في ظل تصاعد التوترات السياسية والعسكرية في الشرق الأوسط، يكبر السؤال الآن حول احتمالية اندلاع حرب شاملة في المنطقة. الأحداث الأخيرة، بما في ذلك اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية والمسؤول الكبير في حزب الله فؤاد شكر، بالضربتين على الضاحية الجنوبية لبيروت وطهران، تشير إلى أن الأمور تسير في اتجاه تصعيد خطير.
تعاظم التكهنات حول نية “إسرائيل” استغلال هذه الظروف لدفع الولايات المتحدة إلى صراع مباشر مع إيران يضع المنطقة بأسرها على حافة بركان. في هذا السياق، تأتي هذه المادة لتحليل أبعاد تلك الأحداث، ومراجعة الخطاب الأخير للسيد حسن نصر الله، وتقويم التهديدات المتزايدة على لبنان والمنطقة، مع استشراف للمستقبل وتقويم للأدوار الإقليمية والدولية.
أولاً: السياق الجيوسياسي العام للأحداث
يشهد الشرق الأوسط تصعيداً ملحوظاً في الصراعات السياسية والعسكرية بين مختلف القوى الإقليمية والدولية. اغتيال القياديين هنية وشكر يبدو جزءاً من مخطط أوسع لإعادة تشكيل التوازنات الإقليمية، واستفزاز إيران وقوى المقاومة، بعد عشرة أشهر من فشل نتنياهو و”جيشه” في تحقيق نصرٍ على المقاومة في مختلف الجبهات. هذه الاغتيالات، على الرغم من كونها هجمات موجهة ضد شخصيات محددة، تحمل في طياتها أهدافاً استراتيجية أعمق. فالهدف الأكبر هو جر الولايات المتحدة إلى مواجهة مباشرة مع إيران.
هذه الاستراتيجية ليست وليدة اللحظة، بل تأتي ضمن سياق مستمر من التصعيد الإسرائيلي ضد محور المقاومة. وقد كانت التوقعات تشير إلى أن “إسرائيل” ستسعى إلى استغلال حدث ما، مثل حادثة مجدل شمس، لتوجيه ضربة “مستفزة” من شأنها تحقيق أهداف دعائية وإعلامية، بينما تتجنب في الوقت نفسه التمييز بين الأهداف المدنية والعسكرية. وهذا ما تحقق بالفعل من خلال الضربات على الضاحية وطهران.
ثانياً: معادلة الردع ومحور المقاومة
لعدة أشهر، نجح محور المقاومة في تثبيت معادلة الردع مع “إسرائيل”، ما منعها من تجاوز حدود معينة، بيد أن الضربة التي استهدفت القنصلية الإيرانية في دمشق في نيسان/أبريل الماضي شكلت اختباراً جديداً لهذه المعادلة. ثم أتت هاتان الضربتان لتضعا محور المقاومة أمام خيارين: إما الرد بقوة للحفاظ على الردع ومنع “إسرائيل” من تصعيد استفزازاتها، أو الامتناع عن الرد والمخاطرة في تشجيع “إسرائيل” على المضي قدماً في استفزازاتها. فما الحل لهذه المعادلة؟
الأيام التي تلت العمليتين الخطيرتين كشفت قدرة المحور بأطرافه المتعددة على التخطيط المتأني والحكيم لأهدافه، ولحساب خطواته بعيداً من الانفعال العاطفي الذي هدف نتنياهو إلى افتعاله عند أصحاب القرار في المحور، من خلال استهداف شخصيتين عزيزتين على المستويين العام والشخصي بالنسبة إلى قادة هذا المحور.
ومع ذلك، فقد فهم هؤلاء أن الرد على هذا الاستفزاز يجب أن يكون مدروساً. فإذا كان الرد بقوة مفرطة، فإنه قد يجر المنطقة إلى حربٍ شاملة، وهو السيناريو الذي رسمه نتنياهو، لإدخال واشنطن مباشرةً في الصراع، من ناحية أخرى.
ثالثاً: التحديات الاستراتيجية والتدخلات الدولية
لفهم مغزى الحرب على إيران في السياق الدولي الحالي، يجب النظر إلى الصورة الأكبر. فإيران تعدّ خطاً جيوسياسياً جنوبياً في فضاء الأمن الروسي، ومن شأن أي هجوم أميركي عليها أن يشكل تهديداً مباشراً للمصالح الروسية والصينية. ولذلك، تحركت روسيا بسرعة لدعم إيران، إذ عقد رئيس مجلس الأمن القومي الروسي سيرغي شايغو اجتماعات مع المسؤولين الإيرانيين، وأعلن دعم بلاده لطهران.
أما الصين، فقد أعربت عن موقفها الصارم من أي ضربة محتملة على إيران، مهددة باتخاذ “إجراءات ضرورية”، وهي خطوة تعبّر عن تصعيد دبلوماسي له دلالاته. هذا يعني أن إسقاط إيران أو الإضرار بمصالحها الأساسية يعدّ خطاً أحمر لموسكو وبكين. إن تزايد الوجود العسكري الروسي في إيران، بما في ذلك المزيد من النشاط والتعاون في مجال أنظمة الدفاع الجوي ومنظومات الحرب الإلكترونية، يؤكد أن موسكو مستعدة للذهاب بعيداً لحماية حليفتها.
رابعاً: تحليل التوجهات الإسرائيلية والأميركية
يبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يسعى جاهداً إلى تصعيد التوترات، مستخدماً سياسة “الابتزاز والاستفزاز” بهدف افتعال المواجهة الكبرى. في هذا السياق، يعتمد نتنياهو على الضغط الداخلي في “إسرائيل” والضغط الخارجي من اللوبيات المؤيدة له في الولايات المتحدة لدفع واشنطن إلى اتخاذ خطوات أكثر عدائية تجاه إيران.
ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة تبدو مترددة في الانجرار إلى صراع واسع النطاق في الشرق الأوسط. هذا التردد يعود جزئياً إلى الأزمات الاقتصادية الداخلية، إذ تواجه الولايات المتحدة أزمة ديون متفاقمة قد تؤدي إلى انهيار اقتصادي، إذا ما دخلت البلاد في حرب جديدة. كما أن السياسة الأميركية تحت إدارة بايدن تركز على معالجة القضايا الداخلية، مثل التضخم والبطالة، وهو ما يجعل الدخول في حرب خارجية غير مرغوب فيه في الوقت الراهن، خصوصاً مع اقتراب الانتخابات الرئاسية في الخامس من تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، وتقارب حظوظ المرشحين دونالد ترامب وكامالا هاريس بالفوز، كما تظهر آخر استطلاعات الرأي التي تنشر تباعاً، وينشغل في مخرجاتها المجتمع الأميركي والعالم كله.
خامساً: الرؤية الاستراتيجية لمحور المقاومة
في ظل هذه الظروف، يتبنى محور المقاومة استراتيجية حذرة في الرد على الاستفزازات الإسرائيلية. خطاب السيد حسن نصر الله الأخير جاء ليؤكد هذه الاستراتيجية، إذ أشار إلى أن الرد سيكون شديداً لكن بحكمة، وهذا يساعد على الاستفادة من هوامش الزمن والظروف الإقليمية والدولية. هذه الاستراتيجية تهدف إلى منع “إسرائيل” من تحقيق أهدافها الاستفزازية، مع الحفاظ على الردع، من دون الانجرار إلى حرب شاملة.
إن تشديد نصر الله على كلفة الحرب المحتملة لـ”إسرائيل” يُظهر أنه يسعى إلى توجيه رسالة واضحة إلى واشنطن بالمخاطر التي ستواجهها، إذا ما استمرت في دعم سياسات نتنياهو العدائية. كما تعزز هذه الرسالة من موقف محور المقاومة في الحفاظ على التوازن الاستراتيجي في المنطقة، وتحبط محاولات “إسرائيل” لجر الأطراف إلى صراع غير محسوب.
سادساً: الأبعاد الاقتصادية للأزمة العالمية وتأثيرها في قرارات الحرب
لا يمكن إغفال الأبعاد الاقتصادية للأزمة العالمية عند تحليل احتمالات اندلاع حرب في الشرق الأوسط. الاقتصاد العالمي يمر بمرحلة من الهشاشة الشديدة، إذ تتزايد مخاطر الانهيار المالي. الأزمات المالية التي بدأت تبدو طلائع انفجارها في اليابان، والولايات المتحدة، وغيرها من الاقتصادات الكبرى، تشير إلى أن العالم يقف على حافة انهيار مالي كبير.
الحرب في الشرق الأوسط، إذا ما اندلعت، قد تكون القشة التي تقصم ظهر الاقتصاد العالمي. تراجع الاستثمارات، انهيار الأسواق المالية، والارتفاع الجنوني في أسعار الطاقة، كلها سيناريوهات محتملة إذا ما اندلعت حرب واسعة النطاق. هذا السياق يفسر التردد الأميركي في الدخول في صراع مع إيران، رغم الضغوط الإسرائيلية المستمرة.
إضافة إلى ذلك، فإن أي حرب شاملة قد تؤدي إلى تفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية داخل الولايات المتحدة نفسها، ما يزيد من احتمالات تفاقم الانقسامات السياسية والاجتماعية. لذا، تبدو واشنطن أكثر ميلاً للحفاظ على الوضع القائم، ومحاولة ضبط التصعيد من دون الانجرار إلى حرب شاملة.
سابعاً: استشراف المستقبل والتنبؤ الاستراتيجي
مع أخذ كل هذه العوامل بعين الاعتبار، يبدو أن احتمالات اندلاع حرب شاملة في الشرق الأوسط لا تزال قائمة، لكن تعتمد بشكل كبير على مدى حكمة الأطراف في إدارة الأزمة. التحركات الدولية، وخاصة من جانب الولايات المتحدة، روسيا والصين، تلعب دوراً محورياً في منع حدوث تصعيد غير محسوب. كما أن الردع الذي يمارسه محور المقاومة قد يمنع “إسرائيل” من المضي قدماً في استفزازاتها.
ومع ذلك، فإن الوضع لا يزال متوتراً للغاية، وأي خطأ في الحسابات قد يؤدي إلى اندلاع حرب واسعة النطاق، تمتد تداعياتها لتشمل عدة دول في المنطقة، مع آثار كارثية على الاقتصاد العالمي. في الوقت نفسه، سيواصل محور المقاومة استراتيجيته في تقسيم الردود زمنياً، ما يعزز من موقفه ويقلل من فرص نتنياهو في جر المنطقة إلى حرب شاملة.
وفي هذا السياق، من المرجح أن يستمر الوضع في حالة من الترقب الحذر، حيث تتبادل الأطراف الإشارات والتصريحات من دون الانخراط في مواجهات مباشرة. ومع ذلك، فإن مستقبل الشرق الأوسط سيظل مرهوناً بالتطورات الدولية والإقليمية، وقدرة القوى الكبرى على ضبط التوترات ومنع الانزلاق نحو حرب شاملة.
أما الخطوة الأميركية-القطرية-المصرية التي عبّر عنها بيان الدول الثلاث لاستئناف المفاوضات حول وقف إطلاق النار في غزة، ومسارعة حكومة نتنياهو إلى القول إن وفداً إسرائيلياً سيشارك في وضع اللمسات الأخيرة على الصفقة، فإنها غير موثوقة حتى اللحظة من جانب أطراف المحور، وهي بالتالي لن تثني هذه الأطراف عن الرد على عمليتي الاغتيال، خصوصاً أن رسائل أميركية مخادعة وصلت إلى المنطقة قبل العمليتين، كانت تتضمن تطميناً لناحية اتجاه الأحداث، وعدم اختراق قواعد الاشتباك التي كانت قائمة قبل الخطوة الإسرائيلية الاستفزازية.
ومن أجل ذلك، فإن قوى المحور لا تربط على الإطلاق بين ردها على ذلك، وتطلعها إلى الخطوة السياسية الأميركية والعربية لوقف الحرب على غزة. لكن الأمر بالنسبة إلى المحور يستحق المحاولة، من دون أن يمحو الحق الطبيعي بالرد المتناسب والموجع على “إسرائيل”.
خلاصة
يتسم المشهد الاستراتيجي في الشرق الأوسط بتعقيد شديد، إذ تلعب التحركات الدولية، دوراً حاسماً في منع التصعيد غير المحسوب، لكن نتنياهو و”جيشه” أثبتا أن معادلة القوة هي الوحيدة التي تمكنت من ردع الاحتلال خلال الأشهر العشرة الماضية، بما منعه من توسيع الحرب إلى الشمال. على الرغم من التوترات المتزايدة بين “إسرائيل” ومحور المقاومة، يبدو أن احتمالات اندلاع حرب شاملة تعتمد بشكل كبير على كيفية إدارة الأطراف للأزمة الحالية. ومع ذلك، فإن بقاء الوضع على ما هو عليه ليس مضموناً، إذ إن أي خطأ في الحسابات قد يؤدي إلى كارثة إقليمية ودولية.
في نهاية المطاف، تظل الخيارات مفتوحة أمام جميع الأطراف، ومع مرور الوقت، ستتضح معالم الاستراتيجيات المتبعة وقدرة الأطراف على تجنب الكارثة. وفي ظل هذه الظروف، يبقى الشرق الأوسط منطقة ملتهبة، إذ يمكن أن تنفجر الأوضاع في أي لحظة إذا ما فشلت الأطراف في ضبط التوترات وتحقيق تسوية سلمية للأزمات المستعصية.
الواضح في الأمر، أن الأطراف جميعها تحاول تجنب الحرب، باستثناء نتنياهو وحكومته، وأن محور المقاومة يمارس ضبط النفس في مواجهة سياسة الاستفزاز بصعوبة. لكن الحاسم في الأمر سيكون موقف الولايات المتحدة من سياسة الابتزاز الإسرائيلية، فإما يتمكن نتنياهو من إغراق واشنطن، أو تتركه الأخيرة ليغرق.