من سوريا إلى غزة الجريحة.. تحية مسيحية إلى المقاومة الإنسانية

لا يمكن فصل تعاطي المسيحيين في سوريا مع ما يجري في قطاع غزة عن باقي مكوّنات المجتمع السوري، فالحرب التي تشنّها "إسرائيل" تستهدف الإنسانية بالدرجة الأولى، ووأد روح المقاومة لدى شعوب المنطقة.

2024-08-12

تقلّب إيفا الصايغ قنوات التلفاز يومياً، وتتصفّح باستمرار مواقع التواصل الاجتماعي لمتابعة أخبار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، فالشابة العشرينية لم تعد تبحث منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي عن الأخبار الفنية أو المسلسلات الدرامية، بقدر رغبتها في معرفة المعاناة التي يتعرض لها النساء والأطفال في القطاع المحاصر.

 

تقول الصايغ (28 عاماً) : ” لا تفارق صور أشلاء الأطفال مخيّلتي، ولا تبتعد صرخات النساء الثكالى عن مسامعي؛ أقضي يومياً ساعات في متابعة الأخبار المتعلقة بغزة والجرائم التي يرتكبها “الجيش” الإسرائيلي بحق المدنيين العزّل من دون أن يحرّك العالم ساكناً لوقف هذه الحرب المجنونة، التي حرمتنا معنى السعادة وأبعدتنا عن حياتنا الاجتماعية”.

 

وتضيف الصايغ: “إن الحرب التي يشهدها قطاع غزة اليوم أعادت إلى أذهاننا شبح الحرب التي عانينا منها في سوريا خلال السنوات الماضية، فالفكر الإسرائيلي شبيه بفكر الجماعات الإرهابية التي دمّرت الكنائس والجوامع في سوريا، وهو الشيء نفسه الذي تفعله آلة القتل الإسرائيلية في عموم فلسطين منذ سنوات طويلة، وأذكر في بداية الحرب كيف عمدت الطائرات الحربية الإسرائيلية إلى استهداف كنائس غزة القليلة وتدميرها بشكل كامل من دون أيّ رادع من المجتمع الدولي، أو حتى إدانة لهذه الجرائم بحق المقدسات المسيحية”.

 

إيفا الصايغ ليست الوحيدة من أبناء الطائفة المسيحية داخل سوريا التي تتألم لما يجري داخل فلسطين المحتلة وقطاع غزة المُحاصر، فالمسيحيون السوريون يعتبرون أن جرائم الاحتلال تمسّهم بشكل مباشر لأسباب عديدة، ومنها أن فلسطين تُعدّ مهد المسيحية في العالم، وتُشكّل بالنسبة إلى المسيحيين علامة حسيّة للرسالة الروحية التي أتى بها السيّد المسيح، وهذه الرمزية الدينية هي الدافع الأساس لاستمرار تعلّق المسيحيين حول العالم بقضية فلسطين، خاصّة عندما يشاهدون الجرائم الإسرائيلية بحق المقدسات المسيحية والإسلامية في الأراضي المحتلة، والتضييق على المسيحيين وإجبار الآلاف منهم على الهجرة، ما يؤكد أن “إسرائيل” تمارس عمليات تطهير عرقي وديني منظمة في فلسطين لجعلها وطناً لليهود فقط.

 

أما السبب الأهم لتعلّق مسيحيي سوريا بما يجري في الأراضي المحتلة فهو إنساني، إذ تمارس “إسرائيل” بنظرهم حرب إبادة جماعية ضد المدنيين من نساء وأطفال وشيوخ، ولا تستثني مدارس أو دور عبادة أو حتى مراكز إيواء، حيث ترتكب يومياً مجازر مروّعة من دون أن يستطيع أحد إيقاف الحرب عبر الضغط على “إسرائيل” لتحقيق هذه الغاية بل على العكس تماماً، فإن الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية تعمل على إمداد “الجيش” الإسرائيلي بشحنات الأسلحة الفتّاكة لقتل الأبرياء في القطاع المحاصر.

 

وتعبيراً عن وقوف المسيحيين داخل سوريا مع أصحاب الأرض في فلسطين المحتلة، أكد بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس يوحنا العاشر في أكثر من مناسبة وقداس وعظة أن ما يجري في غزة الجريحة يختزل شيئاً يسيراً من المأساة التي تتعرض لها فلسطين والأراضي المحتلة كافةً من قهرٍ وإذلالٍ تمارسه سلطات الاحتلال منذ عشرات السنين، كما دعا غبطة البطريرك إلى ضرورة الضغط على كيان الاحتلال لإيقاف آلة الحرب بشكل فوري.

 

اختفاء المظاهر الاحتفالية

 

منذ بدء الحرب الإسرائيلية الدموية على قطاع غزة، اختفت مظاهر وأجواء الاحتفالات الدينية المسيحية عن الكنائس والأحياء الدمشقية بشكلٍ خاص والسورية بشكلٍ عام، إذ أعلنت الكنائس الرئيسية في سوريا إقامة الصلوات وإلغاء الاحتفالات؛ تضامناً مع الفلسطينيين في قطاع غزة.

 

أعلنت الكنائس الرئيسية الثلاث في سوريا في بيان لها أنه ونظراً إلى الظروف الراهنة، وخصوصاً في غزة، يعتذر البطاركة عن عدم تقبّل المعايدات والتهاني ويكتفون بالصلوات، مرسلين البركة إلى كل أبنائهم، ووقّع البيان كل من بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، يوحنا العاشر، وبطريرك السريان الأرثوذكس، مار إغناطيوس أفرام الثاني، وبطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك، يوسف العبسي.

 

الأب أنطونيوس رأفت أبو نصر، راعي رعية سيدة دمشق للروم الملكيين الكاثوليك بدمشق ورئيس مكتب شبيبة أبرشية دمشق وريفها، يقول للميادين نت: “إن ما يجري في فلسطين اليوم شبيه بما حدث في سوريا خلال الحرب، وفي تلك الفترة، كانت الكنيسة هي الأم الرؤوم التي تحتضن أولادها تيمّناً بتعاليم السيد المسيح في الكتاب المقدس، الذي يقول إن الإنسان أخ لأخيه الإنسان، ويتعاطى معه بإنسانية في جميع مفاصل الحياة، لذلك فإن ما يحدث في غزة يُعدّ جرحاً في خاصرة الكنيسة، لأن الصهاينة لم يراعوا في هذه الحرب أدنى قيمة بالحس والشعور الإنساني، فقتلوا ودمّروا وأحرقوا ولم يكترثوا بحقوق الإنسان، وهذا ولّد حزناً كبيراً لدى الكنيسة في سوريا، ولدى أبناء الطائفة المسيحية على حدٍ سواء.

 

ويضيف أبو النصر: “أمام ما يجري في فلسطين اليوم يسعى المسيحيون في سوريا لمدّ يدهم إلى إخوتهم في فلسطين المحتلة بالوسائل المُتاحة كافة، وهم يتضرعون إلى الله بالصلاة لكي يرفع الغيمة السوداء عن بلدنا العزيز فلسطين كما يرفعها عن بلدنا سوريا”.

 

وتمنّى أبو نصر أن تساهم الدماء البريئة التي سقطت على أرض السيد المسيح فلسطين في إيقاف آلة القتل التي يقودها الاحتلال بوحشية على الفلسطينيين في غزة وفي كامل الأراضي المحتلة، ولفت الأب أنطونيوس إلى أن المطلوب اليوم من المشرقيين أن يكونوا في صف واحد من سوريا إلى لبنان وفلسطين حتى تعود المنطقة للعب دورها الطبيعي في العالم، وتكون قادرة على مواجهة الاحتلال الوحشي الذي يضطهد شعوبها.

 

الحرب تمسّ الجميع

 

لا يمكن فصل تعاطي المسيحيين في سوريا مع ما يجري في قطاع غزة عن باقي مكونات المجتمع السوري، فالحرب التي تشنها “إسرائيل” على قطاع غزة تستهدف الإنسانية بالدرجة الأولى، كما وأد روح المقاومة لدى شعوب المنطق. وفي هذا السياق، يقول القس إبراهيم عبد الكريم نصير، راعي الكنيسة الإنجيلية العربية في حلب، للميادين نت: “إن غالبية السوريين قد اختبرت الظلم واللاعدالة عندما شنّت حكومات بعض الدول حرباً شعواء على بلادهم، فتم استهداف البشر والحجر والشجر في سوريا؛ واليوم الرواية ذاتها تستهدف الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، مع استمرار تطبيق المعايير المزدوجة من قبل الغرب ليكون العالم منقسماً بين ابن سيدة وابن جارية”.

 

ويضيف القس نصير أنه من الهزلية اللاعقلانية أن يتجاوز عدد الشهداء في غزة الأربعين ألف شهيد، وما زال العالم بمؤسساته كافة يأخذ موقف المتفرج؛ بل يمتلك البعض الوقاحة ليصف الضحية بالإرهاب ويصف الإرهاب المنظم بالضحية، فمن الواضح أنه لا ينبغي لأيّ شعب أن يقاوم ويطالب بأبسط حقوقه في أرضه ووطنه.

 

وتساءل نصير: “كيف يمكن لمنظمات دولية إنسانية أن تصمت عن استهداف المدارس والمشافي والكنائس والمساجد والمخيمات؟ لو قتل أربعون ألف حيوان في العالم لقامت وقعدت الدنيا بسبب جمعية الرفق بالحيوان، فهل نحتاج إلى جمعية للرفق بالإنسان المستضعف والمسلوبة حريته والمستباحة دماؤه وعرضه وأرضه؟”.

 

وأكد نصير أن شعوب المنطقة هي جزء لا يتجزأ من هوية الضحية، فالشعب الفلسطيني في غزة يحمل هوية شعوب المنطقة بأجمعها، لذلك فإن هذه الشعوب مدعوة اليوم ليكون صوتها عالياً وتفضح عقم المنظمات الدولية بما فيها مجلس الأمن، إضافة إلى مطالبة شعوب العالم بالضغط على الحكومات الغربية لإيقاف آلة القتل الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني الأعزل على كامل الأراضي المحتلة.

المصدر: الميادين