قراءة نقدية.. أدب المقاومة في تونس

“التوت المرّ”.. رواية الذاكرة الوطنية وعودة الوعي التونسي

رصدت الرواية تشكيل الوعي الوطني والمقاومة إبان فترة الاحتلال الفرنسي، كما أظهرت الدور الوطني الريادي لشعب تونس في مقاومة الاحتلال.

2024-09-15

 

حاتم عبدالهادى السيد

ناقد مصري

تحيلنا رواية “التوت المرّ”، للروائي التونسي محمد العروسي المطوي إلى حقبة الاستعمار الفرنسي لتونس، حيث غياب الوعي والذاكرة الوطنية، من خلال محاولة الاستعمار السيطرة على عقول الشعوب بتدمير طاقات الشباب والفتيان، بل والمجتمع، لتمرير سياسات الاستعمار الغاشمة.

ورواية “التوت المرّ”، تبقى شاهداً على تلك الحقبة المأزومة من تاريخ الشعب التونسي المناضل نحو التحرر من ربقة الفرنسيين. وتدور أحداث الرواية في قرية “الغنّوش”، وهي إحدى قرى الجنوب التونسي، حيث فاطمة، ومبروكة، وعائشة – المقعدة على كرسي متحرك – تعيش مع والدها الشيخ مفتاح الطرابلسي – الذي كان يتعامل سراً مع الجنادرمة من قوات الاحتلال الفرنسي آنذاك – والأم ذات القلب الكبير، المتمسكة بالتقاليد والعادات التونسية الصارمة، وعبدالله بطل الرواية الذي يكره التكروري – الحشيش – وشرب الخمر، وإبراهيم وأصدقائه، وعلى بن مسعود ضيف الأسرة، السيد عبدالرزاق، خديجة، أحمد العائب، محمود، وإبراهيم، ومختار، وعبدالله، والسيد الحمروني، ومسعودة، ومبروكة، وصالح، عبدالقادر، خميس، حميدة وغيرهم، من الشخصيات الداعمة لمسيرة الأحداث، وأغلبهم وإن كانوا “شخصيات ثانوية”، إلا أنها كانت فاعلة بامتياز في تسيير الأحداث بقوة، ورسم الصورة الإجتماعية للشعب التونسي الذي نجح الاستعمار – كما تصوّر واهماً – في تغييب الوعي الوطني والعام لديهم، من خلال نشر شرب التكروري – الحشيشة – بصورة كبيرة، وبأسعار زهيدة، الأمر الذي من شأنه تغييب عقولهم ووعيهم، وكسر إرادتهم الوطنية الحرّة، واستعمارهم اجتماعياً وفكرياً وثقافياً من خلال نشر تعاطي هذا المشروب الذي يذهب العقل، من خلال البكبوك، أو ما يطلق عليه “السبسي”.

كما رصدت الرواية تشكيل الوعي الوطني والمقاومة إبان فترة الاحتلال الفرنسي، كما أظهرت الدور الوطني الريادي لشعب تونس في مقاومة الاحتلال لقد نجح الكاتب محمد العروسي المطوي في وصف تشابكات الأحداث من خلال وصفه لقرية “غنّوش” تلك القرية الرابضة في جنوب قابس، جنوب تونس، والتي تمثل شريحة مجتمعية مغيّبة آنذاك – كبقية الشعب التونسي، والليبي، والمصري بل والعربي من جراء الاستعمار بعد الحربين العالميتين: الأولى والثانية، وتقسيم البلاد العربية واستعمارها من خلال سياسة عالمية خبيثة لنشر الحشيش من قبل الإستعمار – لتغييب الوعي لدى الشباب، وكسر إرادتهم وعدم اكتراثهم بالقضايا المجتمعية أو بأي شيء سوى اللهاث لشرب الحشيش والتلهي عن الدنيا والانصراف حتى عن الزواج، وهو الأمر – أو أحد الأدوات الاستعمارية – التي تمكّن الاستعمار من السيطرة على مقاليد الحكم لدى الشعوب العربية آنذاك.

ورغم كل تحدّيات الاستعمار في تغييب إرادة الوعي لدى الشباب، ورغم تجنيد بعض الطامعين الخونة ضد أوطانهم، من أجل المال – كشخصية الشيخ مفتاح – أو الذين يبيعون الوطن ببيعهم الحشيش آنذاك، فقد انتفض الشباب ضد المحتل، أو كما صوّرهم المطوي هنا – بالرجال الأبطال الذين أسسوا “جمعية لإنقاذ الشباب”، وكان الغرض منها: “القضاء على شرب الحشيش، أي عودة الوعي للذاكرة الوطنية، فالجمعية تمثّل الإرادة الشعبية، والحشيش هو الاستعمار، وقطع الشجرة التي تنبت هذه الحشيشة، هو رمز لاجتثاث جذور الاستعمار من الأرض، وتطهيرها بانتفاضة المخمورين والحشاشين الذين استيقظوا وعادت إليهم الذاكرة الوطنية الشجاعة للذود والدفاع عن الوطن، من خلال الشباب، والشعب بكل طوائفه، الذي غيبه الاستعمار بالمسكنات والوعود من جهة، وبالقهر والاستبداد والقتل والقمع والتشريد من جهة أخرى، وبنشر الحشيش كثقافة راديكالية لكسر الإرادة الوطنية.

ومن هنا كانت الجمعية هي الرمز الوطني الكبير للإرادة المجتمعية، للنهوض بالمجتمع لطرد الاستعمار، ولعمري فإن موضوع الرواية هنا يذكرني برواية: “عودة الوعي” لتوفيق الحكيم، وبرواية “الحشاشين” لنجيب محفوظ، وروايات المقاومة الشعبية لكبار الروائيين المصريين والعرب آنذاك، وغيرها من الأعمال التي أبرزت مقاومة الشعوب للاستعمار، ومن هنا جاءت الأهمية التاريخية لرواية “التوت المرّ”، للمطوي – آنذاك – لأنها رواية مقاومة، رواية لإيقاظ الوعي، لرفض الإستعمار، لإجتثاث الفتنة من خلال التأكيد على الثوايت والقيم الوطنية، فها هو إبراهيم يكتشف أن والده يتعامل مع رجال الجندرمة الفرنسيين ضد أبناء وطنه وأهله، وهو الذي يشي بهم ويخبر عن الكثير منهم من أجل حفنة دولارات، أو من أجل مال زهيد رخيص، بالمقارنة بمن يدفعون أرواحهم ليموتوا لتحيا الأوطان، فنرى إبراهيم يحرق محل الحشيش الخاص بوالده، وكان قبل ذلك قد اجتث بمساعدة الأصدقاء من جمعية إنقاذ الشباب شجرة الحشيش المزروعة في معسكرات الفرنسيين، تلك الشجرة الخبيثة للتكروري، وفي حرق إبراهيم لمحل الحشيش لوالده رمزية كبيرة: ربما ليطهّر الوالد من ربقة الخيانة ، وربما ليثنيه عن السير في ذلك الطريق الآثم ، وربما ليقرر حقيقة بأن الخيانة عليه أن يتبرأ منها، وهنا تظهر قوة الوطنية للأبناء للانتقام حتى من آبائهم الخونة – وهم قلة – فالوطن أقوى من رابطة الدم والأبوة، وإرادة الشعوب لا تُقهر، وذاكرتها لا يمكن أن تغيّب، مهما حاول الاستعمار ذلك، ولنلاحظ كذلك دور المرأة – الشاعرة – التي كتبت القصيدة العتيقة – في نبذ الحشيشة، ودعوة الشباب لعدم شرب التكروري، وهي القصيدة التي انتشرت في أرجاء القرية، وفي كل القرى المجاورة، لتبرز دور الثقافة، والتعليم في مناهضة الاستعمار، ولو بالقلم، قبل السلاح، لتعبئة الإرادة الوطنية، قبل النهوض بالثورة الكبرى لهزيمة وكسر الطاغوت الاستعماري الفرنسي الغاشم.

رواية مقاومة لقد نجح الكاتب التونسي محمد العروسي المطوي في استخدام دراما السرد في وصف الأحداث، وعن طريق لغة الحوار، والتصوير الشيق المتنامي للأحداث، وكسر الإيهام بالجمل الحوارية للشخوص، ثم الانتقال البديع عبر اللغة السردية البسيطة والعميقة في آن، في وصف الحالة التونسية آنذاك، كما استطاع أن يصور لنا بعض عادات المجتمع التونسي وتقاليده، من خلال استدعاء لغة السرد المحليّة، لتضمينه السياقات النصية جملاً ومعانيَ ومفردات تونسيّة صرفة، إلى جانب وصفه حتى لأكلات شعبية مثل “الكسكس” وغيرها، إلى جانب تضفيره لغة السرد ببعض الأغان الشعبية التونسية، بلهجتها المحلية، الغاية في الإشراق، والتي تتنامى مع نسيج السرد المتدافع والمنساب بمهارة وجمالية متناغمة.

كما تصف الرواية – باقتضاب – نضال “الشعب الليبي”، ضد الطليان – الإستعمار الإيطالي – وتظهر المقاومة الشعبية هناك من خلال سرد العجائز للأطفال حكايات اشتراكهم في المقاومة ضد الغزاة الايطاليين لمساعدة ليبيا، باعتبار الأوطان العربية غاية كبرى، يجمعها نسيج واحد، ووطن عربي كبير مشترك، لا بد أن ندافع عنه من منطلق وطني، وعروبي، وقومي أيضاً.

كما تأتى النهاية الإنسانية المؤثرة والسامقة والتي تكشف عن طبيعة المجتمع التونسي، الإنسانية، النبيلة، لذلك الشعب العريق، متمثلاً في تضحية عبدالله بالزواج من عائشة التي لا تستطيع المشي (كسيحة) ومع أن المجتمع المتمثل في أهل القرية ووالديه سيرفض تلك الزيجة نظراً للقيم والاعتبارات القبيلية وشرطية التكافؤ في الزواج، إلا أن عبدالله هنا قد أصرّ على أن يظهر الجانب الإنسانى الجميل، من قبل الشباب – وليس من العجائز – وكأنه أراد أن يبشر بميلاد جيل جديد من الشباب، يعلق عليهم الأمل لاستعادة البلاد وجهها الناضر الجميل، ورتق وجه الوطن الذى حاول الاستعمار تشويهه ومحوه، وهم الحلم والأمل الجديد لتونس الخضراء، أولئك الذين سيكتبون تاريخاً جديداً لمنطقة الشمال الأفريقى في تونس والجزائر والمغرب العربى كذلك، وفى الوطن العربى الإسلامى أيضاً.

ستظل رواية “التوت المر” للتونسى محمد العروسى المطوى شاهدة على حقبة تاريخية معاصرة من تاريخ تونس المجيد ومقاومتها للاستعمار الفرنسى الغاشم المستبدّ العنيد.

إن هذه الرواية قد رصدت تشكيل الوعي الوطنى والمقاومة إبان فترة الاحتلال الفرنسي، كما أظهرت الدور الوطني الريادي لشعب تونس في مقاومة الاحتلال، من خلال استلهامات الدور الوطني الكبير للثورات العربية الكبرى آنذاك، كما تؤكد على استمرارية قيم: “الحب، و”العطف”، و”المقاومة” و”النضال”، و”الحرية”، تجاه سلطة القرية وتقاليدها، والتى تمثلت في زواج عبدالله من عائشة الكسيحة، لتنتصر الارادة والإصرار، على قسوة القيم الاجتماعية المقيتة، لتنتج لنا معادلة الحب والثورة، وإرادة الفرد، وقوة الجماعة في الدفاع عن المقدرات الوطنية، ودحر الاستعمار الفرنسي الغاشم.

سيظل الإبداع الوطني والثقافي ملهماً، وستظل الرواية ذاكرة للشعوب في رصد التحولات الكبرى لمسيرة النضال الوطني للتحرر من الاستعمار الغاشم، لترتفع أعلام الحق والخير والنور والحرية مرفرفة فوق سماء وطننا العربي الإسلامي الكبير .

—————————–
* محمد العروسي المطوي، روائي تونسي (1920- 2005) درس القانون وعمل في مقاومة المحتل الفرنسي، واشتغل بالتدريس، وعيّن بعد استقلال تونس عام 1956 في السلك الدبلوماسي، كأول سفير لتونس في العراق، ثم مصر، السعودية، وانتخب عام 1964 نائباً في البرلمان التونسي، وكان أن أصدر عدة روايات منها: “زمن الضحايا 1956، رواية “حليمة” 1964، “طريق المعصرة” – قصص – 1981، ورواية “رجع الصدى” 1991، رواية “التوت المر” 1967، وهي من أهم أعماله، كما نشر العديد من المقالات والدراسات والتحقيقات التاريخية والسياسية والاجتماعية.

 

 

المصدر: الوفاق