الإيرانيين يرون أنه “تمّ المسّ بسيادتهم وهيبتهم وأمنهم القومي وشرفهم”.
فعلياً، كان ثيوسيديدس محقاً في كتابه ” تاريخ الحروب البيلوبونيزية” بشأن الحروب التي نشبت بين أثينا وأسبارطة، حين قال إن القوى المحركة للعلاقات الدولية وللحروب هي الخوف، والمصلحة، والشرف.
وعلى الرغم من أن دراسات العلاقات الدولية عادت وابتعدت عن مفهوم الشرف، وركّزت بصورة كبيرة على مفاهيم المصلحة القومية والخوف وتوازن القوى، فإن مفهوم “الشرف” وقدرته على تحفيز الدول على الانخراط في الحروب، أو السعي لتغيير موازين القوى، أو التراجع عن مفاوضات، أو غير ذلك، ما زال موجوداً، بقوة.
منذ القِدَم، سعى مفكرون، مثل نيكولو مكيافيلي وتوماس هوبس، لإخضاع المجتمع المحلي وفضائله الاجتماعية لأهداف الدولة. ربط مكيافيلي الشرف مباشرة بالأمير وأنشطته التوسعية. كان واحداً من أوائل المفكرين الذين ربطوا الشرف بمجد الفتوحات الخارجية، وجادل في أننا نحب المجد ونسعى للحكم أو تجنب الاضطهاد. أما هوبس فربط النظام السياسي بالدولة فقط، ونظر إلى الشرف والكبرياء و”العواطف الاجتماعية” على أنها قوى تدمير.
ومع تطور الفكر الواقعي بتأثير المفكرين الأنغلوسكسونيين، باتت المصالح، التي يُنظر إليها بطريقة عقلانية حسابية، أي “الربح والأكلاف”، هي المعيار لسلوك الدول الخارجي، بالإضافة إلى القوة التي عدّ الواقعيون أنها الأساس والمحفز على كل ما تقوم به الدول.
وذهبت الواقعية البنيوية أو الواقعية الجديدة إلى أبعد من ذلك في إنكار أهمية القواعد الأخلاقية والشرف في العلاقات الدولية. فمن خلال الإعلان أن بنية النظام الدولي “الفوضوي” هي العامل الحاسم الرئيس في تحديد سلوك الدولة، عزز الواقعيون الجدد حجة الواقعيين الكلاسيكيين القائلة إن البقاء والمحافظة على الذات هما المبدآن الأساسيان والنهائيان لأهداف الدول. وبات مفهوم المصلحة العقلانية بالكامل، والتي تعتمد على القوة وفرض النفوذ، هو الأساس في تحديد سلوكها.
وعلى الرغم من ذلك، فإننا نلاحظ أن مفهوم الشرف بقي عنصراً حاسماً في استراتيجيات القوى “الشرقية”، كروسيا والصين وإيران. فعلى سبيل المثال لا الحصر، نلاحظ، من خلال دراسة استراتيجيتي الصين وروسيا، أن “الشرف honor” يشكّل دافعاً إلى السلوك الخارجي.
فالصين تضع نصب عينيها في سياساتها الخارجية تخطي إرث “قرن الإذلال”، الذي مسّ شرف الصينيين وكرامتهم، وأخضعهم للاحتلال الأجنبي، بينما يهيمن على خطابات المسؤولين الروس وعقائدهم مبدأ “المحافظة على الدولة والمجتمع والقيم”، وعدم العودة إلى تسعينيات القرن العشرين، حين عامل الغرب روسيا دولةً منهزمة فأذلّها ومسّ شرفها.
في المقلب الآخر، تطغى مفاهيم “المصلحة القومية” على الاستراتيجيات الأميركية. وفي مراجعة مضمون الاستراتيجيات الأميركية، وتحليل للسياسة الأميركية الخارجية، نجد أن كلمة الشرف لم ترد إلا في خطاب نيكسون، في23 كانون الثاني/يناير 1973، والذي وصّف فيه انسحاب الجنود الأميركيين من فيتنام، باستخدام عبارة “سلام مع شرف” Peace with Honor.
وهكذا، في معرض تأكيده إصرار إيران على الردّ على “إسرائيل”، بسبب المساس ليس فقط بسيادتها وأمنها القومي، بل بشرفها أيضاً، يلفت السيد نصر الله إلى تباين جوهري في سلوك الدول بين الشرق والغرب، ويحدّد إيران قوةً شرقية، بحيث يشكّل “الشرف” الوطني عاملاً مهماً في تحديد سلوكها الخارجي وعلاقاتها بالدول الأخرى.
وفي تحليل لأهمية “مبدأ الشرف”، الذي يدفع إيران إلى الردّ على “إسرائيل”، بصورة أعنف مما كان عليه الردّ على استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق، نجد أن هذا الأمر يشكّل أهمية للإيرانيين، بسبب ما يلي:
أ – رمز الكرامة الوطنية: غالباً ما يرتبط الشرف بهوية الأمة وصورتها الذاتية عن نفسها. على الرغم من التكلفة والمخاطر، فإن إيران تسعى للمحافظة على شرفها وهيبتها في الساحة الدولية، وعزّتها في نظر مواطنيها.
ب - السمعة والصدقية: تسعى الدول لبناء سمعتها والمحافظة عليها، عبر الوفاء بالتزاماتها واحترام تعهداتها. يمكن أن تعزز سمعة الشرف صدقية الدولة، الأمر الذي يجعل وعودها وتهديداتها أكثر صدقية.
ج – الردع: يمكن أن يؤدي الشرف دوراً في استراتيجيات الردع. فالدولة، التي تحترم التزاماتها وتعهداتها وشرفها، حتى لو عبر تكلفة كبيرة، تستطيع أن تردع الخصوم وتطمئن الحلفاء إلى الثقة بها.