من يقف على سيرته، يجدها كثيفة غنية متميزة بالجدة والاجتهاد مرتكزة على فرادة في الموهبة التي تقتحم العقد وتزيل المشكلات والشبهات.هو الباحث المدقق والمحاضر الديبلوماسي والعميق في رحلة البحث عن كل معنى وقيمة بشغف وإحاطة مذ كان طالب علم على مقاعد الدراسة مقارعاً المراجع والمجتهدين في سن باكرة، فلم يكن يقبل ما يُلقى من دون نظر وتحقّق واقتناع. في دروسه وخطبه ومحاضراته، تتذوق روائع الفكر والفقه والاقتصاد والسياسة والاجتماع والأخلاق بشكل قد استوفى المطالب، فما يميّزه بلاغة التعبير بلا إطناب مع نضج وعمق ودراية.
رغم كل التحديات والمصاعب والظروف السياسية والأمنية والاجتماعية التي رافقته معظم مراحل حياته، كان ذا بأس شديد وعزيمة صلبة لا تنكسر ويقين راسخ يأبى إلا الانتصار للحق وأهله داعياً إلى رفع الحرمان وخدمة الإنسان، وجعله كريماً عزيزاً في بلده. فكان صاحب القلب الكبير والمحب الذي يتّسع للناس جميعاً على مختلف مشاربهم وانتماءاتهم.
فهم الإسلام كما الأديان بطريقة مختلفة، وحرّر ما استطاع من قيود تحول دون تطبيق المفاهيم والأفكار الدينية بشكل عملاني في الواقع، فكان صاحب الأمانة والصدق رغم كل التحديات السياسية والأمنية المحيطة به في زمن التقلّبات والمواجهات التي جعلت من سيرته وحركته غنيةً بالتجارب والمحطات المفصلية في تاريخ الوطن.
كان ولا يزال بحق إماماً للوطن والمقاومة، قائداً حكيماً في كل المواجهات السياسية والاجتماعية والفكرية، ومرشداً ومعلماً صاحب أفق واسع ورحب ينبذ السطحية والعصبية ويعرف كيف يبتعد عن المماحكات والمعارك الهامشية الضيقة التي تستنفد الطاقات، فشكلت تجربته مدرسة بحد ذاتها لها فرادتها وجدّتها.
لا ولاءات عنده للعائلة والحزب والطائفة، بل ولاء للوطن ومحبة الإنسان وخدمته كان يؤكد ذلك في سلوكه وحركته ونشاطه اليومي وفي كل جولاته وصولاته وخطابه المقاوم، فكان الإطفائي الذي يطفئ نار العصبية الطائفية والمذهبية حريصاً على حقن الدماء وحماية الواقع من كل الهزات والأزمات التي يغذيها بعض الساسة ومَن وراءهم.
صرخ معلناً أن “إسرائيل” شرّ مطلق منبّهاً إلى خطورة هذا الكيان على لبنان والمنطقة وأن أطماعه لا تقف عند حد، داعياً إلى الوحدة.
ضابط إيقاع مميز لكل التجاذبات الداخلية والخارجية، وما ينتج عن دهاليز السياسة المحلية والدولية، مؤمناً بأهمية العيش المشترك القائم على مبدأ حفظ الحقوق وأداء الواجبات وعلى العدالة الاجتماعية والسياسية التي تحفظ حق الجميع في صنع الحاضر والمستقبل.
يتحدث رفيقه في الدرب والعمل الذي كانت تربطه به علاقة مودّة وهمٍّ واحد المرجع السيد محمد حسين فضل الله فيقول عنه: «كان السيّد موسى الصّدر أحد الأشخاص الذين عملوا على تجديد الحركية الفكرية في قمّ، عبر مكتب الإسلام الذي مثّل نقلةً نوعيةً تجاوزت الواقع التقليدي الحوزوي. كان يعيش عمق الحركية الإسلاميّة، وكان يتجاوب معها وينفعل بها ويؤمن بها.
وأنا لا أعتقد أنّ هناك أيّ فرق بين عقل السيد موسى الصدر الحركي الإسلامي، وبين عقل السيد محمد باقر الصدر الحركي الإسلامي، وإن كان لكلّ منهما أسلوبه وطريقته في إدارة هذه المسألة. لا يمكن أن نتحدّث عن السيد موسى إلا أنّه السيد موسى الإسلامي، لأنه رجل عاش في بيت إسلامي، وتحرّك من أجل إيجاد مناخ جديد للثقافة الإسلامية ومواكبة الحركة الإسلامية.
الإمام الصّدر… نجح لأنّه كان منفتحاً، ديبلوماسياً، صاحب أخلاق عالية، مثقّفاً لم يكن يفكر في المرجعية، ولم تكن تكفي طموحاته ليتحوّل إلى رجل يجلس في بيته يُفتي الناس مثلاً، ويرخصهم بالحقوق الشرعيّة».
في هذه الأيام الصعبة والحالكة التي تعصف بالوطن، يبقى هؤلاء الرجالات مشاعل للتحرر من الأنانيات والأهواء التي خنقت كل شيء وجعلت من المواطن والوطن مرتعاً لتجار الدجل السياسي وللوصوليين والانتهازيين.