الحرب وتصدعات المجتمع الإسرائيلي.. رؤية تحليلية

محاولة اليمين الإسرائيلي تغيير هوية وقيم وأعراف وتوازنات النظام السياسي الإسرائيلي لا بد من أن ترافقها صدامات مجتمعية حادة، شاهدنا فصولاً منها في أزمة الثورة القضائية قبل حرب غزة.

2024-09-14

ظنَّ البعض أنَّ عملية طوفان الأقصى كتهديد خارجي غير مسبوق وما تلاها من حرب غزة ستمكّن “إسرائيل” من رأب الصدوع المجتمعية والأيديولوجية فيها، وبدأ الإعلام الإسرائيلي بإبراز الخلافات المجتمعية الإسرائيلية بسطحية مقصودة وإظهارها على أنها مجرد خلاف حول شخصية رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وأن هذه الخلافات ستنتهي في حال غيابه عن الحكم لأي سبب كان.

 

هذا التحليل السطحي لا يتوافق مع الدراسة الموضوعية لحقيقة وجذور الخلافات داخل “إسرائيل”. الحقيقة أن المجتمع الإسرائيلي ما زال يعاني الشروخ المجتمعية والسياسية والأيديولوجية، في ظل قيادة إسرائيلية تعتبر جزءاً من تكريس تلك الأزمة المجتمعية، ناهيك بفقدان الجمهور الإسرائيلي الثقة بمؤسسات الدولة وقدرتها على القيام بدورها لمصلحة الجمهور عامة.

 

محاولة تغيير اليمين الإسرائيلي هوية وقيم وأعراف وتوازنات النظام السياسي الإسرائيلي لا بد من أن ترافقها صدامات مجتمعية حادة، شاهدنا فصولاً منها في أزمة الثورة القضائية قبل حرب غزة، والتي ما زالت تطل برأسها من جديد حتى بعد 11 شهراً من الحرب المستمرة.

 

أضافت حرب غزة مزيداً من الزيت على الخلافات المجتمعية الإسرائيلية، ورفعت وتيرة الحساسية بين المركبات والقطاعات المجتمعية على تعريف القيم الصهيونية العليا بشكل غير مسبوق، وأكبر مثال على ذلك قضية تحرير الأسرى لدى المقاومة الفلسطينية في غزة، فاليمين الإسرائيلي، وخصوصاً الصهيونية الدينية، ترفض اعتبار حياة الإنسان الصهيوني القيمة العليا في سلم أولويات الدولة والحكومة والمجتمع، بل تعتبر الاستيطان والقوة أهم تلك القيم، وأن الإنسان الصهيوني ما هو إلا وسيلة وأداة لتحقيق تلك القيم ويجوز التضحية به من أجلها. هذا الأمر انعكس سياسياً بين مؤيد للصفقة بأي ثمن ورافض لها بأي شكل.

 

لم تقتصر الانكسارات المجتمعية الإسرائيلية على القضايا الأيديولوجية والقيمية، بل تخطتها إلى الانقسامات الجغرافية على أساس الأمن، وليس على أساس الاقتصاد فقط، فباتت مطالب سكان الشمال بأن يتساووا بسكان “تل أبيب” ومنطقة غوش دان. ليست المساواة هنا اقتصادية وتنموية فقط، بل أيضاً بالقيمة والأهمية الأمنية وتوزيع الموارد الأمنية.

 

هنا، من المهمّ قراءة طبيعة الرد العسكري الإسرائيلي على حادثين حصلا في جغرافيتين مختلفتين في “إسرائيل”، الأول هو ضرب المسيرة اليمنية إحدى بنايات منطقة “تل أبيب”، وكيف خرجت الطائرات الإسرائيلية لتضرب مطار الحديدية اليمنية بسرعة قصوى، والآخر هو قصف مسيرة حزب الله بناية في مدينة نهاريا، وكيف كان رد الفعل الاسرائيلي باهتاً، فرغم وجود فروقات موضوعية بين اليمن ولبنان، فإنَّ المستوطن في الشمال شعر بأنه مواطن درجة ثانية من ناحية الأهمية الأمنية. وما كرس ذلك الشعور هو عدم تمكن الحكومة ولا الجيش من تحديد جدول زمني لعودة أكر من 60 ألف نازح إسرائيلي من المناطق الشمالية القريبة من الحدود الشمالية بعمق لا يقل عن 14 كم، ويزداد العدد مع إدخال حزب الله مستوطنات ومدناً جديدة في مرمى نيرانه.

 

فجّرت حرب غزة، الحرب الأطول في تاريخ “إسرائيل”، قضية مركزية ذات تأثير اجتماعي خطير في المجتمع الإسرائيلي، فقضية تجنيد الحريديم للخدمة في “الجيش” الإسرائيلي، رغم أن أساساتها دينية بحتة، إلا أن حاجة “الجيش” إلى تجنيد أكثر من 350 ألف جندي احتياط للمجهود القتالي والحربي لفترة تخطت ستة أشهر متتالية، ومن ثم تسريح البعض مع بقاء أعداد كبيرة من الاحتياط ما زالت تشارك في القتال، وخصوصاً مع زيادة وتيرة الاستنزاف في جبهات المساندة، إضافة إلى تحول جبهة الضفة الغربية إلى جبهة حرب وما يتطلبه ذلك من توفير موارد بشرية لتغطية كل تلك المتطلبات العسكرية للجيش الإسرائيلي الذي بات يعلن عن أزمة حقيقية في توفير العنصر البشري له، ومع ازدياد حالة الاستنزاف لجنود الاحتياط طوال فترة الحرب على الصعد كافة، وخصوصاً التضحوية والاقتصادية، باتت تلك الفئة تنادي بشعار المساواة في تحمل العبء الوطني، وتطالب بتجنيد الحريديم في الجيش، الذي يمثلون تقريباً 20% من المجتمع الإسرائيلي، الأمر الذي يرفضه الحريديم من منطلقات دينية صارمة. وكلما طال عمر الحرب وازدادت متطلباتها العسكرية والاقتصادية ازدادت تلك الأزمة العميقة التي ستزيد من الشرخ الديني (الحريدي) العلماني داخل المجتمع الإسرائيلي.

 

صعود تيار الصهيونية الدينية كلاعب رئيس في الحلبة السياسية الإسرائيلية وأحد مركبات ائتلاف نتنياهو الحكومي المركزية، وإطلاق يده للتحكّم في الضفة الغربية والقدس، عبر الوزيرين بتسلئيل سيموتريتش وإيتمار بن غفير، بات تكريس الانقسام أكثر حداثة داخل المجتمع الإسرائيلي بين “دولة” المستوطنين في داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 و”دولة إسرائيل” داخل الأراضي المحتلة عام 1948، بما يواكب ذلك من تنافس شرس من قبل دولة المستوطنين على ابتزاز الموازانات والموارد المالية لتدعيم مشاريعها الاستيطانية، وتزداد الأمور تعقيداً مع التغييرات الجوهرية في طبيعة السيادة العسكرية على الضفة الغربية التي تحاول” دولة” المستوطنين تشكيل قوة عسكرية موازية للجيش الإسرائيلي فيها، وتحويل السيادة الفعلية لجيش دولة المستوطنين المشكل من تحالف المنظمات الإرهابية الصهيونية، أمثال جماعة شبيبة التلال مع وحدات حرس الحدود والشرطة تحت قيادة بن غفير مع بعض قطاعات “الجيش”، وخصوصاً لواء “نيتسح يهودا”.

 

أثارت قضية “اليوم التالي للحرب” خلافاً عميقاً على مستقبل “إسرائيل” داخل مؤسسات صنّاع القرار الإسرائيلي، فالتيار اليميني الفاشي الديني المسيحاني ينطلق من غطرسة القوة وشعارات الأيديولوجيا ضارباً عرض الحائط حتى بمصالح داعمته الأساسية الولايات المتحدة الأميركية، في مواجهة تيار أكثر عقلانية وموضوعية في تقييم الأزمة الإسرائيلية في المستقبل كدولة ومجتمع لا يمكنها العيش على أسنّة رماحه على مدار الوقت، وأن “إسرائيل” الممزقة من الداخل بالصدوع والشروخ المجتمعية، مهما استخدمت من قوة بربرية، لن تستطيع إنهاء الشعب الفلسطيني وهزيمته، بل إن المزيد من الحروب ما هو سوى استنزاف دائم لن تتحمّله الجبهة الداخلية المجتمعية. لذلك، لا بد من إيجاد حلول لأزمتها الوجودية بعيداً عن حلول غطرسة القوة.

 

المصدر: حسن لافي/ الميادين