قبل نحو أسبوعين، وبالتحديد في 24/7/2024، أطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال لقائه مع نظيره السوري الدكتور بشار الأسد في موسكو تحذيرًا من إمكان “تطوّر الوضع في منطقة الشرق الأوسط ككل”، مؤكدًا: “لسوء الحظ، أن الأمور تميل إلى التفاقم، وهذا ينطبق أيضًا على سوريا بشكل مباشر”. كان الكلام لافتًا في توقيته وصيغته الحازمة؛ وكأنّ التصعيد في المنطقة أمر محتوم، وما يحتّم ضرورة الوقوف عنده بتأنٍّ وجدّية كبيرين أنه صادر عن بوتين شخصيًا، وأعلنه الكرملين رسميًا من دون تطعيمه بمصادر أو تحليلات أو توقّعات، ما يسبغ عليه صفة الموقف/ الرسالة التي يجب على الأطراف المعنية تلقّفها والبناء عليها وتحديد الإجراءات اللازمة حيالها.
بعد ثلاثة أيام فقط من لقاء بوتين – الأسد؛ ارتكب العدو مجزرة “مجدل شمس” السورية في هضبة الجولان المحتلة، وسرعان ما أدخل الحادثة في بازار الاستغلال السياسي والعسكري. أولًا: بتحميل حزب الله المسؤولية عنها، وثانيًا: دفع جبهات “طوفان الأقصى” إلى بُعد جديد، وجعل الحادثة نقطة تحوّل من شأنها تسعير البؤر المشتعلة في المنطقة. وعلى الرغم من نفي حزب الله مسؤوليته عن الجريمة والوقفة الشجاعة التي عبّر عنها أهالي “مجدل شمس” بطرد مسؤولي العدو من قريتهم، إلا أن رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو مضى في تنفيذ مشروعه التصعيدي، وبعد ثلاثة أيام أيضًا فقط من المجزرة، اغتال القائد الجهادي الكبير في حزب الله السيد فؤاد شكر في قلب الضاحية الجنوبية ورئيس المكتب السياسي الشيخ إسماعيل هنيّة في قلب طهران.
ماذا يريد نتنياهو؟
هكذا رفع نتنياهو، والعائد من زيارته إلى واشنطن ولقاءاته الجمهورية والديمقراطية والمنتشي بخطابه الاستعراضي أمام الكونغرس، سقف المواجهة إلى أعلى مستوياتها ليضع المنطقة برمّتها على فوهة بركان بانتظار الرد الحتمي من ثلاث محاور كبرى في جبهة المقاومة: حزب الله، إيران، اليمن. ولم يكتفِ “جزّار غزة” بهذا الحد من التصعيد الشامل المتزامن وغير المسبوق في مسار المواجهة، فوسّع إطار النار في الجبهة الداخلية بزيادة وتيرة الاعتداء على المواطنين الفلسطينيين في مدن الضفة الغربية المحتلة ومخيماتها، وإطلاق عجلة الاستيطان واستئناف عمليات التشريد والتهجير.. فماذا يريد نتنياهو من وراء ذلك؟!
صرّح “الجزار” في آخر لقاء أجراه مع مجلة “التايم” الأمريكية أن هدف حكومته هو: “تدمير قدرات حماس بالكامل، والهدف الأكبر والأهم هو استعادة مبدأ الردع الإسرائيلي”، مشدّدًا على أن: “حرب غزة لن تنتهي قريبًا”، وأضاف: “نحن لا نواجه حماس فحسب؛ بل محورًا إيرانيًا متكاملًا، وعلينا تنظيم أنفسنا للدفاع على نطاق واسع”.. ولعلّ أهم ما قاله نتنياهو هو أنه يعي أن: “اتساع رقعة الحرب في غزة وتحوّلها إلى صراع إقليمي مخاطرة، ولكني مستعد لخوضها”، وهذا الكلام يؤشر بشكل واضح إلى أنه يأخذ توسيع دائرة الحرب في الحسبان – ما لم يكن هو يسعى إليها – بهدف إشعال حريق كبير يشمل المنطقة كلّها، حيث يستدرج تدخلًا أمريكيًا مباشرًا يضع الجميع على طاولة المفاوضات وفرض صيغة توافقات سياسية شاملة تعيد هيبة “إسرائيل” أولًا، وتضمن موقعها المتسيّد على دول المنطقة وأنظمتها ثانيًا.
إشغال محور الشرق
لكن هل يتناسب هذا الهدف مع رؤية واشنطن لصيغة التسوية في دائرتها الأوسع لتشمل الشرق الأقصى؟!
إذا ما أخذنا سير التطوّرات المتسارعة منذ لقاء بوتين – الأسد حتى اليوم، ونضيفه إلى الحدث المستجدّ في تزويد الولايات المتحدة لنظام فولودومير زيلينسكي بطائرات “أف – 16″ وصواريخ نووية تكتيكية وعتاد عسكري متطوّر، وصولًا إلى التوغّل الأوكراني الكبير والمفاجئ في مقاطعة كورسك المجاورة مباشرة للحدود الروسية- الأوكرانية، نجد أن الإدارة الأمريكية تسعى – وبالتوازي مع إمكان اشتعال المواجهة بين جبهة المقاومة و”إسرائيل” – إلى إدخال محور الشرق (روسيا، الصين، كوريا الشمالية) في جبهة إشغال قوية، حيث يعجز هذا المحور عن التدخّل ميدانيًا أو في الحد الأدنى لن يتسطيع أن يكون له موطئ قدم في المنطقة بعد إرساء التسوية الأمريكية التي ستلي الحرب.. وهكذا تستعيد “إسرائيل” هيبتها المفقودة وردعها المكسور، وتعاود واشنطن وضع يدها على المنطقة ودولها التي ستجد نفسها مُساقة إلى حظيرة التطبيع بالجملة.
تحرير فلسطين الوجهة الراسخة
ما سبق عرضه؛ يُعدّ واحدًا من السيناريوهات المتوقعة المبنية على قراءة التطورات الميدانية وربط الحوادث الجارية، ولكن من وجهة نظر أمريكية – إسرئيلية محتملة، في ما ينتظر العالم كلّه الردّ الحتمي من جبهة المقاومة، وهذا الرد بحد ذاته يعدّ أيضًا أحد الخطوات الحاسمة التي تسهم في تشكيل صورة اليوم التالي بعد الردّ. وبقطع النظر عن مستوى وحجم واتساع دائرة الرد وأهدافها، إلا أن تفاصيل الصورة لا تتّضح إلا من خلال ما سيكون عليه تصرّف نتنياهو وحكومته إزاء الردّ. وما يمكن الجزم به، في هذا السياق، أن ردّ جبهة المقاومة سيكون “قويًا وحاسمًا” ومتناسبًا مع حجم جريمتي اغتيال القائدين هنية والسيد شكر، مع تأكيد كل من حزب الله وإيران على عدم الذهاب إلى حرب شاملة أو مفتوحة، فهل يكمل نتنياهو المغطّى أمريكيًا في مشروعه لإحراق المنطقة أم أن الأيام الفاصلة عن ردّ جبهة المقاومة قد تحمل تطوّرات مستجدّة من الشرق أو الغرب تخلط الأوراق لتجعلنا أمام واقع جديد؟!
في مجمل الأحوال؛ خيارات جبهة المقاومة لن تتأثر بأي معطًى يؤدي إلى تغيير أو تعديل اتجاهاتها أو يؤثر على قراراتها في ما يتعلَق بحاضر المواجهة ومستقبلها. ولعلّ انتخاب يحيى السنوار على رأس القرار السياسي لحركة حماس يؤكد هذا المنحى؛ فقد بات قرار المقاومة الفلسطينية اليوم بعد استشهاد هنية بيد القائد العسكري الرابض في قلب الجبهة، وهذا يكرّس هوية مشروع المقاومة في محاور جبهتها واتجاهاتها الراسخة حتى تحرير فلسطين وإسقاط مشروع الهيمنة الأمريكي في المنطقة.